عنف البوليس الفرنسي ورواسب الفكر الكولونيالي
عقب مقتل الأميركي جورج فلويد، ثارت ثائرة السود والمناصرين لهم في صراعهم ضدّ العنصرية داخل الولايات المتحدة، ثم عمّ مظاهر التنديد بلدانا أوروبية كثيرة من بينها فرنسا. غير أن الفرنسيين، كعادتهم، احتجوا على ما شهدته مدنهم من مسيرات تدين رموز الاستعباد، بدعوى أن فرنسا، بلد حقوق الإنسان، لا يمكن مقارنتها ببلاد العمّ سام، ذات التاريخ العنصري المتأصل منذ تأسيسها. ثم عاد الجدل عن العنصرية مؤخرا بعد عملية عنف سافرة تعرض لها رجل أسود من أصول أفريقية يدعى ميشيل زيكلر، صاحب شركة “بلاك غولد” للإنتاج الغنائي، فقد اقتحم ثلاثة من أعوان الشرطة محلّ عمله وعنّفوه بشدّة، ولحق بهم قرابة خمسة عشر عونا آخر لإخراجه عنوة، ثم ادّعوا في تقريرهم أنه هو الذي هدّدهم وعنّفهم، وبقي في الإيقاف ثماني وأربعين ساعة، في انتظار مثوله أمام المحكمة.
ورغم ذراعه المكسورة، وجروحه النازفة في الرأس والوجه، ونفيه القاطع لما ادّعاه البوليس، فإن التقرير المزوّر هو الذي اعتُمِد، أوّلا لأن البوليس “محلَّف ولا يمكن أن ينطق إلا بالحقّ”. ثانيا لأن كلام مواطن أسود لا قيمة له، لاسيما إذا كان في شبابه قد ارتكب حماقات قادته إلى السجن، شأن كثير من شباب الضواحي.
كان يمكن أن تطوى القضية مثل مئات غيرها، ولكن التكنولوجيا، سلاح العصر، فضحت كذب البوليس، ففي محلّ الشابّ كاميرا مراقبة سجّلت كلّ شيء، داخل المحل وخارجه، وما إن بادرت محاميته بنشر الفيديو على المواقع الاجتماعية حتى تفجّرت الفضيحة، وصارت قضية رأي عام أثارت جدلا حاميًا، بين من يزعم أنّها حادثة عابرة يتحمّل تبعاتها أعوان معيّنون أخلّوا بما يقتضيه واجبهم وشوّهوا صورة مؤسستهم، وبين من يصرّ على أن ذلك العنف هو من طبيعة هذه المؤسسة، بل ومن طبيعة الدولة نفسها. ووجد فيها الباحثون وعلماء الاجتماع فرصة للحديث عمّا أسموه “النظام الأبيض”. ففي رأيهم أن الاعتداء الذي تعرض له ذلك الرجل الأسود ليس حادثة معزولة، وإنما هو عمل يدخل في صميم حلقات متواصلة من العنف البوليسي المؤسساتي، حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض، منذ “الإعلان لأجل بوليس للسود” الذي سنّه لويس السادس عشر عام 1777، وتميز بعنصرية مقيتة ضد الآخر المختلف.
وخلافا لما يروّجه بعض الساسة ورجال الإعلام والمحللين وعدد من المفكرين المحافظين، فإن عنف البوليس الفرنسي ليس حالة شاذة، ولا صورة عن مجتمع لا يني يزداد عنفًا، بل هو الجانب الظاهر لـ”ليفياتان” بعبارة هوبز، وهو متجدّر بعمق في البنى الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية للدولة الفرنسية، وقد أطلقت عليه المؤرخة والأستاذة المحاضرة بجامعة ديدرو بباريس أوريليا ميشيل “النظام الأبيض”، بينما استعار باحثون آخرون مصطلح “colonialité” الذي راج في أميركا اللاتينية، وتعني تقمص السلوك الكولونيالي والتشبّع بفكره، فمن النظام القديم إلى الجمهورية الخامسة، ومن المستعمرات إلى التراب الوطني، ومن الجيش إلى الشرطة، وُجد في فرنسا ولا يزال عنف مؤسساتي هدفه السيطرة والهيمنة على الأجساد غير البيضاء. تجلى ذلك في مجازر كثيرة، أبرزها تلك التي ارتكبت عام 1802 في غوادلوب، وعام 1944 في معسكر تيارويْ بالسنغال، وعام 1945 في ستيف وغالمة وخرّاطة بالجزائر، وعام 1961 في باريس، ثم في بوانت أبيتر بغوادلوب عام 1967، إضافة إلى جرائم أخرى راح ضحيتها شبّان من أصول أجنبية كالطالب مالك أوسيكين في باريس عام 1986، والمراهقين زياد بينّا وبونا تراوري في ضاحية كليشي سو بْوا عام 2005 وأداما تراوري في ضاحية بيرسان عام 2016.
