الروائيّ في ذمّة شخصيّاته
(لا رواية بلا شخصيّة. لا تستقيم الرواية بدون شخصية. الرّواية غير ممكنة بدون شخصية..).
ليْس قانونًا مُلزِما بالضّرورة للكتابةِ السّرديّة، ولكنّهُ منْ اشتراطاتِ النّوعِ الروائي التي يغدو بها العمل الروائيّ ذا قيمة ومعنى، وهي محضُ إمكانياتِ تحقّق الكينونة الرّوائية بالاستناد إلى حجرٍ من أحجارِ لعبتها التخييلية، أي الشخصيّة. والشخصيّة الرّوائية هنا لا تقتصر على شرطيّةِ الإنسانيّ، أيْ أن تكون جنسا آدميا عمليّا حتى تكون شخصيّةً روائيّةً فعلا، بل تحتملُ الهوية المنفتحة للشخصية الروائية أن يدخل في أنسابِ أندادها وأبدالها ما هو غير إنسانيّ، إذْ يمكن لحمارٍ أو صرْصارٍ أن يكون شخصيّة في رواية. وغير الحيوان ممّا يدبُّ أو يسبحُ أو يطيرُ، يمكنُ أيضا لشجرةٍ أو جبلٍ أو بحيرةٍ أن تكون كذلك من شخصياتِ العمل الروائي، وقِسْ على ذلك، أشياء أُخرى مثل منزلٍ أو مدينة أو تمثال أو روبوت… إلخ.
قد نؤنسنُ كلّ هؤلاء أو نسبغُ على هذه الأشياء معنًى إنسانيا كيْما تتحوّل إلى شخصيّاتٍ فاعلة في تخييل النصّ الروائيّ، وقد نتركها لاستقلاليتها ما أمكن، تنفصل بكينونتها، وشتّى أصنافِ إنتاجها العمليّ والدلاليّ والرّمزيّ في الرواية، لا كعلاماتٍ ذات أنساق مغايرة لما هو بشريّ وحسب، بل كفاعليّةٍ تخييليّة ترتهنُ إليها سيرورةُ الحدثِ الرّوائي ككلّ.
نادرةٌ هي إمكانياتُ خلق الشخصيّة الروائيّة من عدمٍ، كأنْ يتعلّق الأمر بابتكارِ شخصيّة فانتازيةٍ لا وجود لها، وبالمقابل كيفما نبغتْ مخيّلةُ الرّوائي في صناعة شخصيّة افتراضية، فمجملُ العناصر المركّبة لها، تظلّ تنتمي إلى الواقع. نعم، العناصر موجودة بشكل مألوف سلفا، ولكن طريقة التركيب اللامألوف لها لاحقا هو ما تنطوي عليه خطورة الكتابة الروائيّة.
وبهذا المعنى، تكون جاذبية الواقع أمرا حتميّا ترتدُّ إلى متحفهِ مجمل الشخصيات الروائية المُتخيّلة مهما بدتْ منزاحة، ولامألوفة، وضالعة في الغرابة والعجائبية.
لن أزعم بأنّ مصادر شخصياتي واضحة، فالمسألة برمّتها تنسحب على فعل الكتابة ذاته، وأغلب مصادرهما معا (الشخصيات على نحو خاص والكتابة على نحو عام) غامضة ومبهمة. ومع ذلك، إن جاز لي التّوصيفُ، فسديم الطفولة يظلّ المصدر الأوّلي لبعض شخصياتي التخييلية، وغير الطفولة، تتشابك تجاربٌ ذاتيةٌ في استنباتِ مصادفاتِ خلْقِ الشخصيّات: تجربة الحياة أوّلا، وتجربة القراءة ثانيا على نحو مزدوج، دون القفز على مجازفةِ الخيال ثالثا.
لا أسعى وراء الشخصيات عندما أجازف بعيش تجربةٍ حياةٍ هنا وهناك، بالسفر أو بالإقامة، لا فرق، ولكن ما يهمّ بدءا في الأمر، أنّي أحيا هذه التجربة خارج نوايا الكتابة، دونما تخطيط. فأن أكتشف وأتحوّل وأتجدّد وأنفتح وأتعدّد وأتشعّب هي مسألة وجودية، تقتضي أن أعيش بالمخاطرة، باللااستقرار الذي يعادله اللايقين. وإن عَقِبَتْ التجربةَ كتابةٌ، فهذا ظفرٌ لاحقٌ، على ظفرِ حياةِ التجربة السّابق، وإن لم تحدث الكتابة فلا خسران أبدا. هكذا فبعضُ شخصياتي الروائية برقتْ في هلام حيواتي المتعدّدة، من حيث لم أحتسبْ، عَقِبَ مصادفاتٍ في اشتباكاتِ أمكنةٍ وحكاياتٍ وعلاقاتٍ ووجوهٍ تتدرّج وِفْقَ سيرورةِ فوضى حياتي الصّاخبة.
