ماض أقرب من اللازم
لا أعرف إن كان مثقفنا العربي، ابن اليوم، محظوظا أم منكوبا. كإنسان عادي من ضمن بشر يعيشون الضربات المتلاحقة الاقتصادية والسياسية ومؤخرا الصحية، يبدو مثله مثل غيره أقرب إلى النكبة منه إلى الحظ. حيثما التفت يرى مضيقا خانقا فيه الكثير من العثرات ولا يكاد يميز الطريق فيه من شدة الظلام أو انعدام الضوء في نهاية النفق. الأزمات الاقتصادية تتزايد. الاختناقات السياسية أضافت السلفية الدينية لدكتاتوريات قديمة ومستحدثة. ثم جاء فايروس كورونا: حجر نفسي واجتماعي ومخاطر صحية لا أحد يعرف إن كنا سنخرج منها أو من أمثالها في القريب.
لكن المثقف الحقيقي من طينة أخرى. هنا الحديث عن مثقف عربي حقيقي وليس بصمة غربية من الاستعارات والنقل والترجمة التي وسمت أعمال بعض مدعي الثقافة في مشهدنا العربي. أمثال هؤلاء الآن على الرف بعد انتشار الوعي باللغة الإنجليزية وبمساحة التغطية الإضافية عبر الإنترنت. ثم هناك “كارثة” تطاردهم مع تطور ترجمة غوغل الآلية بحكم تقدمها اليومي بعد تبنيها تقنية “التعلم العميق”. تقرأ لك المواضيع بالفرنسية والألمانية والإسبانية بالعربية أفضل من ترجمات لمحترفين. ما يتعثر بالعربية تقرأه بالإنجليزية.
في الثمانينات بدأ تشكلي الشخصي من حيث الوعي بما حولي. كنت أرى الستينات مثلا من فئة “الدهر”: بعيدة زمنيا وماض مرّ. الخمسينات وما قبلها كانت تبدو أثرية. لكن مع تقدم العمر والتجربة، صرت أشاهد الثمانينات بعين الألفية فلا أجد أن عشرين عاما تمر بهذا التباعد الزمني. صحيح أننا شهدنا حروبا وقفزات تقنية مذهلة وصعودا لتيارات سياسية مختلفة وانهيارا لإمبراطوريات عالمية سياسية واقتصادية، لكن كان كل شيء يأخذ وقته. الانهيار السوفييتي مثلا، كان واضحا للعيان منذ مطلع الثمانينات. الولايات المتحدة كانت تقترب من ذروتها. حرب العراق كانت مسألة وقت. الإسلاميون قادمون. مركز الثقل الصناعي والتجاري والمالي يتحرك نحو الشرق الأقصى.
لكن العقد الأخير شيء آخر. بين عامي 2010 – 2020 كأن العالم صار يتحرك على وقع تناوله لمنشطات ستيرويد. الأزمات الاقتصادية تتسارع بشكل كبير. “الربيع العربي” نسف أنظمة ظلت تعتقد أنها راسخة. دول ثرية بالريع النفطي تتصرف بارتباك المفلس. المشروع الوطني البشري في عالمنا العربي تحول إلى مشروع “كيف تلقي بنفسك في البحر المتوسط لتصل إلى أوروبا”. إخوان ثم قاعدة ثم داعش. إيران في كل مكان. اختفت جرأة السياسيين وحل محلها استرضاء للشبكات الاجتماعية وما يدور فيها من قال وقيل، في الغرب كما في عالمنا. كل واحد منا لديه قائمة العد الخاصة به لما يرصده من تغيرات كبرى وصغرى.
الماضي مرتبط بفكرنا مع التغيير. ولا فلسفة بالأمر حين نعيد التذكير بأنه ماض لأنه “بعيد” أو “بعيد نسبيا”. لكن العقد الماضي أنتج ماضيا جديدا من نوع آخر. اجلس الآن وأنت على أبواب العقد الجديد والتفت إلى العقد الماضي وستجد أن التغيير كان مذهلا. الماضي قريب جدا. الماضي بيننا تقريبا لأننا نحس بالتغييرات كل يوم. اسأل أيّ شخص تعرفه، سيقول لك إن الشهر الماضي كان مختلفا. تم نسف منظومات عاشت معنا لعقود، بل بعضها لقرون، بسبب طبيعة التغيرات. خذ مثلا المكاتب في المدن. الناس تعودت على العمل من بيوتها. الإنترنت وتقنيات حماية الاتصالات وتشفيرها الغت الفارق. حدث هذا قبل كوفيد – 19، لكنه تسارع جدا الآن. التسوق اليومي، التسوق الشخصي من ملابس وحاجيات. العمل ضمن مقاييس واضحة مثل مقياس البنطلون ولونه والقدرة على إرجاعه بالبريد السريع. فكرة التوفير لدى الشركات. تقبل الموظفين العمل بطريقة جماعية عن طريق التطبيقات مثل سكايب وزووم. تقليل الاعتماد على النقل والتنقل البعيد والقريب. المجيء بترامب وشعبوية السياسة وإرجاعهما إلى حيث ينتميان بعد أن أحدثا الهزة المطلوبة لدى السياسيين الكلاسيكيين. بريكست مع تجربة 48 ساعة قطيعة أوروبية مع بريطانيا بحجة كوفيد – 19 ساعدت في تهذيب سلوك بوريس جونسون ومعرفته ماذا ينتظر بلده وقبوله بحلول أقل من الوسط. نولد حاضرا كله يصبح ماضيا بأثر فوري. تنام وتصبح على ثورة تغيير، في كل أنحاء العالم، ولكن أيضا في عالمنا الذي اعتاد الهزات السياسية ولكنه متمترّس اجتماعيا ونفسيا. تغير الآن كل شيء، وبسرعة.
على مثل هذه الخلفيات يأتي دور المثقف الحقيقي. هذا مادة خام تحتاج الاشتغال عليها، ومواكبتها. كتبنا كثيرا عن الإسلام السياسي و”الربيع العربي”. حان الأوان أن نكتب عن ماضينا القريب. ربما التوصيف الأدق هو ماضي الحاضر، أو الحاضر الماضي. سنترك لشخص أكفأ باللغة اختيار المفردة المناسبة. لكن نحن في أشد الحاجة إلى أن يواكب الفكر والثقافة ما يحدث اليوم وأن يخرج باستنتاج أعمق من أن تكون انطباعية بسيطة أو في بعض الأحيان ساذجة. هذه فرصة حقيقة للمثقفين ليست لديهم أيّ أسباب كي يضيعونها.