الأكل الحلال
“تفضّل! تفضّل!”
انتفض مسعود الفتّوكي لهذا الصّوت الغليظ الذي أخرجه بغتة من شروده. انتبه فإذا نادل ملتحٍ، يرتدي لباسًا أفغانيّا بقميصه وعرّاقيّته، يقف أمامه على رصيف هذا الزّقاق الذي دلف إليه خطأ ويدعوه إلى الدّخول، وهو يبستم ابتسامة تجاريّة ويمدّ ذراعه اليمنى ناحية المدخل. رفع مسعود عينيه إلى اليافطة التي تعتلي المحلّ، “مطعم الفردوس”، ويافطة أخرى أقلّ حجمًا على يمينها، “كلْ ما تشاء وادفع ما تريد”. قدّر أنّها حيلة أخرى من حيل أصحاب المطاعم، فمن يصدّق أنّ عَرفه يبيع بضاعته بما يريده الزّبون.
تحاشاه، وأراد الرّجوع من حيث جاء، غير أنّ الرّجل استوقفه من جديد:
– “ألا تشعر بالجوع؟
– بلى، ولكنْ…
– “فلتدخل إذن ولتهدّئ جوعك، ولك أن تدفع في وقت لاحق، أو لا تدفع، سيان عندنا. فغايتنا رضاء ربّ العزّة ذي الجلال والإكرام.”
كانت المدينة عامرة بنور ظهيرة ربيعيّة زاهية، ولكنّ العابرين كانوا كلّهم عابسين مكفهرّين، تائهين في شوارعها، لا يستقرّون على وجهة، تتقاطع طرقاتهم في الغدوّ والرّواح دون أن يكلّم أحدهم الآخر، أو يردّ تحيّته. كلّ واحد منهم في شغل عمّن سواه، يتناوبه الهمّ والحيرة والخوف ممّا قد يأتي به الغد. منذ أن اجتاح الجراد البلاد ونهب كلّ ما فيها، تناقصت الأغذية يومًا وراء يوم، وعمّ الجوع، وازداد الإثم والجريمة، إذ ثمّة من رفض الاستسلام لهذا الوضع البائس فمضى يشنّ على الجيوب التي استثنتها الخصاصة حرب استنزاف. استطاع البسطاء أن يطفئوا غائلة الجوع بأكل الحشائش وأوراق الشّجر وظلف التّين الشّوكي وقشور البطاطا وسيقان الذّرة، ولكنّ اللّحوم ظلّت متمنّعة عليهم. ما عادت ملاليمهم تكفي سوى لابتياع قطع من الهياكل العظميّة للذّبائح، بعد أن أتوا على كلّ ما يدبّ على الأرض وتحتها.
ومسعود، برغم عدم انتمائه إلى هذه الشّريحة، بوصفه فنّانًا تشكيليًّا، لم يعد يجد هو أيضًا ما يطعم، ولولا أنفته لاضطرّ مثلهم إلى مزاحمة الدّوابّ المتبقّية في العلف. في ذلك اليوم، خرج كعادته بغير غاية، لا يدري أين يولّي وجهه، ولا ما يريد. حسبه أن يحوّم في المدينة لعلّه يثبّت بفرشاته لاحقا ما تعانيه البلاد في هذا الظّرف، عسى أن تكون للأجيال القادمة شهادة حيّة عمّا جرى. حتّى قادته قدماه إلى هذا المكان الواقع قرب حيّ لافاييت.
تردّد، ثمّ انقاد لدعوة الرّجل الذي كاد يدفعه دفعًا إلى الدّاخل. هو يكره هذه الفئة وفكرها السّلفيّ، ولباسها الغريب، ولحاها المحنّاة، وعيونها المكحّلة، ولكنّ الجوع كافر، لا يعرف عقيدة ولا أيديولوجيا. ما كاد يجتاز العتبة حتّى ألفى نفسه في قاعة مرتّبة بعناية. جدران مرصّعة برسوم خزفيّة وأطر مذهّبة تحوي سورًا وآيات من الذّكر الحكيم، يتوسّطها إطار كبير كتب عليه “هذا من فضل ربّي”. ثمّة كونتوار عريض يجلس خلفه رجل بدين أبيض اللّحية، في لباس عاديّ، يصدر أوامره بالإشارة فيهبّ النّدل من مطبخ على يسار الكونتوار، يرفعون الأطباق والدّوارق ويأتون بغيرها. لفت انتباهه سعة القاعة التي تشغل فضاءها موائد كثيرة جلس إليها زبائن مثله، وهم منهمكون في الأكل والشّرب، لم يرفعوا رؤوسهم عن أطباقهم ولم يعيروا الزّبون الجديد نظرة. بدا له أنّهم يعملون بشعار هذا المطعم الغريب، يلتهمون ما أمكن لهم التهامه، ويملؤون بطونهم كما تُملأ القِرب والمزاود، ما دام المقابل في كلّ الحالات زهيدًا يحدّدونه بأنفسهم، بعد الشّبع.
جلس مسعود إلى مائدة صغيرة مربّعة ذات كرسيّ وحيد في ركن منزو، يستطيع الجالس فيه أن يمسح بنظره القاعة كلّها. جاءه نادل ضامر ناحل ذو لحية خفيفة يبدو فيها الشّعر كالنّبت في بلقع يباب بقائمة المأكولات، وقال في ابتسامة بلهاء تبين من تحتها أسنان صفراء نخرها السّوس والقذارة “اختر ما شئت. كلّ شيء متوافر والحمد لله”. ثمّ تركه وانسحب لقضاء شأن آخر لا تَعدمه المطاعم.
