مدخل إلى القصة النسوية في فلسطين والأردن
يبدو تاريخ القصة القصيرة في فلسطين والأردن تاريخا ثريّا على وجه الإجمال، ويلاحظ المتابع لحياة هذا النوع الأدبي أنه عكس إلى حدّ كبير التفاعل مع النكبة الفلسطينية منذ عام 1948، ثم نكسة حزيران وما سبق ذلك وما تبعه من أحداث وهجرات، ذلك أن هذا القسم الجنوبي من بلاد الشام ظل قدره مرتبطا بما ترتب على هذه الهزّات الكاسحة وما أحدثته من تغييرات متشعّبة وجوهرية في البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية حتى وقتنا الراهن.
يمكننا القول إن مجتمع هذه المنطقة قد تحوّل إلى لوحة فسيفسائية متعددة الكسر والشظايا، وتمثّل جانب من هذه الفسيفساء – على المستوى الأدبي – في الميل إلى كتابة القصة القصيرة، ولقد استجاب هذا النوع الأدبي الفائق في حساسيته وكثافته لكثير من تحديات التعبير وسحر الموضوع، عبر بروز ألوان من “سرد المنافي” وهو سرد يميل بوجه عام إلى سرد الشذرات القصصية، الذي يتجلّى في القصة القصيرة بأنواعها الفرعية المختلفة، أو حتى في الرواية المجزّأة في مشاهد أو لوحات، أو الرواية المتمردة على اعتبارات السرد الخطي أو المتسلسل، وكل ذلك نعدّه مظاهر لمحاولات الشكل الفني للتجاوب مع تكسر الرؤية ومع انكسار الموضوع وتشظيه بصورة لافتة. ومع مجيء دور الأصوات النسائية فقد استثمرت المرأة الكاتبة سرد الشذرات؛ للتعبير عن حياتها الوجدانية واليومية، وعن بعض إيقاعات عالمها المتشظّي والمحطّم بصورة مضاعفة.
وإذا عددنا عام 1967 تاريخا فاصلا مؤثرا في منطقتنا، فإن الأسماء النسائية البارزة – قبل هذا التاريخ – نادرة وقليلة، ولا تكاد تجاوز بضعة أسماء أهمها أسماء: سميرة عزام، ونجوى فرح قعوار، ثريا ملحس. كما يلاحظ في هذه المرحلة ظاهرة الميل إلى استعمال الأسماء المستعارة كما يظهر على صفحات المجلات والصحف في عقدي الستينات والسبعينات، وله أمثلة في مجلة الأفق الجديد المقدسية صاحبة الدور التأسيسي والمركزي في تطوير القصة القصيرة في الفترة من 1961 – 1966، بل إن بعض الكتاب الرجال نشروا قصصا بأسماء نسوية مستعارة؛ طمعا في تشجيع الكاتبات الصامتات على الكلام، مثل اسم “زاهية” الذي تخفّى وراءه الكاتب محمد أبو شلباية، واسم “سناء عبدالملك” الذي نشر به أمين شنار بعض قصصه.
وفي العقدين التاليين شهدت القصة القصيرة ميلاد جملة من الأسماء الرائدة التي أسهمت في رفع شأن القصة القصيرة النسوية، ومن الأسماء التي برزت في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته على سبيل التمثيل: هند أبوالشعر، رجاء أبوغزالة، زليخة أبوريشة، سامية عطعوط، ليلى الأطرش، سهير التل، تيريز حداد، إنصاف قلعجي، ليانة بدر، ليلى السائح، مي جليلي… وبعض هؤلاء نشرن قصصهن في الدوريات والصحف التي شجعت فن القصة القصيرة، وأفدن من احتضان الصحافة الثقافية للقصة القصيرة إلى جانب تأثيراتها المتشعبة على أسلوب القصة القصيرة وعلى لغتها وبنائها.
