الشخصية الروائية دهشة العادي وغرابة المألوف
يصعب النظر إلى الشخصية (الشخصيات) الروائية بمعزل عن المنظور الروائي، ومضمون العمل، ومؤشراته. وهو ما يمكن للدارس أو القارئ عموماً أن يستشفه لدى استذكار روايات اطّلع عليها وأعجُب بها. فالشخصية مهما كانت فاتنةً أو مميزةً أو غريبة الأطوار فإن حياتها، او حضورها مستمد من نجاعة التصوير، ومن عمق المنظور الروائي، ولا حياة للشخصية ولا أثر لها بعيدا عن المكونات الأخرى للعمل الروائي. مع أنه قد يحدث أحياناً، وفي حالات قليلة، أن تتفوق شخصية ما على مجمل العمل، وهي في هذه الحالة تدور في مدار بعيد عن فلك العمل، وتتخذ لها حياةً مستقلةً منفصلةً، وقد يسترجعها القارئ وينسى العمل.
يطيب لي تصور أن الروائي يختار شخصيته انطلاقاً من نماذج إنسانية خبرها وعاينها بصورة من الصور. لا بد أن تشبه الشخصية شخصاً ما ذا وجود في الحياة الواقعية للكاتب، لكن التأثرات في هذا المجال واسعة، فقد يكون الكاتب قد سمع بها مجرد سماع من آخرين، وقد تكون شخصيةً سينمائيةً أو مسرحيةً تركت أثراً غائراً في نفسه، ولعلها تكون شخصيةً تمظهرت له في أحلامه، ومغزى ذلك أن هناك مصادر قد يعيها الكاتب، وقد لا يعيها، ويكون مصدرها ذاكرة غائرة أو عالم اللاوعي.
ويبدأ العمل حين يستدعي الكاتب هذه الشخصية من مقامها المعلوم او المجهول، ثم يأخذ في وضعها في سياق حدثي وتصويري وصراعي معين، وهنا تبدأ في التخلق دراميا وفنيا. ولا يبتعد رسم الشخصية الروائية هنا عن عمل النحات الذي يجسد كياناً بشرياً (في حين يكون رسم الشخصية في القصة القصيرة أقرب إلى عمل الرسام في لوحة البورتريه). على أن الروائي يذهب أبعد من النحات، فالمنحوتة جامدة لا تتحرك، لا تبارح مكانها وإن كانت تبث إيحاءات، وتثير انفعالات، أما الشخصية في الرواية فهي تتحرك، وتنمو وتتغير وتحمل القارئ على التفاعل معها، إلى درجة يخال معها أن للشخصية حضورين متجاورين متضافرين أحدهما في المخيلة، والثاني في الواقع الفني الذي يتم تخليقه، والذي يمثل كياناً موازياً، أو رديفاً للحياة الواقعية. ومن هنا تستمد الشخصية سحرهاـ وتستولي على وجدان القارئ ووعيه، وبطبيعة الحال جنبا الى جنب مع السرد الدقيق والموحي، والوصف البارع، والحوار الحي، ومعالم الصراع او الأزمة التي تحمل قدراً من الإقناع لدى القارئ.
وبما أن العمل الروائي لا يقوم على شخصية واحدة إلا في ما ندر مثل رواية “العجوز والبحر” لأرنست همنغواي، و”المسخ” لكافكا، و”الحارس في حقل الشوفان” لسالينجر (خلافاً للقصة القصيرة التي تحتمل ذلك)، فإنه يكفي أن يقبض الكاتب على شخصيته او بطله الرئيس حتى يستدعي هذا البطل أو يجتذب (كالمغناطيس!) عدداً من الشخوص في المحيط البشري. يقبض على البطل الرئيس بمزيج من المواءمة بين الواقع والافتراض والتخييل، فالروائي لا يعيد اختراع البشر، بل يختار نماذجه من البشر الذين يعرفهم أياً كان مستوى هذه المعرفة، ويضعهم في أزمات، أو اشكاليات، أو سلسلة مفارقات تبدو كما لو أنها جديدة (مع أنها ليست كذلك في الغالب الأعم)، لكن نجاعة التصوير والتأثير تجعل القارئ يستشعر أزمةً ما بعمق وجداني. الجديد هو إذن في طريقة تصوير الأزمة، وفي المنظور المقنع للعمل الذي يثير العقل والعاطفة.
في تجربة متواضعة أعتز بها فإن رواية “من يؤنس السيدة” الصادرة في عام 2009 قامت أساساً على شخصية واحدة هي البطلة المسنة، مع بطل رئيس نظير لها هو السلحفاة (ألاحظ بارتياح أن عدداً من الزملاء الروائيين جعلوا بعدئذ ولاحقاً من هذا الحيوان البرمائي بطلاً روائياً في أعمالهم). وقد تم استدعاء أفراد من عائلة البطلة وجيران لها وجدوا لهم مكاناً في المتن الروائي. غير أن ما قد يبقى هو صورة السيدة القوية وشبه المتوحدة، وصورة أنيستها السلحفاة، يجمعهما الصمت الأنيس. وهذا هو منظور الرواية بكلمات.
