شادي حمادي: الهوية المزدوجة
ولد شادي حمادي في ميلانو بإيطاليا عام 1988 من أب سوري وأم إيطالية. وقد فرضت عليه ظروف ولادته ونشأته وتعليمه الكتابة بالإيطالية. كتابه الأول “أصوات الأرواح”، 2011، “دار نشر ماريتي 1821”. في عام 2013 أصدرت “دار نشر آد” كتابه الأكثر شهرة “السعادة العربية”. وهو سجل أدبي شخصي مرتبط بالتحولات التي قادت إلى الثورة في سوريا، وهو الكتاب الذي وضع مقدمته الكاتب الإيطالي الحائز على نوبل داريو فو. في عام 2016 أصدرت “دار نشر آد” مجدداً كتابه “النفي من سوريا – كفاح ضد اللامبالاة”. في مطلع آذار – مارس 2021 سينزل إلى المكتبات كتابه الجديد “الثلاثية السورية”، وهو العمل الذي يختتم تجربة أدبية تترجم نظرة الكاتب إلى علاقته بذاته وعالمه القائم على ازدواجية الهوية وذلك من خلال تركيزه على تقصي التحولات التراجيدية التي عرفتها بلاد والده المهاجر منفيا إلى إيطاليا. والكتاب الذي وضعه الكاتب بالاشتراك مع والده محمد بمثابة لقاء جيلين وحوار ذكريات عبر مرايا الفكر والأدب والتاريخ في صيغة أدبية تمزج بين الشخصي والعام، ولا ترى انفصالا بينهماً، لاسيما في جوهر العلاقة بين الإنسان وعالمه، من خلال سيرة المنفي عن المكان الأول وعلاقته بالأمكنة الأخرى. أيضا إنّ كتاب شادي حمادي الأخير هذا هو بمثابة صفحات أدبية وفكرية تجري خلالها مكاشفات بين الأب والابن، تتيح فرصة للطرفين لإعادة تشكيل الصورة وتركيز معانيها، على جانبي وجود كل منهما في قدره الخاص كحامل لهوية مزدوجة بالنسبة إلى الابن، وهوية المنفي بالنسبة إلى الأب. هذا اللقاء مع الكاتب جرى في لندن حيث انتقل وأسرته إلى العيش في العاصمة البريطانية منذ العام 2017، وقد تركز الحوار خلاله على جملة من القضايا التي أثارها في كتابه الجديد، لاسيما قضايا من قبيل: المنفى والهوية والكتابة باللغة الإيطالية.
الجديد: ما هي الكتابة بالنسبة إليك؟ وكيف جئت إلى عالمها؟ وما الذي تتطلع إلى تحقيقه من ورائها؟
شادي: جئت إلى عالم الكتابة بعد حدث مأساوي. فجأة رحلت والدتي، اختفت من الوجود، وعمري ثمانية عشر عامًا. تساءلت: هل الله موجود؟ سؤال تسببت لي به حالة خلل نفسي نجمت عن صدمة غياب الأم. مرة واحدة وجدت نفسي نهب أسئلة وجودية. لم تكن لديّ إجابات ولكن فقط أسئلة. إذّاك لجأت إلى القراءة، بدا الأمر كما لو كان عملاً تلقائيا لباحث عن معنى الوجود، هل كان هذا مجرّد ردّ فعل؟ لا جوابا جازماً، كان كل شيء في حياتي قد بدأ يتغير، وكلما قرأت كتابا أو نصاً وجدتني أقرأ أكثر بحثًا عن إجابات شافية، وبدلا من أن أعثر على ضالتي تدفق عليّ المزيد من الأسئلة. بعد ذلك وجدتني أكتب، ربما إنني بدأت الكتابة بحثاً عن إجابات عن أسئلة لم أجد لها جواباً في ما قرأت، فرحت أبحث عن تلك الأجوبة في مكان آخر وبطريقة اخرى. ولعلي رحت أكتب في محاولة لتحليل نفسي وفهم ما كان يحدث لي. لكن إلى جانب الكتابة كعلاج، صرت أكتب لأفهم العالم وذلك انطلاقاً من محاولة فهم ظواهر وألغاز في حركة الناس والمجتمع استعصت عليّ معانيها واستغلقت دلالاتها.