وفي كلّ مرة يرفض الفرنسيون النظر إلى التاريخ وجها لوجه ليراجعوا ماضيهم الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، بل هم يفضلون التعتيم عليهما، في حين أنهم لا يجدون حرجا في مراجعة جرائم الدولة الفرنسية تحت حكومة فيشي، ودراستها وتوثيقها وحتى تخليدها. ولعل ذلك راجع إلى أن الضحايا في هذه الحالة من الجنس الأبيض، وهو ما كان إيمي سيزير لاحظه في كتابه “خطاب عن الكولونيالية”، حيث أكّد أن ما لم تغفره فرنسا وأوروبا بوجه عام لهتلر “ليس الجريمة في حدّ ذاتها، أي الجريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حدّ ذاته، بل الجريمة ضدّ الإنسان الأبيض، وإذلال الإنسان الأبيض، ولكونه طبّق على أوروبا أساليب كولونيالية كانت تخص حتى ذلك الوقت عرب الجزائر وعملة الهند (كوليز) وزنوج أفريقيا”. وفي رأي المؤرخة الفرنسية أن الشرطة ورجال الجندرمة والجيش كانت تتدخل في المستعمرات القديمة بوصفها قوات “النظام الأبيض”.
هذا النظام بدأ في الواقع منذ مارس 1685، عندما سنّ لويس الرابع عشر ما عُرف بالقانون الأسود الذي حدّد الوضع القانوني لمستوطني مستعمرات ما وراء البحار، في البحر الكراييبي بخاصة، واستثنى السّود، حيث سوّاهم بالممتلكات، بل اعتبرهم قطعَ أثاث يمكن نقلها من مالك إلى آخر. ولم تفلح الثورة وفكر الأنوار وقيام جمهورية معاصرة في إلغاء تلك الممارسات، برغم إلغاء العبودية وتجريم الرّق، فقد تواصل القمع والاضطهاد تحت مسمّيات أخرى كـ”قانون الأهالي” الذي أصدرته الحكومة الفرنسية عام 1881، وحوّلت بمقتضاه صلاحيات القضاء إلى الإدارة التي جعلت من الجزائريين تابعين للمعمِّرين بعدما سلبتهم أراضيهم، وقنّنت تنقلاتهم داخل بلدهم، ومكّن ذلك القانون المعمرين من تملّك الأرض، وتحويل أصحابها إلى خدم. ثمّ عمّمته على سائر مستعمراتها بداية من عام 1888.
وإذا كان ذلك العنف ظاهرا يضبطه تشريع معلن، فإن عنف قوات الأمن الذي يتواصل حتّى اليوم يتبدّى دون الخضوع لنص، وليس له من غاية سوى تكريس آليات الهيمنة الموروثة من الحقبة الكولونيالية كما تبين أشغال عالم الاجتماع ماتيو ريغوست، الذي يذكّر بعض رموز ذلك العنف المسلط على غير البيض، مثل المحافظ بيير بولوت (1921 – 2006) كرمز لتجسيد تلك الاستمرارية، وهو الذي مارس العنف ضدّ غير البيض من حكومة فيشي إلى الهند الصينية، ومن الجزائر إلى إقليم سين سان دوني، مرورا بغوادلوب.
غير أن الصور التي تثبت بالحجة وجود هذا الجهاز القمعي كانت غائبة أو نادرة، وفي غيابها تداول المحللون السياسيون والمفكرون اليمينيون وخبراء منابر الإعلام على اعتبار الحديث عن عنف بوليسي وقمع للأقليات مثالا آخر عن نظرية المؤامرة، واستيرادا لحقائق أميركية لا تنطبق على فرنسا، فالبوليس الفرنسي في رأيهم جمهوري، ولا يمكن أن يتصرّف إلا بما يمليه القانون. ولكن صور العنف الشديد الذي سلطه البوليس على ميشيل زيكلر دون موجب قانوني، وعدد الأعوان الذين انهالوا عليه وهو أعزل في محله الذي يستعمله أستوديو للتسجيل، كذّبت هذه المرة تلك الحجج، وأظهرت الوجه الحقيقي لممارسات الشرطة الفرنسية ضدّ الأقليات، خاصة بعد أن تناقلتها المواقع الاجتماعية والقنوات التلفزيونية والمنصات الرقمية في فرنسا وخارجها. وما كان للحقيقة أن تظهر لولا تطور التكنولوجيات الحديثة التي صارت قادرة على التقاط المشاهد والحوادث وتعميمها لتنتشر انتشار النار في الهشيم.
