"الأرض اليباب" على محك الداروينية
يحسن بي المبادرة إلى الاعتراف أولاً أن السؤال السجالي المراوغ الذي تملكني لدى الشروع بمواجهة هذا النص هو: لماذا يترجم عمل شعري مرة أخرى؟
لا شك أن ترجمة جديدة لـ "الأرض اليباب"، ملحمة إليوت الشهيرة لابد أن تثير التساؤلات المعهودة: إذا كان الجاحظ ومن بعده كثيرون لعل من أبرزهم اللساني جاكوبسن قد أكدوا استحالة ترجمة الشعر، وإذا كانت الترجمة خيانة كما يقرر سانت بوف، وإذا كان فعل الترجمة بحد ذاته يطرح مسألة الأصالة وعلاقتها بمطابقة مفترضة بين أصلٍ مترجم وترجمة لأصل فما لزوم صدور ترجمة جديدة؟.
في كتابه "صنعة الشعر" يذكرنا خورخي بورخيس بأن "الكلمات ليست ناقلة للمعنى بل حاملة لأشياء أخرى بينها الإيقاع وسحر الدلالة والأصداء العالمية للكلمات".
ما يغفله بورخيس، أو لا يحدق فيه، أن "الإيقاع وسحر الدلالة" خصيصتان مراوغتان تختلفان من أدب لآخر. ومن هنا تعذر الترجمة واستحالة تحقيق خصيصة آدبيَّة literariness الأصل التي يحتفي بها جاكوبسن أيما احتفاء.
هذه الملاحظة وما تحمله من محمول معرفي، تحث الباحث في ضوء ظاهرة الترجمات المتعددة لأعمال أدبية مهمة كالأرض اليباب رغم اعتراض النظريات غير المرحبة بترجمة الشعر، على النظر مجدداً في ملف ترجمة الشعر ممثلاً بدانتي وإليوت على سبيل تعداد القلة لا الحصر.
وبهذا المعنى تحيلنا الترجمة إلى العربية في تعدديتها وتباين نتائجها إلى بيولوجيا دارون ونظرية النشوء والارتقاء. تصبح الترجمة كما يفترض المرء نتيجة للتكرار داروينية في حرصها على الكمال والاكتمال. فالتكرار الذي تمثله تعددية ترجمة عمل أدبي مهم كالأرض اليباب، يظل – شئنا أم أبينا – فعلاً دارويني المنزع. وهذه الأدائية يبرهن على فاعليتها صديقي الشاعر والناقد فاضل السلطاني في كتابه البديع الذي يستعرض كمال واكتمال ست ترجمات عربية لرائعة إليوت، من خلال التحديق مجدداً، تحديقاً مقارنياً في نصوصها: تصويب هناتها الهينات حيناً، أو تعديل أو تصحيح كلماتها حيناً آخر، أو ربما اقتراح قراءة مدققة مستجدة في ضوء احتكام موضوعي للأصل الإليوتي. فلا شك عندي أنه يمكن القول إن الترجمة كالكتابة، تظل فناً يرمز بلا تردد، إلى رمزية الحكاية: رمزية لحمتها الرونق وسداتها الحساسية اللغوية.
هل قلت الحياكة؟.. لقد اخترت هذه الكلمة التي تماهي وتطابق عمل النساج وعمل المترجم عن عمد، لأشير إلى ماتنطوي عليه ترجمة فاضل السلطاني هذه من قابلية، وربما فاعلية، لتحقيق ضرب من الطباق اللغوي والشعوري بين نص بالانجليزية وآخر بعربية مسلحة بالدقة والرونق، أي تحقيق قدر معقول، من المماهاة بين الأصل والصورة.
وهذا النموذج الذي نحتفي به يقف على النقيض من نموذج آخر ألفناه في أدبنا العربي خلال العقود الخمسة الأخيرة وأعني به الترجمة من لغات أجنبية وبخاصة الانجليزية والفرنسية، ترجمة ربما يمكن القول إنها تفتقر إلى قدر من المراوغة، ترجمة حرة ذات مرجعية حداثية، مطلقة العنان وتتحرك فيها النصوص الشعرية بين اللغتين بلا عوائق ثقافية تتعدى اللغة وحمولاتها التعبيرية. ولعل أفضل مثال على هذا الضرب من الحركة، يكمن في قول الشاعر الأمريكي روبرت فروست (1874 – 1963) ان: "كتابة الشعر الحر هي أشبه بممارسة لعبة تنسٍ بلا شباك".
