الشخصيات هي الروائي نفسه مجزّأً موزّعاً ومشتتاً
إنه لأمر مغر ومثير، ولكن مربك أيضا، أن تروح تستدعي أكوانا من عالمك التخييلي زرعت فيها حيوات، لتعيد الحديث عنها. ليس لمحاورتها، كما كنت تفعل، أو لتكليفها أو تقويلها أو تحميلها ما لا تستطيع أنت في حياتك الواقعية أن تفعله مع شخص حي لحما ودما.
وها أنت، مثل رب صغير، تستعبدها، مرة أخرى، فتجرها إليك من مستنقع نسيانك.
وها أنت تعتقد أنك لم تفك الرباط بها فلا تزال ملك يمينك؛ بينما هي قد تحرّرت منك تماما منذ أن استقرّت بين دفتين في مملكة القراء.
وإنه لأمر عجيب يحدث لك في علاقتك بشخصياتك، جميع شخصياتك! فأنت، بعد هذا، لم تعد سوى متسول على باب كل كتاب يحملها.
لا أقول نصا، فإن النص نص وهو يُكتب. وهو السجن الذي تتوهم نفسك تبنيه لشخصياتك داخل سور الكلمات. فالنص ما إن يدخل المطبعة فيُصكّ، كما تصك قطعة أو ورقة نقدية لها علامتها وقيمتها، حتى يصبح هو نفسه شخصية يحمل شخصيات.
فأنت تزول عن النص. ولا يبقى عليه من أثر سوى اسمك، كما رب صغير، سرعان ما يجحده من توهم خلقهم.
أولئك هم جميعا هؤلاء الذين كنت بكذبك الجميل والعذب والمخادع أعطيتهم أسماء وألقابا. وشققت لهم، لكل، مسارا يسلكه. وذلك في تواز أو تقاطع، لا يهم، مع غيره في هذا العالم الذي لا يعمّده أيّ أساس سوى اللغة.
فاللغة وحدها، هي الوسيلة التي لا تعرف أنت، شخصيا، كيف تشتغل في ذهنك، في إحساسك. كيف تسوقك هي إلى ما تريده هذه الشخصية أو تلك من شخصياتك.
فأيٌّ من شخصياتك يملك بدوره، من اللغة، ولا تعرف أنت كيف يقع ذلك، قوة يردعك بها أن تخرج به عما تريده له اللغة أن يبلغه.
أنت هنا، لا تعدو أن تكون قنّاً لجبروت اللغة. وإياك أن تتوهم أنك أنت بحضورك الفيزيقي، من يكتب!
فقل لي، إذاً، من أين تَدخل هذه الشخصية أو تلك، حتى الممسوخة -لأنك تريد أن يظهر منها ما يحيلها على الحقيقة التي تحملها في الواقع خوفا أو تعففا أو حجبا ـ إلى محيط نصك؟
وكيف تروح هذه الشخصية أو تلك تستنزفك أن تكسوها باللغة لحما ودما. وتبث فيها روحا من روحك. وتزرع فيها عواطف، خيرها وشرها، من عواطفك. وتشحن عقلها بأفكار ومواقف وقناعات هي من أفكارك ومواقفك وقناعاتك؟
ويا له من خطأ جسيم ترتكبه في حقها أن تَعدّها ورقية أو وهمية أو تخييلية!
لا شيء من ذلك كله في الشخصية التي تتحرك داخل نصك قبل أن تغادرك مع بقية الشخصيات، في لحظة إرساله ـ كمخطوطة ـ لدار نشر، أنت متأكد من أنها لن ترجعه إليك بالاعتذار. وإن هي أعادته إليك فإنما للمراجعة. وحينها أنت لن تستطيع إخراج أيّ شخصية من النص، لأن ذلك يقوضه تقويضا. ولا أن تعيد صياغة مسارها لأنه متداخل مع غيره من مسارات الشخصيات الأخرى، مثل غزل نسيج. ولا أن تعدل في ما تحمله هذه الشخصية أو تلك، برغمك، من مميزات؛ لأنها، المميزات، كمرآة منتصبة أمام بقية الشخصيات الأخرى تتعارف على بعضها من خلالها.
