الكتابة بسكين اللغة
يواصل الشاعر العراقي كاظم خنجر كتابة الشعر بسكين اللغة وكأن الحياة تحولت إلى لعبة لا تنتهي مع الموت، في البيت كما في الشارع والمدرسة، أو مع حكاية حب تنتهي بدم قبل أن تبدأ. لا يكتب الشاعر شهادة عن الموت بل يحاول أن يعيشه بوصفه عملا شاقا وأليفا من أعمال الحياة التي لا تتوقف عن استكمال فصول سرديتها المفتوحة على جحيم العراق المقيم. على الرغم من كل هذا الموت والخراب ثمة نبرة خافتة تنطوي على سخرية مرة ومفارقة موجعة في آن معا تحفل بها قصائد ديوانه الجديد “نتقاتل للتسلية” وتؤسس لها بنية العنوان اللغوية والدلالية عبر ما تنطوي عليه من مفارقة دلالية ستلعب دورا أساسيا في خلق أفق التوقع وتوجيه القراءة عند المتلقي منذ البداية.
يلعب السرد في قصائد الديوان دورا أساسيا في البنية التكوينية لمشهدية الموت التي غالبا ما تتركز بؤرتها السردية في أشياء دالة وموحية ينتزعها من الواقع المحطّم مثل كرسيّ العجزة وماكينة الخياطة والخشب، والأشرطة الخضراء والأسماك والدجاجة والدراجة. يتخذ الشاعر من هذه العناصر الدالة نقطة ارتكاز في بناء مشهده الشعري الذي يعمل على شحنه بطاقة تعبيرية ذات بعد درامي مكثف وسريع، يسهم عنصر المفارقة الذي يوظفه الشاعر بنجاح في تحقيق الصدمة للقارئ نظرا لما تنطوي عليه من تجسيد حي لعبثية الواقع ولا معقوليته وفداحة ما يحدث فيه. لذلك لا يمكن قراءة نصوص هذا الديوان بمعزل عن شعرية العنوان الرئيس وعلاقة الإحالة المتبادلة بين العنوان وقصائد الديوان.
تتوزّع القصائد التي تتميز بكثافتها اللغوية الكبيرة على نوعين من القصائد حمل بعضها عناوين دالة بينما جاء بعضها الآخر على شكل متوالية رقمية. تميزت القصائد الثانية التي جاءت على شكل ومضات شعرية سريعة ببنائها المحكم واستبدال العنونة الكتابية بالعنونة الرقمية الدالة على الكمّ للدلالة وكأنه يستعيد البعد الغائب في علاقة الإنسان الحسية بالأشياء التي يتعايش معها إضافة إلى المفارقة التي أصبح يحكم حياتنا وعلاقتنا بالموت والطبيعة والكائنات الأخرى باعتبارها تنطوي على الجانب الدرامي الموجع والحزين في هذه العلاقة التي تتكثّف صورها ودلالاتها الموحية القاسية:
لم نأكل الدجاجة التي تربّت معنا في البيت
وحتى عندما جلسنا حولها رمينا لها الخبز
وحده الأعمى يدرك/بأن العيون مقاعد فارغة للبكاء.
يواصل كاظم جلد القارئ بصوره المفزعة لأنه يريد للمأساة العراقية أن تستحضر بعدها التراجيدي المرعب ولذلك فهو يستدرج القارئ إلى هناك لكي يتعرّف إلى أشكال الموت المروّعة وأنواع الألم بكلّ قسوته عندما تتحول الحياة إلى حبل غسيل يعلقون عليه جثث موتاهم وأوجاعهم التي لا تنتهي، ما يجعل الكتابة محاولة لاختزال كل هذا الموت والعبور به محمولا على لغة التخييل ومجازها إلى أفق آخر من الكتابة تغلق على القارئ مشهدها الدامي كما يغلق الموت أبوابه على مصائر ضحاياه التي تتناسل في حكاية الموت العراقي الطويلة:
خرجت الطفلة من البيت/قالت لأمها: سألعب في الشارع
لسنوات في الشارع يلعبان/يركض أحدهما خلف الآخر
تأخذ الطفلة الموت/ ويأخذ الموت الطفلة/ عند الليل
بسعادة يعود كل منهما بالآخر إلى أمه.
تستثمر لغة الشاعر مجاز اللغة في مشهديات الموت اليومي عبر استخدام التشخيص والتجسيد بغية تحويل الأشياء إلى عناصر فاعلة ومؤثّرة في تكوين المشهد الشعري بغية توسيع أفق الدلالة وإغنائه بالشكل الذي تستطيع فيه اللغة التعبير عن الأبعاد الدرامية الموجعة التجربة الإنسانية العراقية في سياقها المفتوح على جميع أشكال الألم والخسارات والقتل المجاني.
إن هذه الرؤية التراجيدية الجارحة والحزينة وما تنطوي عليه من مفارقات ممزوجة غالبا بحسّ ساخر أكثر إيلاما لا تحاول أن تستعرض بلاغتها بل تترك لهذه المأساة الفادحة أن ترفد المشهدية الشعرية ببلاغتها المفتوحة على جميع أنواع الألم الطاغية. تتناسل الصور داخل المشهد السردي حيث تدفع بها مخيلة الشاعر نحو نهاياتها الأكثر تعبيرا دراميا عن مأساوية الشرط الإنساني وعدميته القاتلة:
تذكرت أشرطة أمي الخضراء/المعقودة على ذراعيك المختنقتين أيها الكرسي
أي الجائعة التي لا تملك سوى الدمع/ تأكله ويأكلها
اليوم وحدي بلا أم ولا أخت/ أضع سنواتي على الكرسي المدولب
وأدفعه أمام باب البيت/مدركا أن الرياح العالية
تدفع الغبار باتجاه واحد.
تتوزع قصائد الديوان التي تتميز عموما بكثافتها المركزة على نوعين من القصائد، وتتميز القصائد الأولى منها بطولها النسبي، في حين جاءت القصائد الأخرى على شكل ومضات شعرية بالغة التكثيف في بنيتها اللغوية، لكنها الأكثر دلالة وتكثيفا لمأساوية الواقع العراقي وغالبا ما يتم التعبير عنها بلغة ساخرة أكثر إيلاما:
* المفخخات التي لا تنفجر في يومها/باردة ويابسة
كالطعام البائت.
* أنا في العراق/ مجرد شرطي مرور/ينظم سير السكاكين على جسده.
تتخفف هذه اللغة كثيرا من بلاغتها وتذهب كالطلقة مباشرة إلى هدفها لكنه في قصائده الأكثر طولا نسبيا يعيد بناء المشهد الذي يأتي على شكل لقطات ينهض فيه المكان بدور أساس في بناء المشهد إضافة إلى استخدام التجسيد الذي يسهم في تقديم التجربة بصورة محسوسة، وغالبا ما ينطوي المشهد على حركة تنمو من داخله وتتّجه من الماضي إلى الآن لتجسيد البعد الدرامي الحزين في مصائر شخصياته التي تحمل القصائد أسماء ضحاياها الذين أعدمهم الإرهاب أو مزقت أجسادهم المفخخات وأسلحة القتل المختلفة. لا يكتب الشاعر قصائد رثاء بل يحاول أن يستعيدها من هذه المصائر المأساوية لكي تستكمل معه حياتها المستلبة. إنها الكتابة المضادّة للموت في واقع محكوم بسلطة الموت والإرهاب والعدم:
براحتين من دموع تلطم أمك أمام البوستر على وجهها
في كل يوم/وفي كل يوم
أسحب البوستر من يده/معي إلى المدرسة.