الجديد: والدك سوري وأمك إيطالية. ماذا يعني لك أنك تتحدر من ثقافتين؟ هل كان هناك نوع من الصراع، نوع من النزاع الداخلي لديك؟، وأي الثقافتين هي التي رجحت كفتها عندك؟
شادي: لغتي الأم هي الإيطالية، وبالتالي فإن لساني إيطالي وثقافتي أيضًا إيطالية. ولفترة طويلة، كانت اللغة وثقافتها العربية مجرد مكتبة مبهمة في المنزل. حروف وكتابات على الأرفف غير مفهومة. في مرحلة لاحقة أدركت من أكون، وشعرت بأهمية أن أتعرف على الثقافة العربية، كانت اللغة بوابة تطل على المنفى. قراءة كتاب روائي لنجيب محفوظ في ترجمة إيطالية مثلاً تحولت إلى مدخل إلى الثقافة العربية. كانت الثقافة الإيطالية وسيلة من نوع ما لاكتشاف الثقافة العربية. لم أنظر إلى الفارق بين ثقافتين على أنه تناقض يفضي إلى صراع ولكنني وجدت اختلافا يسمح بالاغتناء ولقد حاولت باستمرار البحث عن النقاط المشتركة بين كلتي الثقافتين.
أب وابن
الجديد: “ابن وأب”. كتابك الأخير، هو عبارة عن مواجهة من نوع ما بين ابن وأب، سرديتان تنتميان إلى الحاضر، واحدة تأتي من ماض بعيد والأخرى من ماض قريب، واحدة من جغرافية المنفي، والثانية من الابن المولود في المنفى، واحدة من ثقافة شرقية خالصة، والثانية من ثقافة هي مزيج بين شرق وغرب، تفاعل فيها العربي بالأوروبي.. هل لك أن تضعنا في نوع هذه الكتابة.. هل هي في باب السيرة الذاتية؟ وهل تعتبرها نوعاً من الأدب؟ أم هي نوع من التأريخ الشخصي؟ وما طبيعة، أو جنس اللغة التي استعملتها في الإيطالية؟ ومن هو القارئ الذي تتوجه إليه؟
شادي: لا أعرف ما إذا كان هذا الكتاب جزءاً من خط أدبي جديد. في إيطاليا يطلق على أبناء المهاجرين اسم “الأجيال الثانية”. أولئك الذين يكتبون، يتم إدراجهم تلقائيًا في اتجاه أدبي يسمى “أدب الجيل الثاني”. وأعتقد أن هذا النوع من الأدب، يكاد يكون ظاهرة غير معروفة أو خفيّة في البلدان الناطقة بالعربية. بهذا المعنى، فإن كتابي موجّه من ناحية للقارئ الأوروبي لإخباره أن الذين يفرون من بلد مّا يفعلون ذلك لأنهم يخاطرون بحياتهم فيما لو ظلوا حيث هم في أوطان تحكمها سلط دكتاتورية وقمعية فاسدة، بالإضافة إلى إعطاء قيمة للتجربة التي يجلبها معهم هؤلاء الأشخاص المنفيون. عاش والدي في إيطاليا لعقود من الزمن حياة منفيّ، ولم يسأله أحد قط عما هرب منه، وظل صامتًا دائمًا دون أن يخبرنا بالألم الذي يحمله في داخله.