تتخلّقُ الشخصية الروائيّة كعلامة أو خدْش في الذاكرة، وتصرّ العلامة أن تكبر وتتنامى وتتضخّم لتُزَاحِمَ شخصيّة الكاتب الأصل في وجوده. لا يغدو الكاتب منفصما حينما تنبت شخصية تخييلية داخله، ويمسي مزدوجا أو متعدّدا فقط… بل قد تتلبّسه وتتقمّصه ويصير هو نفسه شخصيته التخييلية.
لا يبرأ الكاتب من لعنة شخصيته الروائية، ولا يخلعها إلا حينما ينتهي من عمله، وتنفصل عنه روايته حينما تصدر، فتصبح منتمية للقارئ…
كثيرا ما يحدث لي، وأنا قيد كتابة رواية، أن أعيش هذا الازدواج الصارخ، فأنت عندما تنذرُ حياتكَ لمعتركِ كتابةِ روايةٍ، تصيرُ منتميا إليها بضراوة، أكثر ممّا تنتمي إلى واقعك. وهكذا تبدو منهوب التّفكير في شخصياتكَ المتخيّلة، التي تحملها معك أنّى حللتَ وارتحلتَ، وإذ يلاحظ مجالسوك في الخارج شرودك الدامغ، وأنت تتعجّل إنهاء المحادثات، فإنّما أنتَ تحنُّ إلى الرّجوع صوب شخصياتك الروائيّة التي تسحبك إلى المسوّدة بخيوطٍ سحرية، وتجرفك نحوها بنداءاتها المغوية اللاتقاوم…
وبالقدْر نفسه الذي تتخلّق الشخصيات الرّوائية من صُلب تجاربنا اليومية على نحو وجوديّ، كما هو ملمعٌ إليه آنفا، فهي تتخلّقُ أيضا من صلب قراءاتنا، لا باستنساخ نماذج موجودة سلفا في روايات وقصص قصيرة ومسرحيات أو أفلام سينمائيّة وربما متون تاريخيّة وعلميّة وغير ذلك… بل على سبيل الإيحاء الخلاق، إذ، كلّ شخصية تقود إلى أخرى في سيرة النصوص قاطبة.
قد تتجدّد حيواتُ شخصياتٍ تخييلية، صنَعها روائيون سابقون، ضمن أعمالِ روائيّين لاحقين، وِفْقَ مخطّطِ كتابةٍ خاصٍّ باستراتيجيةِ هذا النّوع من الخلق الرّوائي، سواء تعلّق الأمر بكتابةٍ طِرْسيّةٍ أو غيرها… وقد تتحوّلُ شخصياتٌ تاريخيّة إلى شخصيّات روائية، على مقاس شخصيات واقعية تحوّلتْ إلى تخييليّة، وآلتْ بحسب قيمة إبداعيّة الكتابة في هذا العمل وذاك، إلى علامات أو رموز… لكنّ ما يشفع لهذا الصّنف من الشخصيات في الوجود الروائي من عدمه، ليس هو وضْعُها السّالف واقعًا وتاريخًا (المعتاد والمألوف ضمن التجارب السابقة)، بل وضعها اللاحق تخييلا ومآلُها جماليًّا (اللامعتاد واللامألوف ضمن التجارب الجديدة).
وأمّا الشخصيات الروائية الأخطر في نظري، فهي ثمرة مغامرةِ الخيال، الذي لا نكاد نرهن مجازفته لأيّ مصدرٍ بعيْنه، بل مصدرها غامض ومجهول.
إنّ المفارقة السّاخرة، هي حين ينجح الروائي في خلقِ شخصيّة مريبة، وقد آمن أنّ حياتها لن تتعدّى حدود خيال الرواية، ويحدث ما لم يتوقّعه، بأن تتخطّى حدود خيال الرواية وتغدو فيما بعد، أكثر واقعيّة من الروائي نفسه.
في الغالب ينْسى الروائيّ شخصياته فور صدور رواياته، منصرفا إلى خلق شخصيات أخرى لم يبتكرها بعد، ونادرا ما قد تظلّ حيّة في عالمه ولو كأشباح، تنادمه بين الحين والآخر، وإنْ أصرّ قُرّاؤُه ومعارفُه، أن يذكرّوه بها مرّات وكرّات، أو يخلطون بينه وبينها بالأحرى. نعم، فبعضُ الدّليل على قوّة خلق شخصيةٍ من طرف كاتبٍ، أو نجاحُه المُبهر في صُنْعها بالأحرى، هو أن تكون الشخصيّة التي ابتكرها محضُ معادلٍ له عند الآخرين، ما أن يُذْكر اسمُه، أو يروْا صورته، وما شابه ذلك.
إنّنا لا ندينُ الرّوائي حينما نردّد الملاحظة الكلاسيكيّة، المستهلكة، بأنّ شخصياته الرّوائية محض أقنعة من أقنعته! وماذا بعد؟
إنّما نهينُ بذلك الشخصيات الرّوائية إذْ نقوِّضُها في صورةِ قناعٍ من أقنعة الروائي أو ظلّا من ظلاله، في حين أنّ وجودها الخلّاق ليس مستقلّا عنه وحسب، بل أذكى منه بكثير.