أما الحقبة الحاسمة لظهور الأصوات النسائية وتعدّدها وتنوّع إنتاجها، فهي ما ندعوه بجيل التسعينات القصصي، فلقد تميزت حقبة التسعينات من القرن الماضي، بكثرة الأصوات النسائية وتميز إنتاجها، إلى جانب اتساع الوعي بالنبرة النسوية والتعبير عن قضاياها وصوتها مع التحرر نسبيا من الوصاية الذكورية ومحاولة التعبير عن الاشتباك مع الثقافة الذكورية الغالبة على المجتمع؛ ويفسّر هذا الوعي بعوامل تتصل بانتشار التعليم وكثرة المدارس والجامعات، وإذا كانت نسبة الأمية عالية في جيل الجدات والأمهات، فقد تراجعت هذه النسبة في فلسطين والأردن، وربما أسهمت الأحداث السياسية الكبرى في تسريع تفكك كثير من الاعتبارات الاجتماعية التي كانت تعوق تعليم المرأة، ولا تراها جديرة بدخول المدرسة أو استكمال دراستها، وإذا سمحت لها بالدراسة فإنها كانت ترى في ميلها إلى الكتابة والنشر أمرا يصعب تقبّله، فالطريق لم يكن ممهدا في ظل ثقافة تقليدية عنوانها التسلط الذكوري والنظرة الدونية للمرأة، وهي نظرة لم تشف منها الثقافة المجتمعية شفاء تاما حتى كتابة هذه السطور (حادثة أخيرة: تقبع في مستشفى الجامعة الأردنية في عمّان صبيّة صغيرة في سن العشرين، بين الحياة والموت، ضربها إخوتها وحبسوها لعدة أيام بمزاعم ذكورية!).
ولا تبدو كتابات النساء في هذه الحقبة مفاجأة للقارئ المتابع ذلك أنها سبقت بمخاض طويل كما يظهر من تتبع رحلة الكتابة النسائية، ولكنّ موجة التسعينات وما تلاها تميزت بتسريع التطور وفرض الحضور النسوي في وقت قصير مقارنة بالمراحل الطويلة السابقة، كما تميزت باقتراح إضافات بيّنة لا يمكن إنكارها تتصل بالتركيز على خصوصيات المرأة وتعبيرها الغاضب والصريح عن العالم من منظورها كامرأة، ومحاولة الانشقاق أو الاختلاف عن النظرة الاجتماعية المكرّسة التي يمكن عدّها نظرة ذكورية بحكم تاريخها وسيطرتها وتحكّمها لمدة طويلة في حياة النساء.
وفي هذه الحقبة، أي العقود الثلاثة الأخيرة، يمكننا من خلال متابعة هذا النتاج القصصي الذي كتبته النساء وضعه في اتجاهين؛ اتجاه نسوي (Feminism) معلن أو صريح، ظهر عند مجموعة من الكاتبات اللواتي امتلكن قدرا ملائما من الوعي بقضية المرأة، وقرّرن التعبير عنها صراحة دون مواربة، ودون ادعاءات الإبداع الإنساني الذي تتساوى فيه النساء مع الرجال، ذلك أن الواقع يشير صراحة إلى أن مثل هذه العدالة وتلك الإنسانية لم تتحقّق بعد، وما زلنا بعيدين عنها على مستوى العالم كله، فكيف الحال في عالمنا العربي الذكوري بشكل متغطرس وفاضح.
وأما الاتجاه الآخر فيمكن تسميته بالكتابة النسائية أي ما كتبته بعض النساء الكاتبات، ولكنه لا يمتلك وعيا نسويا فارقا بالمعنى المشار إليه في السطور السابقة.
وكلا الاتجاهين موجود في الكتابة التي نتحدث عنها، وينعكس في المختارات المرافقة لهذا الملف، فثمة قصص لا تستطيع أن تحدس بجنس كاتبها/كاتبتها لولا التصريح به، مما يشير إلى غياب الهم النسوي والرؤية الخاصة للمرأة، في مقابل بعض القصص التي ترتبط بنبرة نسوية لافتة، يمكن اعتبارها نماذج من السرد النسوي.