من ناحية أخرى، ألجأ في كتابتي للقارئ العربي لأخبره أننا موجودون أيضًا، نحن أطفال منشقون تعود أصولنا إلى العديد من الدول العربية ممّن شعروا بأنهم منسيّون. نحن نحمل معنا قصصاً غالبًا ما تبدأ بحجب السلطات البوليسية عنا جوازات السفر لوضعنا تحت الرقابة ومنعنا من المغادرة وهو ما يجعلنا نلجأ إلى الهرب بشتى السبل، في أوروبا غالبا ما تعاني الأجيال المتحدرة من العائلات اللاجئة من الشعور بالتهميش الثقافي الذي يصل إلى حدود الرفض من قبل البيئات المضيفة. فالعربية مرفوضة هنا في إيطاليا من قبل المجتمعات المحيطة. أكتب لأضيء على المشكلات والقضايا التي تعاني منها الأجيال الثانية من اللاجئين والمهاجرين العرب خصوصاً. أسعى ليعرّف العرب بالظاهرة العربية في إيطاليا، وأتمنى أن يكون هناك المزيد من الاهتمام الثقافي العربي بهذا الشتات الذي يمكن أن يساهم، بطريقة أو بأخرى، بشكل إيجابي في مستقبل العالم العربي.
الجديد: من دعا الآخر للكتابة المشتركة بين أب وابن، ما الدافع الأقوى الذي وقف وراء الفكرة، وكيف كان استعداد كل منكما للخوض في هذه التجربة، وكيف ترى الخلاصة، هل هي الآن في صيغة كتاب كما تراءت لك في البداية قبل الشروع في الكتابة؟
شادي: لسنوات خلت، لم نعتقد أبدًا أننا سنكتب كتابًا معًا. كيف يمكن القيام بشيء كهذا بين أب وابن يتحدثان قليلاً مع بعضهما البعض، بحذر شديد، ويقصران الحوار على ما هو ضروري، ويضيفان نبذة بين الحين والآخر، دائمًا بحياء وبشيء من الجهد؟ ثم نكبر، الأشياء تتغير، التاريخ يوجّهنا إلى مسارات غير متوقعة، السنوات تجلب النضج وتبدأ الحياة في طرح الأسئلة. تسأل عن الأسماء والقصص والماضي. إنها تحتاج إلى نقاط ثابتة لتبدأ في إرساء أسس مّا تتعلق بالمستقبل.
عندئذ تصبح الكتابة ضرورة، ويمكن أن تتحول إلى إيماءة مشابهة للحديث مع بعضنا البعض، وفي الوقت نفسه أسهل وأكثر تعقيدًا. أسهل لأن الكتابة تتطلب وقتًا، والوقت يتطلب التفكير، والتفكير يساعد في العثور على أفضل الكلمات؛ أكثر تعقيدًا لأن وضع نفسك على الورق يعني الاعتماد على شيء سيبقى إلى الأبد وبالتالي يجب أن تكون مخلصًا لتاريخك. لا يمكننا التراجع، ولا أن نحصر أنفسنا وراء صمت الظرف.
عندما بدأنا في كتابة هذا الكتاب، أدركنا أن ما كنا نرغب فيه، هو أن يكون نصًا حول العودة إلى سوريا، لكن لا يمكنه أن يكون كذلك لسبب بسيط هو أن العودة إلى أماكن أصولنا لن تحدث أبدًا. فعلى مدار السنوات، عانى كل واحد منا بطريقة مختلفة وعاش الوضع المعاكس للعودة: اغتراب مستمر. ثمة مَنْ دافع عن نفسه، باختياره وللضرورة، وبالعكس، ثمة من أُرغم لأنه كان من المستحيل القيام بخلاف ذلك على الرغم من أن الإرادة كانت تدفع في اتجاه آخر. باختصار، واحد منا ابتعد لإنقاذ نفسه لأنه نُفي، والآخر كان يودّ العودة لكنه لم يكن مرغوبًا فيه.
حلقة في مشروع
الجديد: هل يمكننا اعتبار كتابك الجديد هذا امتدادا لكتابك الأسبق “السعادة العربية”، على اعتبار أن كلا الكتابين يشكلان سرديتين لحياة أشخاص في عائلة.. ما هو التصنيف الأدبي الذي تعطيه لهذه الكتابات السردية؟
شادي: هذه الرحلة أو هذا العمل الجديد له جذوره التي بدأت، فعلا، مع خوض تجربة “السعادة العربية”، وهو كتاب صدر في عام 2013، ويروي ماضي عائلتنا، ويربطها بحياة بلد كنا نحاول تظهير ماضيه الخاص بنا إلى السطح. كان هناك حديث عن الثورة والربيع العربي والأحلام، والشجاعة، والإيمان بفكرة أن يتحول كل هذا إلى شيء دائم.
