لا أعرف
أول ملاحظة شخّصها صديق زار عاصمة عربية عريقة، أن أحدا في الشارع لا يقول لك “لا أعرف” إذا سألته عن مكان أو معلومة ما. ثمة ضغط نفسي ربما ولّده الأفراد على أنفسهم يجعلهم يحرجون من الرد بعدم المعرفة. قد يكون التأثير أكبر لأنه ظاهرة اجتماعية يضعها الناس على أنفسهم.
هذا شيء تكاد لا تلمسه وأنت تعيش في المجتمعات الغربية. أنت تعرف بقدر ما تعرف، لا أكثر ولا أقل. أو هكذا كنا نعتقد لحين دخول الجائحة ومواجهة واقع العزلة. وأين كان “المقتل” إذا جاز التعبير؟ كان في تغيير طبيعة التعليم، أي بعد أن أصبح على الأسر القيام بدور المدرسة. لم يعد المطلوب الردّ على تساؤل مستطرق في الشارع أو حانة أو في حوار. صار عليك أن تعرف لتعطي المعلومة لطفل أو صبية يتلقفاها وتصبح جزءا من منهج تدريس يتلقاه التلاميذ في البيت لأن الوباء ينتظرنا في الشارع والحي والمدرسة. الآباء والأمهات أخذوا على حين غرة وكان عليهم أن يتحولوا إلى معلمين في أيام. لا أعرف إن كانت هناك كتب من نوعية “تعلّم أن تصبح معلما في خمسة أيام” أو “ممارسة مهنة التعليم للحمقى أو الجهلة”. المسؤولية تفرض نفسها بقوة، والآباء والأمهات ليست لديهم خيارات. وأمام من؟ أمام أطفال أو صبيان وصبيات تعلموا أن يستخدموا الكمبيوتر والأيباد والهاتف الذكي، من قبل أن يستكملوا ملكة النطق.
البيئة المعرفية للتعليم في العالمين العربي والغربي على السواء تركت للمتخصصين. في المدرسة، يقوم المعلم والمدرس بواجبهما، والأهل من غير الاختصاصيين، وخصوصا في عالمنا العربي، يتركون الأمر لمذاكرة التلميذ أو يستعينون بالتدريس الخصوصي الجمعي والفردي. في العالم العربي يسود الحفظ وفكرة النجاح للحصول على درجات عالية تؤهل لتخطي المراحل الدراسية الكثيرة وصولا إلى الجامعة والمعدلات اللازمة للمنافسة. وفي العالم الغربي حيث الفهم أساس الممارسة التعليمية وترك التلميذ يؤسس لنفسه استعدادا لعالم متقلب، لا يحرص منهج التعليم بالضرورة على دفع الطالب نحو التخصص الجامعي دائما.
“لا أعرف” إذا مصطلح تابو الآن. هذا يضع المزيد من الأعباء النفسية على الأهل. تستطيع أن تنجو بتدريس الأساسيات من اللغة والحساب والدروس العلمية البسيطة. ما أن تدخل إلى مرحلة ما بعد الصف السادس، أي المتوسطة أو الثانوية، حتى تبدأ العقبات بالظهور. هذا جبر وهندسة مسطحة وفراغية. هذه فيزياء وكيمياء. هذه لغة إنجليزية لا تعرف منها إلا المفردات ولا تدرك هيكلة النحو والصرف فيها. في الحقيقة هذه لغة عربية كنت تعتقد أنك تفهم في صياغتها وإعرابها. فجأة أنت التلميذ أو الطالب الذي عليه أن يعرف لكي يعرّف ابنه وابنته. وعليك أن تفعل كل هذا بصبر وأناة وسعة صدر. الآن تعرف كم يعاني معلمونا ومدرسونا يوميا أما الجمهرة الغفيرة من تلاميذ وطلاب بمستويات ذهنية متباينة. طوبى لهم، يا لهم من صبورين!
هذا يأخذنا إلى الفكرة المعرفية نفسها التي نحتاج إلى إعادة النظر فيها. هل علينا أن ننكر أننا “لا نعرف”. حسنا، إننا اليوم نعيش اختبارا للمعرفة أو القدرة على إعادة التقاط المعرفة في هذا الظرف الاستثنائي. هل علينا أن نضع محرك غوغل أمامنا ونسأله ثم نرد على طفل أو صبي يعرف أنك تتلصص على غوغل وربما لا تربط الأمور بشكلها الصحيح؟ لا أعرف إن كان ثمة جواب حاسم في هذا الأمر. الآباء والأمهات لم يكونوا طلابا خارقي المعارف بالأصل للتعويل عليهم في استنباط المقبول والمطلوب. لعل هذا دور المفكرين والمربين والمعلمين والأكاديميين المحترفين. نحتاج إلى خارطة طريق، ترسم على وجه السرعة وليس من الضرورة أن تكون متكاملة المعالم أو أن تكون النهائية.
في العالم الغربي تجد الإرشادات في كل مكان. من وزير التعليم نزولا إلى الاختصاصيين الذين يكتبون أو يتحدثون على شاشات التلفزيون أو يستجوبون في البرامج الحوارية على الراديو تستمع منهم وأنت تقود سيارتك أو تطبخ وجبتك. لكن في عالمنا العربي نلاحظ أن تلمّس معالم الطريق يتم بصعوبة. قرأت لمدرسين تربويين في كليات متخصصة، ولديهم أفكار ناجزة وموضوعية. لكن السائد فيما تسمعه وتقرأه يبدو ضحلا وأشبه بتوجيهات لتجمعات “الكتّاب” الدينية القديمة أكثر منها فعلا تربويا رصينا. أعتقد أن مثل هذا الفعل التربوي الذي يوجه للآباء والأمهات يحتاج أن يكون أولوية من قبل مطالبتهم بأن يصبحوا معلّمين ومدرسين بالمصادفة. مرة أخرى نستدعي مثقفينا ومفكرينا ونقول لهم هذه ساعتكم: علمونا أن نقول “لا نعرف” لعل الموقف يستحثنا ونصبح “نعرف”.