فشخصياتك تتحالف عليك. وهي توهمك بأنها متناقضة ومتصارعة ومتقاتلة وكارهة لبعضها إلى حد الموت. فهي تدرك ـ وأنت لست متأكدا الآن من مفهوم الإدراك عند شخصيات لا حياة لها إلا في خيالك ـ أنك خلقتها من عبث.
أجل، عبث! ولكن عبث الطفل الذي لم يكبر يوما في صدرك مع مرور الوقت، الذي ينخر في جسدك دون أن تشعر غالبا بذلك. فوجهك في مرآتك، عينيك خاصة، يريك الطفل فيك.
من ثمة، دون أن تدري، دون أن تدرك، ينبع سر حياة اللغة فيك وحياتك فيها.
وها أنت تجد كل ما حولك لا يشعرك إلا باللغة. لغة أخرى لا تكون لها أحيانا ما يجسدها في رموز.
من هنا شخصياتك التي تبنيها هذه اللغة.
لغة الطفل.
فكل شخصية من شخصياتك إنما صنعها عبث الطفل.
فالشخص البالغ فيك، الرجل القوّام المسؤول عن أفعاله عاجز، إطلاقا، عن صنع شخصية، كما يصنعها طفل من رمل على شط أو من ثلج في حقل وهو يعطيها من خياله الجامح المتمرد ما لا يسعه العالم في تلك اللحظة!
فأنت إن حاولت أن تبني شخصية بروح ذلك الشخص ستفشل تماما، لأنك ستجد أمامك موانع الأخلاقي والديني والسياسي وجميع المثبطات الاجتماعية الأخرى.
ذلك، لوعيك الشقي الذي ينزّل في قلبك الخوف. ويثير في ذهنك الحشمة.
وبكلمة، فذلك الرجل فيك هو من يكبل خيالك عن انطلاقته كما يمكن أن يفعله الطفل فيك.
ويا لها من معركة مجهدة لأعصابك وجسدك وروحك تلك التي تخوضها ضد الرجل فيك لينتصر عليه الطفل!
فأنت لا تكتشف الطفل فيك إلا من خلال أساليب العفْرتة التي تهيئها لهذه الشخصية أو تلك من شخصياتك، داخل هذا النص أو ذاك من نصوصك.
فالطفل هو الذي يحكي، عن الشخصية كما رآه، كما يراها، في حالاتها الأكثر واقعية والأشد عريا. إنه لا يكذب إلا كذبا جميلا وخادعا.
فالواقعية والعري هما ما يرهب الرجل فيك. فشجاعتك هي أن تفسح للطفل فيك أن يسرد، بدلا عنك، أنت الشخص “المحترم”.
والطفل لا يعتبر عبثه مدنسا. إنه أبعد ما يكونه عن الجدال حول “المقدس”.
الطفل فيك يشغفه أن يحكي قصة كما يتخيلها بلا مراقبة ذاتية. هذه المراقبة القاتلة لأي طموح عند الرجل فيك.
فمما لا ينبغي لك نسيانه أن جميع شخصياتك الإيجابية منها والسلبية، الخيّرة والشريرة، المحبة والحاقدة، البريئة والمذنبة، التافهة والمؤثرة، الوطنية والخائنة، الجبانة والشجاعة، الحقيرة والنبيلة.. وغيرها، ليست سوى أجزاء من كلك، كلك المعقد والمركب بجميع نوازعه ومكبوتاته، كان لك الحظ، الذي أتاحته لك عناية ما دون غيرك من الذين لا يكتبون، أن تعكسه في نص أو آخر لا يعبر إلا عن حقيقتك أنت.
حقيقتك المضمرة حينا والصارخة حينا آخر.
وها أنت تنقلها إلى قارئ، يقول عنها ناقد، إنك متّ بعدها، وهذه مخادعة لا بد أن تكون أنت من همست بها له!
أنت إن متّ، بين يدي القارئ، فإنما لتحيا متخذا هيئة تلك الشخصيات مجزأً موزعا مشتتا وملتما في النهاية على كذبة طفل جميلة هي روايتك.