في تلك الصفحات أردنا الحفاظ على سرد قصص من سبقونا، محاولين رسم خط وهمي يبدأ في تلكلخ، وهي بلدة صغيرة تجثم على التلال المطلة على الحدود مع لبنان، وينتهي على خطى شاب ترك بلده وراءه في عام 1968، في ما كان يعتبر في السابق “رحلة إلى المجهول”، كما يقال باللغة العربية.
تحت هذا العنوان، يوجد في منزلنا العشرات من الصفحات والملاحظات المكتوبة باللغة العربية، في ملف حُفِظَ أولاً في درج بالقرب من السرير وَوُضِعَ لاحقاً في حقيبة، كما لو كانت تلك الأوراق ستغادر أيضًا. إنها نصوص تكون أحيانًا مُفَخَّمة، وأحيانًا قلقة، حيث حاولنا فيها تحديد اسم للذكريات التي تزداد ضبابية كل يوم وتواريخها وأماكنها.
وُلدت هذه الأوراق منذ زمن بعيد، عندما قام واحدًا منا، محمد، بتجميعها معًا، ونود أن نعتقد أنها بحاجة لكلينا ليتم أخيراً التقاطها وإكمالها، كما لو أنها وحدها لم تكن كافية لتصبح كتابًا مكتملاً، على الرغم من أن الحياة التي ترويها هي في كثير من الأحيان مغامرة كما هو الحال في أكثر من فيلم، مكوّنة من عمليات هروب ومغادرة وتغيير هوية. ولكن ليست القصص فقط هي التي تجعل الكتاب ممكنًا، بل اللقاءات هي التي تجعلها تولد، واللقاء الأقوى هو الذي يربط بين الأب والابن.
لذلك كانت “رحلة إلى المجهول” تنتظر وصول حمادي آخر، هو شادي، لتخرج من الحقيبة التي كانت تختبئ فيها.
نفي من سوريا
الجديد: في هذا السياق الذي نتحدث فيه، أين تضع تجربة كتابك “نفي من سوريا” الصادر سنة 2016؟
شادي: يحتوي هذا الكتاب على محاولة قراءة حاضر واستيعاب مجرياته، من خلال تجربة سياسية وثقافية تبدأ في ميلانو وتنتهي في بيروت. لقد كان نوعًا من يوميات بحّار، انطلق هذه المرة بمفرده في بحر عاصف حيث حارب فيه، مثل دون كيشوت، ضد طواحين هواء تمثلت في اللامبالاة التي كان يشعر بها حوله. في عالم مترابط بشكل متزايد، حيث يبدو الناس دائمًا متّصلين ببعضهم البعض. لم يتطور مستوى التعاطف مع البشر الآخرين بنفس معدل اتصالات الإنترنت. لكأنّ الكتاب تعبير عن خيبة أمل في مستوى رد فعل الرأي العام في إيطاليا والغرب على الربيع العربي، ولاحقًا على الحرب الدموية في سوريا. لقد تضاءل الانتباه، الذي كان مرتفعًا جدًا (أو هكذا كان يبدو) من قبل، في خلال الأشهر الأولى لانتفاضة السوريين. ولكن سرعان ما تدهورت الأمور في دمشق وحمص وحلب وفي كل ركن من أركان سوريا بشكل كبير. وبينما انصرف العالم للتفكير في شؤون أخرى، كان السوريون المنتشرون حول العالم عبثاً يجاهدون لإبقاء شعلة الاهتمام العام متوقدة.