ولكن ما أبعد ترجمة "الأرض اليباب" عن هذا الضرب الحر من الممارسة. فالتناص intertexuality، أحد أهم العوائق اللغوية والثقافية في الترجمة، كما يتبين من هذه النقلة الاكتمالية المنزع للأرض اليباب، يعتمد أساساً على تقنية ما أدعوه بـ "الإلماعة" allusion أي الإشارة الموحية إلى تاريخ أو شخصيات تنتمي إلى ثقافات مختلفة وربما متباينة. كما أن التناص والإلماعة ينطويان على محمول معرفي باهظ، ويثيران أسئلة خلافية النزوع. ما مفهوم الأصالة؟ وإلى أي حد تكمن مرجعية النص الشعري أو الروائي في مخيال الشاعر أو الروائي، وإلى أي حد يمكن عَدّ،ها مصنوعة من آداب أمم أخرى؟
في الأدب الحداثي بنماذجه في الأدب الانكليزي (1910 – 1940) تعتبر الإلماعة أساس صنعة الأدب. إذا قرأنا "الأرض اليباب" (1922) مع إلماعات إليوت المصاحبة لها، نشأ لدينا انطباع مفاده أننا نجوس أرضاً حرة ومقيدة في آن. فالقصيدة هنا عبارة عن تجميع إلماعات "قصاصات". إنها كولاجات تصالح بين نصوص ثقافات مختلفة. وفي المرحلة التي تدعى ما بعد الحداثة (من الستينات حتى الوقت الراهن) يبدو للناقد أن الكتاب عموماً وأشهرهم أمبرتو إيكو في روايته (اسم الوردة) ربما أقلعوا عن إيلاء فكرة الأصالة حكم قيمة يدرج وفق مفهومها القديم. بل لعلهم صاروا ينظرون إلى الأصالة وكأنها نهر ضيق الضفتين، أي أن هذا المفهوم أعيد تعريفه مجدداً في ضوء جعل الأصالة معادلاً موضوعياً للابتكار. وبهذا تصير الكتابة كلها ذات منزع تناصي إلماعي allusive أي ذات مرجعيات تشير إلى ثقافات مختلفة وربما متباينة. بل إن التناص نفسه يصبح وكأنه مقصود لذاته.
والحال أن بؤرة التناص الإليوتي كامنة في نظريته بالتراث. وتعود هذه النظرية كما هو معروف إلى مقالة إليوت "التراث والموهبة الفردية" أي لعام 1917. وقد ترجمت إلى العربية مراراً واحتفي بها أيما احتفاء. في تلك المقالة رأى إليوت أن التراث هو أكثر من مجموع الأشياء الموروثة. إنه شيء يُعمل ويُجهد من أجل تحقيقه، يكتسب ويستعمل في تكوين "حس تاريخي" و"إدراك" ليس فقط ماضوية pastness الماضي past ولكن حاضره أيضاً. وهذه الماضوية المشخصنة سرعان ما أحالت السجال الإليوتي إلى ضرورة "نجاة الشاعر من العاطفة". كما سعت بدورها لحرف انتباه القارئ بعيداً عن الكاتب أو الشاعر. هذا فضلاً عن أنها فتحت الطريق (مع طروحات ريتشاردز ورانسوم وبروكس وأوستن وارن) أمام النقد الشكلاني الجديد الذي سيطر على النقد الانجلو – أمريكي لما ينوف على نصف قرن.
وبعبارة أخرى فإن إشارة إليوت في مقالته حول التراث إلى تفعيل التراث للحاضر يمكن تقريها حتى في رواية جورج أورويل (1984) التي نشرت في عام (1949) أي بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على ظهور مقالة إليوت. كما أنها بربطها بين التراث والحاضر والمستقبل، ومناهضتها للفكر الشمولي، تبدو وكأنها نبوءة بنُظُمٍ تعقب "الأرض اليباب".
فإذا كانت ملحمة إليوت ترصد في مستهلها "نيسان أقسى الشهور" فإن الجملة الأولى من رواية أورويل تبدأ على نحو موازٍ برصد شهر نيسان: "كان يوماً بارداً في نيسان، وكانت الشاعات تدق الثالثة عشرة..".
