الشخصية كذات واعية بكيانها، مستقلة في إرادتها
عبر بناء الشخصيات، تعبّر الرواية عن رؤية للعالم تختلف باختلاف المراحل والكتّاب، وترتهن للظرف الأدبي تاريخيا وثقافيا، وتعكسه في الوقت ذاته، وقد تحدّده. والشخصية، حتى وإن كانت كائنا من ورق، هي الوسيلة المثلى التي تتبدى من خلالها رؤية مخصوصة للعالم، وكيفية الإقامة فيه. وبعد أبطال الأساطير والملاحم القديمة، الذين يتميزون بخصال جسدية وذهنية فريدة، وقدرات أقرب إلى قدرات الآلهة، ظهر أبطال متفوقون ولكنهم ذوو سمات وأفعال تقربهم من عامة البشر. بيد أن هؤلاء وأولئك لم يكن لهم عمق سيكولوجي، فلا يعلم القارئ عنهم سوى ملامح غائمة وأعمال خارقة وأقوال شبيهة بالحِكم والمواعظ، وهي السمة المشتركة بين سائر السرديات حتى مطلع القرن الثامن عشر، حين بدأت الشخصية تتفرد وتعبّر بأقوالها وأفعالها عن نقدها للمجتمع الذي تنتمي إليه، وصارت “بطلا” عاديا يحاول التحرر من نزاعاته مع المجتمع، وينشط أمام أنظار القراء فيستدلون إلى العالم الذي يتحرك فيه. وشيئا فشيئا أصبحت الشخصية الروائية في القرن التاسع عشر واقعية، مثلما غدت غاية الرواية الإيهام بالواقع، حيث الشخصيات قريبة من الواقع، حتى وإن كان ذلك الواقع قد تمت إعادة بنائه فنيا. وكان الكتّاب في تلك الفترة يقضون ساعات طويلة في ملاحظة ملامح الناس وسلوكهم وطرق تخاطبهم وأعمالهم وتصرفاتهم لأجل بناء شخصيات واقعية من جهة ملامحها وخطابها وسلوكها. ثم استعان بعضهم، كالطبيعيين، بمستجدات العلم لتفسير تطور الفرد وبالتالي الشخصية التي ستتصدر الرواية، مثلما جعلوا الشخصية تنطق بالوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وتمثله.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أصبحت الشخصية أكثر صدقية وهشاشة، لا تستحي أن تُظهر صَغارها وخبثها وجبنها، ومعاناتها وهي تصارع ما استطاعت صروف الحياة لتحقيق الذات وتأمين العيش الكريم، وغالبا ما يبوء سعيها بالفشل. فهي تعبّر تقريبا عما يعتمل في نفوس القراء من حيرة وقلق وخوف في واقع لا يني يتحوّل، دون أن يكون التحول دائما نحو الأحسن. صحيح أن ثمة شخصيات شجاعة تدافع عن قيم الخير والواجب والتضامن، ولكن ثمّة في المقابل شخصيات محطمة، أو مترددة، أو قلقة منغلقة داخل وضعها الاجتماعي أو العائلي، ولا تملك طاقة على المقاومة، وهي التي وصفت لاحقا بـ”الأبطال السلبيين”، أي أولئك الذين لا يملكون خصال الأبطال الحقيقيين كما عرفناهم في الملاحم القديمة وروايات الفروسية. وقد وُجد في هذا القرن من استغنى تماما عن الشخصيات، كما في الرواية الجديدة في فرنسا.
والرواية العربية، التي جاءت متأخرة، استفادت من كل ذلك، واستوعبت مراحل تطور الشخصية في وقت وجيز، فكانت الشخصيات في عمومها مستوحاة من الواقع العربي، بمدنه الصاخبة وأريافه المهملة، وبيروقراطيته الكفكاوية، ثم نحت حَذو تقليد التقليعات الغربية الجديدة، فوجدنا الواقعية الاشتراكية التي تمجد البطل، والواقعية النقدية التي تصور مظاهر البؤس والتخلف، والواقعية السياسية التي تعرّي الدجل السياسي وتفضح الطغيان وأساليبه القمعية، والوجودية التي تسعى فيها الشخصية بحثا عن موقعها في المجتمع، وعلاقة ذلك المجتمع بالعالم، والديستوبيا التي تحذر من عواقب كارثية ناجمة عن حاضر موبوء، وحتى غياب الحدث والعقدة أسوة برواية مارسيل بروست “في البحث عن الزمن الضائع”، قبل أن تنتشر كتابة الذات، لتصبح هي الشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث ليست دائما إيجابية، لإيثارها التعبير عن الخيبات والمآسي، بأسلوب ساخر أحيانا.