ولئن ركز بعضهم الحديث على “العنف البوليسي”، فإن آخرين، مثل عالم الاجتماع فابريس دوم، يعتقدون أن الاكتفاء بذلك المفهوم مجرد لغو، لسببين: أولهما أن البوليس يمارس احتكار العنف المادي الشرعي، وهي ممارسة قال عنها وزير الخارجية إنها لا تحتاج إلى تأييد ديمقراطي، فالبوليس له الحق في استعمال العنف حتى يحفظ قوة القانون. وثانيهما أن البوليس حين يعنّف غير البيض، فإنما يؤدي عمله، الذي يتمثل في حفظ النظام الأبيض المتقادم.
في كتاب “عالم زنجي وأبيض – بحث تاريخي في النظام العرقي”، تؤكّد أوريليا ميشيل على أهمية الكشف عن صبغة الاستمرارية بين جور قيل إنه تولّى، وممارسات معاصرة لا غاية من ورائها إلا تمديد ذلك الجور، لأنه لا ينفصل عن عظمة فرنسا. تقول عالمة الاجتماع الفرنسية “الاسترقاق مركزيّ في بناء الحداثة الأوروبية، وخاصة الفرنسية، وفرنسا هي ربّما الأمة التي دفعت منظومة العبودية والكولونيالية إلى أعلى درجاتها، وأقصى قوّتها. ورغم ذلك فإن صلة هذا التاريخ بالحاضر وبواقع العنصرية ضعيفة. والسبب هو الحاجز، وحتى استحالة قول ذلك العنف. فأمام الوقائع توجد آليات دفاع متكررة تتثمل في جعل تاريخ الاسترقاق تاريخَ هامش، تاريخَ ضحايا، تاريخَ إحياء للذاكرة، وحتى تعبيرًا عن ندم.”
لقد لعبت ركائز فرنسا الحديثة، وخاصة كونية الأنوار، دورا مركزيا في إظهار منظومة القمع هذه في مظهر بدَهيّة جمهورية لا يمكن الطعن فيها دون أن نُتهم بالانعزال، هذا المصطلح الجديد الذي صار اليوم على كل لسان. والحال أن النظام الأبيض، الموروث عن النظام المسيحي القديم في أوروبا، وامتداده فيما وراء المحيط الأطلسي، تطور انطلاقا من فكر الأنوار والثورة الفرنسية، كمنظومة اجتماعية واقتصادية وعسكرية وسياسية وأيديولوجية تستند إلى سلطة فرد ذكر من أصول أوروبية، ورغبته في أن يكون حرّا، له أسرة وملكية ووطن. وقد ظل يقاوم معارضيه وتناقضاته، لاسيما توقه إلى مجتمع ديمقراطي تسوده المساواة في كل شيء أمام القانون. وعندما يمارس البوليس العنف ويشدد المراقبة ضد الأقليات، فإنما يفضح وجود منظومة الهيمنة تلك، التي يمثل البوليس ذراعها المسلحة، التي لا تترك مكانا للطارئ، وتكرّس حضورها من المستعمرات إلى ضواحي المدن الكبرى، ببناء غيرية تتحول إلى عدوّ داخلي ينبغي السيطرة عليه.
لقد أدان الرئيس ماكرون الاعتداء على زيكلر، وأكد على أن البوليس جمهوري، لا يقبل تلك الممارسات، غير أن وزير داخليته قدّم، بتزكية منه، مشروع “الأمن الشامل”، الذي يمنع تصوير رجال الأمن خلال قيامهم بمهامّهم، حتى من قبل الصحافيين، ما يعني منع الناس من الوقوف على حقيقة تعامل البوليس مع الأقليات، حتى يتسنى له أن يمارس عنفه في الخفاء.
ولعل خير ما يمثل سيرة العنف هذه ديديي لالمان، محافظ الشرطة بباريس، فرغم تجاوزاته وتصريحاته المثيرة للجدل، كتب يقول في بطاقة التهنئة الرسمية التي وجّهها إلى عدد من النواب والصحافيين وأعضاء بعض المؤسسات الحكومية، بمناسبة السنة الجديدة “أنا على يقين تامّ، ولتنعق الغربان، أننا سنخلق بجهودنا المشتركة النظام الضروري. لتعلموا فقط ولتتذكّروا جيّدا أن الإفلاس والغرق، من دون ذلك، سيكونان حتميّين”. وهو مقطع استمده من الجزء الأول من “كتابات عسكرية” لليون تروتكسي، مؤسس الجيش الأحمر، حينما بدأ البلشفيك يفرضون إرادتهم بالقوّة.