التجربة التي يسردها ويقف عليها ذلك الكتاب، وخاصة المجريات التي أعقبت سلمية الأشهر الأولى للثورة، وامتدت لسنوات دموية، غيّرت أشياء كثيرة وغيّرتنا نحن الاثنين أيضًا، بطرق مختلفة، لكنها أدت إلى نفس الهدف. في هذه المرحلة أدركنا أن الكتاب الذي سيُكتب، وهو الجزء الأخير من ثلاثية عائلة حمادي، لا يمكن أن يكون، كما كنا نأمل، كتابًا مخصصًا لـ”العودة”، بل كتاب مخصص “لفهم بعضنا البعض”. ليس نصًا عن سوريا المستقبل الذي ربما لم يعد يعنينا بالطريقة السابقة نفسها، بل كتابًا لأب وابن حيث، بعد عام 2008، عندما اختفت غراتسيا، أم الابن وزوجة الأب، قبل الأوان، وجدا نفسيهما معًا، كل واحد بمثابة عائلة للآخر. ومع ذلك، في هذه المرحلة، أدركا أنه يتعين عليهما استعادة الأشياء التي تركاها وراءهما وسد فجوة في علاقتهما.
يستغرق الأمر وقتًا لملء فجوة نمت بين شخصين بالغين، خاصة إذا كان كل واحد منهما في هذه الأثناء، لأكثر من عقد من الزمان، مشغولًا بالتعامل مع حياته الخاصة.
لقد سرّعت الحرب في سوريا هذه العملية فقط لأنها كانت الحدث الذي أعاد فتح باب مغلق لسنوات، كما في لعبة المرايا، حيث بدأت صورنا تنعكس على بعضها البعض في الوقت الذي شرعنا للمرة الأولى نتواصل في ما بيننا ونتكلم. اكتشفنا بدهشة أن حيواتنا، على الرغم من اختلافها في كثير من النواحي، لديها الكثير من القواسم المشتركة، وكان هذا ممكنًا بفضل البصمة السورية المشتركة لكل منا وظلها الحتمي، المنفى، الذي أثر علينا جميعًا بطريقة ما.
بالنظر إلى بعضنا البعض، رأينا أشياءً جمعتنا أكثر من أيّ وقت مضى، لاسيما من تلك الأوقات التي أبقتنا صامتين لفترة طويلة.
لقاء وافتراق
الجديد: نفهم من حديثك أن الأب في سرديتكما المشتركة، وكذلك في الواقع، عاش في حقبة السبعينات تجربة الهجرة لأسباب سياسية، وها هو جيل الابن يواجهها بعد خمسين عامًا ولكن هذه المرة، المغادرة من إيطاليا لأسباب اقتصادية.. مغادرة الابن ليست عودة إلى سوريا ولكن سفر في الفضاء الأوروبي.. هل يصح هذا التوصيف؟
شادي: بالتأكيد يصحّ، والواقع أن الأب لم يعد لديه الرغبة في العودة إلى سوريا حتى لا يفتح الجرح ويجدد الألم، مقابل ذلك، كان الابن يرغب بشدة في عبور تلك الحدود ليعثر على نفسه ولكن لم يكن هناك من طريقة للقيام بذلك.
خلال رحلة نصف القرن في المنفى كان الأب قد عاش بسلام مع الثقافات العديدة التي اختبرها خلال رحلته العابرة لجغرافيا تقع كلها على ضفتي المتوسط، وأراد الابن التعرف عليها جميعًا بطريقة شبه نهمة ليستكشف ويستأثر على هويته الحقيقية.
كان الأب يؤمن بدوره الاجتماعي والسياسي في إيطاليا، وتبع هذه الرغبة حتى أصيب بخيبة أمل، وسعى الابن إلى الدور نفسه والاتجاه المثالي نفسه، ولكن لم يكن هناك فضاء يمكّنه من تحقيق ذلك، وكانت اليد العليا لخيبة الأمل.
وهكذا كلما اقتربنا من بعضنا البعض، أدركنا أن أوجه التشابه بيننا لم تتوقف عند حد.