وهذه القصص التي يضمّها هذا الملف غيض من فيض الإنتاج النسوي، وهي مكتوبة بأقلام كاتبات ينتمين إلى هذه المرحلة الأخيرة على وجه العموم، وهي مرحلة نميزها بظهور جيل التسعينات من القرن الماضي كما ذكرنا سابقا، وهي مستمرة إلى اليوم، ومعظم السمات الفارقة التي تسم الإنتاج النسوي الجديد قادمة من حصاد ذلك الجيل، ويمكن القول بأننا نشهد ضروبا من إشباع تلك السمات والتنويع عليها.
وبالرغم من دخول عالمنا في حقبة تطور تكنولوجيا الاتصال وما أضافته من وسائط اتصالية وتواصلية جديدة فإن التفاعل بين الكتابة ووسائطها الجديدة – حتى الآن – لم يتعدّ استثمار تلك الوسائط المتعددة لغايات النشر والإعلام والتعميم، ولم يعدُ مؤثرا ملحوظا على مستوى التقنيات الفنية، ولكن يمكن ملاحظة بعض التأثيرات اللغوية، التي تفسّر بشيوع لغة الإنترنت ولغة الدردشة ومواقع التواصل، وهي تأثيرات هبطت أحيانا بمستوى اللغة القصصية إلى مستوى لغة الكلام المعاصرة، بما فيها من ركاكة وإهمال، وتركيز على الرسالة أكثر من الأسلوب، وما فيها من أخطاء فادحة إذا ما حوكمت بمعايير القوانين اللغوية الاعتيادية للعربية.
واختصارا لمؤدّى الكلام نختم هذه الإطلالة بأبرز خصائص القصة القصيرة المكتوبة بأقلام النساء، انطلاقا من متابعتنا الشخصية التي قد لا تكون ملمّة بكل التفاصيل، فهي رؤية قابلة للنقاش وللاختلاف. وفي ضوء ما سبق نرى أن الإنتاج النسوي منذ بداية التسعينات وحتى وقتنا الراهن يتوافر على بعض السمات الآتية، بدرجات متفاوتة، تفرضها اختلاف التجارب والمواهب والمشارب بين الكاتبات:
• ارتفاع الصوت الذاتي، والتعبير الوجداني التأثيري وما يستتبعه من حضور ضمير المتكلم، وهو غالبا ما يكون ضمير (المتكلمة) أي صوت الشخصية الساردة، التي تروي أطرافا من تجربتها انطلاقا من منظور ذاتي لا تدّعي تلك الساردة عموميته أو نموذجيته.
• يترافق مع البطانة الوجدانية المشار إليها طوابعُ شعرية متفاوتة الإتقان، منها كثافة استعمال الصور الشعرية التي تحدّ من نضج الجملة السردية ومن تتابعها، ولكنها تتناسب مع التعبير العاطفي والمنظور الذاتي، إلى جانب حضور القصة المشهدية التي تتقاطع مع ضروب السرد الشعري، وهو سرد تتغلب فيه الصور على المواقف والأحداث. ويتمثل هذا المنحى بصورة جلية في إنتاج جميلة عمايرة، وماجدة العتوم على سبيل المثال.
• هناك أيضا درجة عالية من غنائية القصة القصيرة، وإذا كانت الغنائية من الطّوابع المبكّرة في هذا النوع، فإنها في الإنتاج الجديد بلغت حدا عاليا وكثيفا، وفي بعض الأحيان أدت إلى ألوان من تداخل الأجناس والاقتراب من حدود قصيدة النثر ذات النفس السردي القصصي. ويظهر هذا بصورة بليغة في قصة سامية عطعوط.
• الميل إلى القصة القصيرة جدا، أو إلى صور فرعية من التقسيم والتجزئة، بحيث تتقسم القصة الواحدة إلى فقرات مستقلة أو منفصلة بعناوين أو أرقام أو علامات ترقيم واضحة، كأن القاصة في مثل هذه الكتابات لا تميل إلى التعبير عن عالم متماسك ممتد، وإنما عن بعض شظايا واقعها فيأتي تعبيرها أقرب إلى الشذرات من الكتابات المتماسكة أو المنظمة. وأكثر قصص هذا الملف يظهر فيها الميل إلى الكثافة وإلى القصص المكثفة الموجزة، أو المجزّأة في وحدات قصيرة، كما في قصص سامية عطعوط وأماني سليمان، وهدى فاخوري وغيرها.
