الشخصية الروائية كما أراها
أكثر الهوايات تفضيلاً بالنسبة إليّ هي السير، المشي، التمشاية، ولمن لا يعرفني فأنا مشّاء من الطراز الرفيع، أسير في كل الأوقات وكل التضاريس، منذ أن طلبت أمي مني أن أذهب وآتيها بأخبار عن أحوال الناس والعيد وقد كانت في مرض عابر، وأنا أمارس هواية المشي والملاحظة.
مشيت في أغلب مدن العالم التي حط رحالي بها، وكنت إذا أردت أن أكتشف مجتمعاً ما، فلا مناص لديّ إلا من السير في طرقاته، والتعثر بحفر شوارعه، ولمس أشجاره، ومراقبة طيوره، ومشاهدة أبنيته وعماراته، ولكن الأهم بالنسبة إليّ كان هو التقاطع مع وجوه الناس في الشوارع وعلى الأرصفة والمقاهي والبارات والمعابد والمحطات، مراقبة الناس بالنسبة إليّ هو فعل متعلق بالعمل، وتدوين ملاحظات صغيرة في دفتر الجيب حول أشكال الوجوه وتفاصيلها، وأسماء الشخصيات، وسمات الشعب العامة، فالوجوه الغاضبة في مصر لا تشبه الوجوه الغاضبة في سوريا، والوجوه السعيدة لا تتشابه بين فرنسا وتركيا، أو بين دبي وبيروت وعمّان، أما الضحك فهو مثل بصمة الإبهام تختلف بين كل إنسان وآخر. ومن خلال تاريخ خبرتي الطويلة مع الوجوه والتقاط الشخصيات باتت لديّ القدرة الكبيرة، مثل أيّ محترف في تجميع التحف الأثرية، في التمييز بين تلك الشخصيات التي تصلح كي تكون أبطالاً روائيةً، وتلك الشخصيات التي تعيش على هامش الحدث والفعل، وحتى لو كانت في خضم ذلك الفعل..
إنها مسألة كاريزما، وتجربة حياة تلك التي تمنح شخصيات بعينها القدرة على أن تكون شخصيات روائيةً، لكنها بالطبع لا تدرك هذا الأمر. الشخصيات الروائية موجودة في كل مكان وكل زمان، متناثرة هنا وهناك، تمتلك تاريخاً غريباً يختلف عن غيرها من الشخصيات، وسمات جسمانيةً تتناسق مع ذلك التاريخ الشخصي، وإن اختلف معه فذلك يكون أشد إثارةً وغرابةً وتشويقاً لي لاستكشاف مسببات التناقض بين المروي والمشاهد… مثلاً التقيت مرةً في أحد مقاهي القاهرة سيدةً كانت تجلس على طاولة مقابلة هي وقريبتها، كانت تلفّ رأسها بقماش أسود يلتفّ على رقبتها، وترتدي ثوباً طويلاً يغطي كامل جسدها المتعب من أثار العمر، وتخفي مع ذلك يديها بقفازات سوداء لا يظهر منها إلا رؤوس أصابعها، لكنها مع ذلك كانت تدخن الشيشة، وتتكلم بصوت عال يجتذب أنظار جميع من كان في المقهى، وتصرخ على النادل وتمازحه بطريقة شبه ذكورية..