فكرة الهروب
الجديد: هل لك أن تضعنا في صلب ما كان يدور بينكما في خلفية هذا النص الجديد، من موضوعات أثيرة؟
شادي: ناقشنا باستفاضة في هذا النص فكرة التنقل والاضطرار إلى الهروب ومغزاها، لأنها من أكثر الظواهر المأساوية في عصرنا، وهي أيضًا شيء يمسّنا بعمق. ليس من السهل المغادرة، فهي ليست كذلك أبدًا. تنظر حولك، تحزم حقائبك، تأخذ بعض الأشياء للسفر الخفيف. تطبع وجوه أحبائك في عينيك لأنك لا تعرف متى يمكن أن تراهم مرة أخرى.
نتذكّر دائمًا قصة أحد أقاربنا الذي لجأ إلى لبنان ثم هاجر إلى ألمانيا. في أحد الأيام ذهب إلى متجر لبيع الملابس وطلب من الموظف أن يعطيه أثقل سترة لديه “أعطني واحدة كما لو كنت ذاهبًا إلى روسيا!”. وابتسم. ابتسم الموظف الشاب بدوره، ولم يفهم تمامًا أن الجملة سقطت بطريقة سخيفة إلى حد مّا في الخطاب.
بعد ثلاثة أيام، كان ذلك القريب في الطائرة إلى تركيا، ومن مدينة تطل على البحر الأبيض المتوسط، إزمير ربما، كان سيواجه الرحلة إلى الجزر اليونانية، بصحبة رجال ونساء آخرين غير معروفين، ومواصلة الهروب فيما بعد، أحيانًا سيرًا على الأقدام، من اليونان إلى البلقان. كانت تلك السترة لروسيا هي ما كان يرتديه في مواجهة برد الشتاء، في رحلته إلى بلد جديد، ليبدأ منه حياة جديدة.
الجديد: سؤالي هو لماذا نهرب؟ ولماذا يستغرقنا كل هذا الوقت لنروي لبعضنا البعض حكايات الهروب؟ لماذا، لسنوات، لم نمتلك الكلمات لطلب الأشياء الصحيحة، الابن، ولإخبار قصته، الأب، وكيف يمكن ربط قصص الهروب بأسبابها المشتركة؟
شادي: في محادثاتنا حاولنا تظهير هذا الأمر، التطرق لحقيقة الدوافع في تجربة عائلتنا، وكذلك في التجربة السورية عموماً، حاولنا تلمّس هذا الأمر بطرق شتى إن في المحادثات في ما بيننا أو في استعراض الحالات والوقائع المتشابهة والمختلفة أيضاً، لكننا هنا في الكتاب الجديد يمكن أن نفعل ذلك بأكثر من طريقة، وعبر أكثر من حالة. مثلاً باستخدام كلمات مازن حمادة، وهو سجين سوري سابق سافر في أنحاء أوروبا ليروي قصته.
ذات يوم يزور رئيس السجن الزنازين “عندما يحين دورنا، ينهض الجميع، ما عداي: لم أستطع الوقوف مستقيماً بسبب جروح التعذيب وآلامه”، يقول مازن. نظر إليه الضابط، وسأله لماذا لم يقف متأهباً مثل باقي السجناء احتراماً له. “أجبته أنني أصبت من الضرب والجلد. ويا ليتني لم أفعل ذلك قط”.
ويتابع “أرسلوني إلى المستشفى العسكري في دمشق، القسم 601: قسم الرعب”. المرضى المقيدون بالأسرّة يبقون باستمرار تحت رحمة الحراس والأطباء الذين “يعطون الحقن بشكل عشوائي. تغرز الحقن بهم بقوة. لم ينادني أحد باسمي، ولكن فقط: رقم 1858”.
كل سجين يفقد اسمه ويصبح رقمًا. وذلك حتى لا يتم الكشف عن هوية الشخص حتى للأفرع الأخرى من المخابرات التي تعمل بشكل منفصل بعضها عن الآخر. “بدت حياتي السابقة على بعد سنوات ضوئية”.