في الرواية الثانية لكاتب هذه الكلمات “حلم حقيقي” الصادرة بعد سابقتها بأربعة أعوام، فقد احتاج الأمر من مؤلفها إلى أن يستلهم من شخصه ومن حياته، ومساره المهني في المجال الإعلامي كي يختار بطلاً شاباً في مقتبل العمر يعمل في حقل الصحافة الاستقصائية، وفي بلد آسيوي هو بنغلادش. وكانت كتابة هذا العمل مغامرةً جميلةً لمؤلفها، تستند في بعض مصادرها أو بواعثها الدفينة على معرفة بالعاملين الآسيويين في منطقة الخليج العربي حيث أقام الكاتب ردحاً من الزمن، وبالاستعانة بالإنترنت والمعلومات النصية والمصورة والمسموعة، فضلاً عما تختزنه الذاكرة من مطالعات ومتابعات حول تطورات الأوضاع في ذلك البلد، فقد أمكن رسم عدد من الشخصيات متفاوتة الأعمار، ومن الجنسين، في مواقع مختلفة. شخصيات عايشتها وأحببتها، وتجمعنا بهم مرجعية ثقافية إسلامية، وعسر الحياة في الدول النامية، والانتماء إلى فضاء شرقي بالمعنى الحضاري.
ولا شك أن جدارة العمل الروائي تكمن، في بعض وجوهها، في اكتشاف والتقاط ما هو مُفارق لدى الشخصيات مهما كانت عاديةً، وعلى شبه كبير بشخصيات الحياة الواقعية، إذ هنا
يلتقي في إطار السرد كل من الفن الروائي والقصصي، حيث تتمظهر الشخصية في موقف ما أو أكثر كما لو أنها شخصية غريبة الأطوار، فيما يغلب الطابع المألوف والمعهود عليها. مع فارق ـن الرواية تذهب بعيداً في التفاصيل وفي التصريح، بينما يكتفي الفن القصصي بالتكثيف والتلميح.
وإذ شهدت كتابة الرواية العربية طفرةً في ربع القرن الأخير، وذلك مع زيادة الاهتمام بهذا الفن لدى الناشرين والمترجمين وواضعي الجوائز، فإنه يصعب رصد ما إذا كانت التحولات التي طرأت على المجتمعات العربية قد وجدت لها انعكاساً على هذا الفن، وبالذات على الشخصيات الروائية، إلا في إطار معاينة هذه التأثرات في المدونة الروائية الخاصة بهذا البلد العربي، او ذاك، وذلك لوفرة النتاج الروائي، وشساعته في هذه الحقبة، ثم لسبب آخر يقوم على تحليل خاص للكاتب، وهو أن مضامين العمل ورؤاه تطغى في الرواية العربية على اختيار الشخوص. فالرواية العربية هي مسرح للأفكار والصراعات المصيرية، وليست حتى الآن مسرحاً يتجاور فيه شخوص يتحركون حركة طليقة بغير دور وظيفي وعضوي في العمل. وإن كانت هناك نماذج من هؤلاء في الرواية العربية، مما برع فيه نجيب محفوظ في أعمال روائية جمة منها “المرايا” و”الحرافيش” حيث للشخصية حضور مشع وعريض، ويكاد يكون قائماً بذاته ولذاته، وحيث يتقدم البورتريه الروائي في الأهمية/وفي الإشعاع على رؤى العمل ومؤشراته. والحديث هنا عن شخصيات واقعية، بمعنى أنه يمكن الوقوع على أمثالها في الواقع.
أما الشخصيات التاريخية في الرواية فهي كائنات بشرية حقيقية تنتمي لأزمان غابرة، وسيرتها معروفة بهذا القدر أو ذاك، ويلجأ اليها الكاتب لكي يقيم محاكاة او مضاهاة بين زمن سابق وزمن راهن، وفق مقولة: التاريخ يعيد نفسه (لكن ليس بالضرورة وفق العبارة الكاملة: التاريخ يعيد نفسه مرة بصورة مأساوية، ومرة ثانية بصورة هزلية). وقد استمتعت شخصيا بأعمال أمين معلوف التي تأخذ هذا المنحى وتضيف إليه، وكذلك بأعمال لجمال الغيطاني، غير أني بصفتي قارئا لا أنجذب كثيرا للروايات التاريخية (مع أنني انجذبت إليها في مراهقتي من خلال أعمال جورجي زيدان)، ويعود فتور الانجذاب هذا إلى ما أحتسبه بأن أعمالاً كهذه تقوم على الصنعة ابتداءً، وتستعير نماذج جاهزةً، وللإدراك بأن لا شبه بين زمن حاضر وماضٍ إلا في الشكل، تماما مثلما أن موجات الماء في النهر متشابهة، بيد أنها مختلفة ومتجددة في واقع الأمر. وخلافاً لذلك فقد جذبني استخدام الشخصيات التاريخية في قصص زكريا تامر، وجمال أبوحمدان، إذ أن القصة ذات الجُرم الرشيق تحمل إيماضةً، وتبث شعاعاً يلقى هوىً في النفس، ولا تتنكب لعرض أطروحة فكرية كحال الرواية.