لا شك عندي أن سجال فاضل السلطاني مع التناص وإلماعات الأرض اليباب، سجال مثير للإعجاب. كما أنه يدل من حيث اكتماله على سيطرة معرفية متميزة على جل ما يتصل بإليوت ونظريته في التراث. فهو يناقش بدءاً من مرجعية النص الإليوتي ست ترجمات عربية للأرض اليباب: "لويس عوض وأدونيس ويوسف الخال وعبدالواحد لؤلؤة وماهر شفيق فريد ويوسف اليوسف وتوفيق صايغ".
وهذا السجال الذي تنطلق فيه الترجمة الجديدة يبدأ بمناقشة مستهل الأرض اليباب: "نيسان أقسى الشهور"، مثيراً بذلك مشكلة التناص والإلماعة اللذين تنهض عليهما القصيدة. يقول: "يفتتح إليوت هذا القسم بمقطع عن جدب عالمنا المعاصر من خلال تصوير نيسان شهراً قاسياً، ليس لأنه شهر صلب المسيح كما يعتقد د. عبدالواحد لؤلؤة بل لأنه قاس بالنسبة لأولئك العاجزين روحياً. فهو بداية الربيع الذي تتفتح فيه الطبيعة وينبثق الجمال بينما هم غير قادرين على التمتع بخيراته...".
الاعتراض على تفسير عبدالواحد لؤلؤة يمكن أن يبدو مقبولاً إذا كانت الإلماعة هنا تقتصر على الإشارة إلى صلب المسيح، وليس مقبولاً إذا اقتصر على ذلك ولم ينظر إلى الإلماعة باعتبارها تحيل بدورها إلى إلماعات أخرى لشهر نيسان.
وأحدها وليس كلها إشارة السلطاني إلى قصيدة تشوسر القائلة: "عندما تتساقط في ابريل زخات المطر الطيبة الرائحة".
هنا تكمن مشكلة إحالات التناص في شعر إليوت. فهي تتجاوز المحمول المعرفي لإحالة واحدة. وفي كتاب الناقد الأميركي Seth Lerer وعنوانه "التراث" Tradition تفصيل مفيد لهذه النقطة. فاستهلال القصائد بالإشارة إلى شهر نيسان تقليد يعود إلى بدايات الشعر الانجليزي. إذ كانت القصائد التي تعود إلى القرون الوسطى تربط بين الربيع والحب، بين نيسان والرغبة. وهذا أمر طبيعي. فالاستهلال النيساني صار إلماعة تبدأ بها أعمال أدبية كثيرة لعل أهمها رواية (1984) لجورج أورويل. وهذه الرواية تفجر لدى الناقد المشار إليه مجموعة من الأعمال الأدبية التي تتصل بكوميديا دانتي الإلهية.
وهو يسعى إلى توسيع مفهوم الإلماعة بحيث يستوعب نشاط أورويل الفكري نفسه وانشغاله الشديد بقراءة ملحمة دانتي. بل إنه سرعان ما يعرِّج إلى ديكنز ومقالة أورويل عن روايته "ديفيد كوبرفيلد" التي يشير في مطلعها إلى دقات الساعة في شهر نيسان: "ولدت.. يوم جمعة.. بدأت الساعة تقرع فشرعت بالبكاء".
وهكذا يتعزز المفهوم الإليوتي للتراث فيكتسب، ويستعمل في تكوين الحس التاريخي وإدراك ما يتجاوز ماضوية الماضي بل حاضره أيضاً. والحال أن الترجمة الجديدة للأرض اليباب لا تغفل أهمية هذا المفهوم، بل لعلها تؤكد في طموحها غلى مضاهاة الصورة بالأصل، على استعارة البيولوجيا الداروينية. فالترجمة الجديدة هنا تصبح بهذا المعنى محاولة لتجاوز ترجمات ست، وربما البرهنة من خلال قراءة مقارنية مدققة على نجاعة هذا المقترب.
وأخيراً كنت أظن أن هذا التقديم الموجز يمكن أن يطفر إلى أفق معرفي ابعد من الترجمة، ولكن هذا ما يحاول الكتاب أن يفعله. التقديم لا يمكن أن يختزل الكتاب. كما أنه لا يقدم غلقة closure لأفق، بل يقترح فضاء خلافياً يرفض التموقع حاضن فكرة الثبات.