كان مازن مهندس نفط عمل في شركة تنقيب فرنسية لها عقود في دير الزور. “كنت أفكر في أحفادي: لم يعد لديّ أخبار عنهم”، في مستشفى الرعب طلب مازن الذهاب إلى الحمام. “عندما فتحت باب المرحاض الأول رأيت ثلاث جثث، واحدة فوق الأخرى. في المرحاض الثاني، جثتان أخريان، استدرت ووجدت وجه السجان على وجهي. قال لي إنه يجب عليّ التبول على هؤلاء الجثث لأنهم ليسوا أفضل منّي”.
وبحسب مصادر مختلفة، فإن مازن، وهو لاجئ في هولندا، اتّصل به مسؤولون في السفارة السورية في برلين ووعدوه بسفر آمن إلى دمشق. حمادة، تحت رحمة نفسه، أشباحه، من دون أيّ دعم نفسي. عند وصوله إلى مطار دمشق اعتقل واقتيد إلى مكان مجهول. منذ تلك اللحظة بدأ كابوسه الجديد. شيء من هذا ما نهرب منه من تلك البلاد التي اسمها سوريا، وهذا هو ما ولّد الصمت الذي نمت فيه علاقتنا لسنوات. من هذا الألم.
عالم يغرق
الجديد: الكتاب الجديد، هل يمكننا إذن أن نعتبر الكتاب رسالة من عالم يغرق في الرعب والخوف، رسالة استغاثة موجهة إلى العالم، عن شعب بأكمله، أكثر منها حكاية عائلة أو مواجهة بين ابن وأب؟
شادي: بالتأكيد، فقد وضعنا في الاعتبار أشياء أخرى عديدة لدى شروعنا في الكتابة، أحدها أنه حان أخيرًا الوقت من أجل انتزاع الاعتراف من العالم بالمأساة السورية. والمقصود بالاعتراف تحقيق ذلك بطريقة واضحة ومشتركة، أي الإقرار أن هناك، في سوريا كانت ولا تزال حرب قام فيها نظام دكتاتوري بالفتك بمواطنيه بأبشع الطرق، لأجل أن يفرض وضعا جديدا على النظام السوري بتحمل المسؤولية الجنائية عمّا حدث.
على الجهة المقابلة من الحوار بين الأب والابن في الكتاب، هناك إيطاليا التي يجب أن نواجه أنفسنا فيها، بعنصريتها الزاحفة ويمينها القائم على كره الأجانب واندماج لا يزال بعيدًا عن أن يصبح ملموسًا. فقط للحديث عن العنصرية من المهم أن نتذكر ما كانت تمثل سيستو سان جيوفاني، لمحمد: مواطن أجنبي أصبح في ما بعد إيطاليًا ومسلمًا تم انتخابه أيضًا بفضل مساعدة كاهن أبرشية في واحدة من أكثر مدن إيطاليا تعلّقاً بالشيوعية ” تماس كهربائي لطيف، فكرة جميلة عن العالمية”.
بدت لنا قصتنا قصة إيطاليا محتملة، أي بلد يندمج فيه مهاجر وصل من الشرق الأوسط ليصبح ممثلًا سياسيًا، وبمجرد تقاعده، يبدأ العمل كمرشد سياحي في كنائس ميلانو. أن يقود مسلم السياح لاكتشاف كنائس مدينته التي تبنته، وقبل كل شيء، شكل من أشكال الحوار بين الأديان وقد اتفقنا على أنه ربما يكون هذا هو الإرث الذي تحمله عائلتنا: الشعور بالفضول من مكاشفات الآخرين، ومحاولة الاستماع الصادق، وإلقاء ثقل حقائقهم وراءهم. هذا هو الحوار.