• من ناحية الموضوع هناك مسألة التركيز على نقد الثقافة الذكورية، وإدانتها بصورة لا لبس فيها، بوصفها ثقافة ظالمة مستبدة في تعاملها مع الأنثى وأحيانا استغلالها بصورة فاضحة لتحقيق مآرب لا علاقة لها بدعاوى الشرف.. وهو موضوع متكرر أو نمطي ما زال يجذب الكاتبات وما زلن يبدعن في تقديم تمثيلات جديدة تثبت أصل المسألة كلها، وينقد ذلك الأصل نقدا قويا بغية تغييره وكشف زيف مزاعم الذكور المسنودة من الثقافة المجتمعية التي تنمّي تلك المزاعم وتربيها وتدافع عنها. (والقصة المتسلسلة التي كتبتها سناء الشعلان تعبير عن مجموعة من مواقف الثقافة الذكورية المزيفة).
• الميل أحيانا إلى موضوع الجسد، ليس بوصفه موضوعا شهوانيا، وإنما بوصفه وطنا وسجنا في آن، كأن ضيق الواقع انعكس على الاتجاه إلى الجسد بوصفه مكان الحرية والانعتاق المكان الوحيد الذي تملكه المرأة. الجسد هو البيت والسجن: (من قصة حنان بيروتي “لا بد بأني عدتُ للاستلقاء في جسدي، هو بيتي على أيّ حال، لكنه مثل الوطن بات موجعًا، يتسلل الألم ينبض فيّ كلي كأني سجينة غرفة تحقيق”).
• لا تغفل القصة النسوية الأحداث الكبرى، وإنما تدفع بها إلى الخلفية البعيدة، لتكون التفاصيل والمشاعر والمواقف النسوية هي الطبقة الأساسية، التي ترتد وتشف عن تلك الخلفية كتعليل أو تفسير لما هو في الطبقة الظاهرية. (يظهر ذلك في قصة نادية عيلبوني، وشوقية عروق منصور، وقصة حنان بيروتي على سبيل المثال).
• يتبع ما سبق غياب البطل بالمعنى التقليدي لصالح حضور الشخصية المشروخة أو المتألمة، فنحن في معظم هذا النتاج لسنا مع أبطال خارقين أو متميزين وإنما مع تميز الشخصية التي تكشف عن معاناة المرأة وآلامها ومعاناتها. وهذا بين في معظم القصص، فالشخصية غالبا ما تكون فتاة أو امرأة، وكثيرا ما تحضر الأم معها، وقد يظهر الأب أو الأخ لكن ظهورهما غالبا ما يكون معاديا!
• حضور ضروب من كتابة الاعتراف وبعض ملامح السيرة الذاتية، بما يعكس المواقف العاطفية واليومية أكثر بكثير من المواقف الخارجية أو العامة. وهذا أيضا ظاهر في موضوعات نسوية خالصة مثل التعبير عن تجربة الحمل أو موقف اكتشافه (قصة خلود المومني على سبيل المثال)، أو تقديم مواقف عاطفية من منظور نسوي (تجارب الحب الفاشل) وهذا ظاهر في نماذج كثيرة.
أخيرا، إن القصة القصيرة النسوية في فلسطين والأردن لا تبعد عن مسيرة القصة العربية عامة، فمن يعرف بعض تفاصيل المشهد القصصي في البلدان العربية سيلاحظ أن معظم الظواهر التي أشرنا إليها تكاد تكون من مشتركة أو متوازية، فهموم واقعنا العربي متقاربة، ومناحي الخلل فيه غير متباعدة، وكذلك الحال في سعي كاتباتنا العربيات في مواجهة هذا الواقع المرير.