ثمّة أيضا من اتجه إلى الرواية التاريخية إما ليعيد إلى الأذهان حقبا غابرة وشخصيات أهملها التاريخ، والمعلوم أن التاريخ لا يحتفي في الغالب إلا بالقادة والفاتحين، وإما ليتخذه قناعا، والشخصية في اللاتينية “persona” تعني القناع، كي يحاسِبَ ولا يُحاسَب، ينتقد من كانوا سببا في هذا المآسي العربية المتراكمة، على أمل أن يأخذوا نقده في مستواه الأول، ولا يغوصوا في جوفه. ما يعني أن الحرية ليست دائما مضمونة، وأن المصادرة لا تزال تفعل فعلها حتى في العصر الرقمي، الذي حطّم القيود والحدود، إلا في مجتمعاتنا العربية خاصة مع استشراء الفكر الظلامي. ولئن رأى بعض النقاد في ثلاثية نجيب محفوظ التاريخية إذكاء للروح الوطنية عقب ثورة 1919 وتذكيرها بماضيها المجيد، فإن أعمال التونسي حسنين بن عمّو تكتفي بتسليط الضوء على ملامح من التاريخ التونسي القريب، الذي غيبته الأعوام واستهان به المؤرخون إلا في القليل النادر، سيرا على منوال البشير خريف في “برق الليل”. والمعلوم أن الأدب غالبا ما يستقي مادّته من التاريخ بوصفه منهلا من المناهل الزاخرة بالشخصيات والوقائع والأحداث، خصوصا في الحقب التي شهدت هزات وتحولات عميقة، ولكنه لا يغترف تلك المادة بعلاتها، بل يعيد تشكيلها بطريقة تباين ما يقوم به المؤرخ. فإذا كان المؤرّخ يحرص على تبيّن الحقائق التاريخية، يدقق تواريخها وأعلامها، ويتقصّى أسبابها ونتائجها، فإن الأديب يهتم، أكثر ما يهتم، بالأشخاص الذين عاشوا تلك الأحداث، إما للتذكير بذلك الواقع، وإما لاتخاذه مطية لمساءلة الحاضر.
الشخصية عندي هي قوام العمل الإبداعي ومحرّك أحداثه، من خلالها تعبّر الرواية عن رؤية للعالم تختلف باختلاف الكتّاب والمراحل، وتتصل اتصالا وثيقا ببيئة أدبية وتاريخية وثقافية تعكسها وتحدّدها. ولئن كانت الشخصية في الملاحم القديمة تكتسي إهاب البطولة والألوهية، فإنها تغيرت بتغير الأزمنة، حتى صارت تحمل سمات الإنسان العادي في صراعه اليومي ضد ما يعطل سيرورته ويهدد إنسانيته، وقد تصبح وسيلة لتحقيق ما لم يستطع الكاتب تحقيقه في حياته، كأبطال كونديرا، الذي يرى في الرواية تأملا في الوجود عبر شخصيات متخيلة، وفي شخصياته النوايا التي عجز عن تحقيقها.
شخصيات رواياتي منحوتة من المحيط الذي نشأت فيه، سواء في تونس أو في المهجر، أو ما بينهما في الوقت نفسه، أستغلها للوقوف على بعض الظواهر أو الحالات النفسية والذهنية التي تطرأ على أشخاص يعيشون الوضع نفسه، دون استنساخ الواقع. وهي مستوحاة أيضا من تجاربي في الحياة ومن قراءاتي ومعاشرتي ألوانا من البشر حيثما حللت، وقد أكون حاضرا حضورَ شاهدٍ على مرحلة، أو أحداثٍ عشتها أو سمعت عنها، وقد تتشكل شخصيةٌ واحدة من شخصيات عديدة تلتقي في نفس السمات كما في روايتي “آخر الرعية”، التي جعلت بطلها “الكبير” رمزا لكل طغاة العرب، فرأى فيها كل قارئ صورة من طاغية بلاده. وقد أستلهم من سيرتي بعض تفاصيلها، كما في روايتي “مسارب التيه” و”الرجل العاري”، أوظف كل ذلك لأجلو منه رؤية للعالم وموقفا من الذات والآخر، لأن الرواية في نظري تشكيلٌ حيّ لوجهة نظر في الحياة، ورؤية مخصوصة للعالم.
أغلب شخصياتي متمرّدة، مثلي، على الوضع القائم، بعضها يندّد بالواقع السياسي محليا وعربيا، كما في رواية “الرجل العاري”، وبعضها الآخر يخوض صراعا طبقيا على طريقته دون أن يملك خلفية أيديولوجية، كما هي الحال في روايتي “لابس الليل” و”زمن الدّنّوس”، وهي الشخصيات الأقرب إلى نفسي، والأكثر حضورا في ذاكرتي، لأن عالمهما جزء من تاريخي وتاريخ مدينة تونس، حاولت من خلال ذينك العملين المتتالين، في انتظار صدور الجزء الثالث “حرائق الغروب”، أن أنفض الغبار عن جانب من ذاكرة المدينة حتى لا يطوي النسيان خبره، وأصور مكابدات شريحة تجترح قوانينها الخاصة، لمواجهة التهميش والعنف والإقصاء المخطط من قبل السلطة السياسية ومن يدور في فلكها. ورغم المنحى الواقعي الذي توخيته، فإن الشخصيات كانت مزيجا ممن عرفت ووحيا من الخيال، وخاصة البطل “كامل كنتولة” الذي يطاول أحلاما لا تني تتمنع عليه. وهو مثال للشخصية الواعية بكيانها، المستقلة في إرادتها، برغم الفقر والتهميش وقلة الزاد المعرفي، يقاوم نفرا من الموالين للسلطة، وحتى رموزها وهو لا يملك غير وعي حادّ بوضعه وإرادة قوية على تحدي الصّعاب، فإذا هو كمجنون يصارع نيرانا ملتهبة.
الجديد الذي بدأت الاشتغال عليه منذ رواية “ورقات من دفتر الخوف” هو موقف المثقف المغترب ممّا يجري في وطنه، بوجهيه المحلي والعربي، وكيف يعيش التحولات الجذرية والمآسي، خاصة في هذه الأزمة الصحية الحادة، من مسافة بعيدة، برغم وسائل الاتصال الحديثة التي قرّبت الشقة. وإن كنت على يقين من أن كل شيء سبق أن قيل، ولم يبق لنا إلا سبل قوله بطريقة مغايرة، تجعل المغامرة الإبداعية متجذرة في واقعها.