وضع جيلين في مواجهة بعضهما البعض، بالتناوب بين الفصول التي كتبها الأب محمد مع تلك التي كتبها الابن شادي، في سؤال وجواب تتشابك فيه القصص والأوقات، وهكذا تعبر صفحات الكتاب الزمن من سابق على لاحق، وتصل بنا إلى اليوم، والنظرة من ثم على المستقبل. المولود في الثمانينات، في ذروة السنوات الذهبية، والجيل المتعلّم، غالبًا ما يكون من الخريجين الذين اضطروا، مع ذلك، إلى حزم حقائبهم بشكل جماعي والانتقال إلى بلدان أخرى، تمامًا مثل أجدادهم. وهكذا، حتى في قصتنا، في مرحلة معينة، ودّع الابن والده وغادر إيطاليا إلى بلد أوروبي مجاور، أي من دون أن يذهب بعيدًا، في النهاية، مع إمكانية العودة متى شاء، على عكس الأب الذي، قبل خمسين عامًا، كان قد صدر بحقه حكم بالإعدام لأسباب سياسية، وحياته مهددة لو عاد إلى بلده. ومع ذلك، فإن موضوع شادي هو أيضاً انفصال آخر، وهروب جديد إلى الأمام نحو زمن جديد مختلف.
في نهاية هذه القصة، لا بد أن نستخلص من الحوار الدائر بين الأب والابن، إلى أن الأسرة كانت دائمًا هي مصدر الدعم الوحيد الذي تشبثنا به، وكانت وحدها مصدر قوتنا.
في اللغة العربية يسمّى المنزل “بيت”. لكن المنزل ليس مجرد مكان مادي، مصنوع من الحجارة والإسمنت. هذا تعلمناه في وقت مبكر، وعندما نتحدث عن عائلة، على سبيل المثال عائلتنا، نقول “بيت حمادي”، والبيت والعائلة يجتمعان في مفهوم واحد. هذا أفضل تعبير نعرفه، كيفما اتفق باللغة العربية، للتعبير عن قوة نواة الأسرة.
الآن اتسع هذا البيت ودخل حياة جديدة، ولكن من أجل إبقائه قائماً، كان من الصواب أن يتم تعزيز جميع الجدران وأن تعود الأصوات تضج في الغرف.
“سوريتنا” التي أصبحت الآن كبيرة مثل العالم موجودة في هذه الصفحات ونريد مشاركتها مع العالم.
أثر الكتابة
الجديد: كيف كان أثر كتابيك السابقين لدى القراء الإيطاليين؟
شادي: الكتابان السابقان حققا حضورا جيداً باعا حوالي 10 آلاف نسخة. أن تكون كاتباً في شأن يبدو أكثر من إيطالي، شأن سوري إلى حد كبير، كان هذا نجاحاً بالنسبة إلى دار النشر. لكن بالإضافة إلى ذلك، فإن الأثر الذي تركه الكتاب حقق شيئا من التعاطف مع المسألة السورية فكم من الأشخاص اقتربوا من قضيتي وأبدوا تعاطفاً ملحوظاً، بفضل قراءة هذين الكتابين. والآن تتردد في رأسي تلك العبارة “لقد كانت بلداً جميلاً، لا يمكننا أن نفهم سبب حدوث هذا الذي يحدث” أخبرني البعض ممّن سبق أن وصلوا سائحين إلى دمشق أو تدمر. وبعد قراءة الكتابين، بدوا مدركين لحقائق أخرى، وفي حوزتهم فضول لطرح الكثير من الأسئلة. ولكم سمعت “كيف لم نلاحظ؟”. تكريم آخر هو أن داريو فو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، كتب مقدمة المجلد الأول، “السعادة العربية”. في تلك الصفحات، التي كتبها ذلك الرجل العظيم، أطلق صرخة مفتوحة من أجل خلاص أولئك الذين أصبحوا “عظماء العالم”.
الجديد: ما هي مشاريعك الكتابية بعد أن فرغت من هذه الثلاثية العائلية التي رويت من خلالها سيرة اجتماعية سياسية لعائلة وشعب؟
شادي: منذ عشر سنوات وأنا أكتب في رواية تبدأ وقائعها من سوريا الستينات وصولاً إلى ميلانو. إنها قصة أحد الناجين السوريين من السجن الذي يحاول بناء حياة جديدة في ضواحي تلك المدينة الشمالية العظيمة.