كانت تلك السيدة مجموعة متناقضات كاملة تتجسد أمامي، ولشخص مثلي مغرم بالتحليل والمراقبة والتفنيد والبحث، كانت نموذجاً لتلك الشخصيات التي أبحث عنها، فلمَ كانت تحيّد جسدها بذلك القدر من الحرص والتفاني، بلباس أسود كامل، وفي ذات الوقت تجلس في مقهى ذكوري الطابع، لا وبل تمارس صفات رجال المقهى في تعاملها مع المكان؟
في تلك التناقضات تكمن الشخصية الروائية التي تفتح للكاتب الباب على مصراعيه في تخييل الشخصية وماضيها، ومسببات سلوكها المتناقض، وحتى في مبالغاتها في الأداء وكأنها كانت تتمرد على الواقع الذي أعلنت قبولها الشكلي له، وخرقها الكامل لقوانينه، فأفرغت الشكل من محتواه لدرجة أنها تهزأ منه وإن بدت تحترمه بالتزامها به…
في هواية المشي تلتقي بأناس كثر، فالشارع مثل منجم قصص، في محطات القطار، في التاكسي والمشافي والطيارات، ستجد الشخصيات الروائية تتناثر في كل مكان، والكاتب الحصيف هو من يصطاد واحدةً من تلك الشخصيات المتمرّدة العنيفة، والكاتب الحقيقي يدرك كم هو صعب اصطياد الشخصية الروائية بشكل جيد وسوقها حيةً إلى طاولة الكتابة، دون أن تفقد جزءاً من هندامها وريشها أو حتى عنجهيتها…
فالشخصية الروائية معتدّة بنفسها وباختلافها، وتمييزها، لا تشبه غيرها أبداً رغم أنها تبدو للوهلة الأولى مندمجةً في محيطها بشكل كامل، تلك هي الشخصيات الأصعب، أما الشخصيات الروائية التي تنتج عن تلاقي الأضداد فهي سهلة وواضحة، رغم جاذبيتها أحياناً، إن كان خالقها فناناً في نحت تفاصيلها، فمثلاً أن تُلقي رجلاً كحولياً في مجتمع متدين، أو أن تضع صبياَ ملتزماً بتعاليم دينية في مجتمع نسائي منفتح.. ذلك التناقض سيخلق حكايةً، وتلك الحكاية ستكون غايةً في الطرافة، لكن ليست تلك هي الشخصية الروائية التي أبحث عنها..
فالشخصية الروائية تحرص على التخفّي، وعلى عدم إظهار نفسها، متحفظة وتمتلك من الخفر ما تملك، حذرة، عنيفة، يقظة، فالشخصية الروائية لا ترغب مطلقاً في روي قصتها، بل ينبغي عليك أن تنتزع حكاياتها منها بهدوء وإقناع، هي تدرك اختلافها، وهي غير مسرورة به، فجميع البشر يرغبون في النهاية في أن يكونوا متماثلين مع غيرهم، البشر العاديون يحبون الذوبان في المجموعة، ويخشون المنابر والأضواء لأنهم مشغولون بحلحلة مشاكلهم وقضاياهم الحياتية الكبيرة…
هذا الالتقاط لا يعني أبداً أن الكاتب يلتقط شخوصه، ويرمي بها في رواياته دون بذل أيّ جهد، بل على العكس، فالعمل الحقيقي يبدأ من ها هنا، من لحظة رمي الشخصيات على طاولة العمل، وتشريحها، وتزويدها بكمّ هائل من الأفكار التي تدور برأس الروائي، لكن على لسان وبسلوكيات وحركات ومنطق تلك الشخصيات التي التقطتها… كتابة الرواية هي فعل يشابه فعل البناء الروتيني اليومي لمنزل كبير، كل يوم نرفع فيه سنتيمترات قليلةً حتى ينتهي، والشخصيات الروائية هي أفكار وهواجس وتهويمات يعيشها الكاتب في وعيه وفي لا وعيه… في عقله الباطن ربما، يحشو بها الشخصيات التي وجدها متناسبةً مع أفكاره، وما يظنه مناسباً كي يقترب من الناس.. ولا يظنّن أحد أبداً أنه هنالك شخصيات في أيّ رواية في العالم هي ليست شخصيات كان قد رآها مسبقاً كاتبها في مكان ما، حتى في روايات الواقعية السحرية والخيال العلمي والتاريخ المختلق، الكاتب خالق ولكل خالق أدواته، وتلك هي أدواتنا… يمكنك أن ترفع صروحاً من خيال، لكن دون حجر أساس واقعي، تلتقطه من مكان ما حولك، فذلك مستحيل..
فبعد أن تلتقط الشخصية تبدأ بنزع لحائها عنها كما يفعل النحات عن غصن شجرة وجده في الغابة، تقشرها كما البرتقالة بحثاً عن حقيقتها، لا تفعل شيئاً، فقط احذف الزوائد منها، الزيادات مضرة لها، كثرة الثرثرة والتشوهات قد تشوّش القارئ وهو يبحث عن تماثل ما مع الشخصية التي يقرأها، لذلك اجعل ضرباتك حذرةً وحساسةً في جسد الشخصية، وستجد في النهاية توهج روحها يضيء أمامك، إنها أمامنا جميعاً، لكن يجب علينا أن نبحث بشكل جيد عنها، ونحتها بشكل هادئ كي تصبح مرآةً لقارئ ما.. في مكان ما من هذا العالم المتشابه إنسانياً.