ذهل مسعود عند رؤية الأطعمة المقترحة. فرك عينيه مرارًا وتكرارًا وهو لا يصدّق ما رأى. شرائح لحم عجول ودجاج وديكة روميّة، ضلوع خرفان، سمك من كلّ الأنواع، جراد البحر… كلّ ما تشتهيه نفسه وما عادت تصل إليه حتّى في أكثر لحظاته تفاؤلا موجود على هذه القائمة. تردّد طويلا وهو حائر لا يدري ماذا يختار، وكلّ الخيرات طوع يده. سال لعابه بعد جفاف، ورغبت نفسه بعد ضنّ. أخيرًا قرّر أن يطلب تشكيلة من لحم الضّأن المشويّة: قليل من الضلوع والكبد والقلب والكلى إضافة إلى المرقاز، مع شيء من السّلطة والبطاطا المقليّة. سيكون فعلا طبقًا ملكيّا.
نادى النّادل وأبلغه طلبه.
اكتفى الرّجل بأن قال: “نِعم ما اخترت.” وهو ينفحه تلك الابتسامة البلهاء.
ولكن ما كاد يتّجه إلى المطبخ، حتّى انتاب مسعود ندم شديد. من أين سيدفع ثمن طبق كهذا وليس في جيبه ثمن رغيف؟ ثمّ تذكّر النّادل “الأفغاني”، فهدأ روعه. ألم يقل إنّهم لا يبتغون سوى مرضاة الله، وأنّه سيان أن يدفع الزّبون أو لا يدفع لقاء ما استهلك؟ اطمأنّ لذلك واستعدّ لطبقه الشّهيّ بلهفة الجوعان، ولو أنّ أمرًا أثار انتباهه. منذ دخوله، لم تلامس حليمات الشّمّ لديه أيُّ رائحة، والعادة أن تفوح روائح الأكل في المحلّ كلّه وتنفذ أحيانًا خارجه، لاسيّما عند القلي والشّيّ، فتثير حاسّةَ الشّمّ لدى الحريف خصوصًا إذا اشتدّ به الجوع.
لم يطل انتظاره.
أقبل عليه النّادل خفيفًا وتلك البسمة لا تفارق وجهه، ووضع أمامه طبقًا ودورقًا فارغين، مع كوب من البلاستيك الأبيض، فارغ هو أيضًا. قدّر مسعود أنّ الرّجل سيجيئه دون شكّ بالمشويّات والمشروب الذي يختاره، غير أنّ النّادل اكتفى ببسمة عريضة هذه المرّة، وقال:
– “هنيئا مريئا!” وهو يفتح كفّه مشيرًا إلى الوجبة.
واستدار يهمّ بالانصراف، فناداه مسعود وقد نما في صدره دهش ارتياب:
– “أين الأكل؟
– هو ذا أمامك.
– ولكن… ولكنّ الطّبق فارغ، لا شيء فيه.
– بلى. إنّما الأعمال بالنّيّات. صفّ نيّتك ترَ في صحنك كلّ ما تشتهيه نفسك.
– أنت تمزح طبعًا؟ قال مسعود وهو لا يفهم بالضّبط هل ما يعيشه حقيقة أم كابوس.
– “كلاّ!” ردّ النّادل وقد تصنّع الجدّ. “هذه أطباقنا ونحن نحسد عليها.”
وأضاف وهو يومئ برأسه ناحية الموائد الأخرى، حيث النّاس منكبّون على الأطباق، يلتهمون ما فيها بشراهة المحروم:
“انظر بنفسك.”
مدّ مسعود البصر أمامه ومن حوله، فإذا النّاس تكرع من دوارق فارغة، وتغرف من صحون لا شيء فيها، وإذا بعضهم يلحس أصابعه يستوفي ما لَهِم، وإذا منهم من جعل يأكل أصابعه يتلذّذ ويستزيد. عند رؤية أولى إصبع مبتورة، غشيت مسعود رغبة في الغثيان، فخضّت بطنه الخاوي تشنّجات اعتصرت أمعاءه. قام قومة عنيفة، واندفع نحو الباب بقوّة. كسر في اندفاعه بعض الأواني، وأوقع “الأفغانيّ” الذي أطلّ برأسه على قفاه، وقد استثاره الضّجيج ولغط المحتجّين. ومضى يركض هاربًا لا يلوي على شيء.
أسند ظهره إلى جدار يستردّ أنفاسه، فإذا صوت يأتيه من خلف:
– “تفضّل! “تفضّل!”
اختضّ لسماع الصّوت، فإذا “أفغانيّ” آخر، أدنى قامة، وأكثر جسامة، وأكثف لحية، يلبس قميصا فوق سروال دجينز وينتعل حذاء “نايك”، يشير إلى محلّ علّقت عليه يافطة عريضة بخطّ الرّقعة “مطعم الملائكة”، وتحتها يافطة أصغر حجمًا “”كلوا هنيئًا مريئًا، بلا مقابل!” يدعوه إلى اجتياز عتبة مطعم.
أعاد الرّجل: “تفضّل!” ولكن بلهجة فيها صيغة الأمر. بدا التوتّر في عينيه السّوداوين الصّغيرتين اللتين تلمعان ببريق عدوانيّ. “هذا مطعم حلال.”
– شكرا، قال مسعود.
– ألست مؤمنًا؟
– “بلى”، ردّ مسعود في اندهاش وهو لا يفهم ما علاقة الأكل بالإيمان. “ولكن ليست لي شهيّة إلى الأكل الآن.”
وانسحب على عجل مخافة أن يرغمه الرّجل على الدّخول. ولكن ما كاد يبتعد بضعة أمتار حتّى رأى شابًّا يغادر أحد المحلاّت هاربًا كأنّ في ظهره النّار، وما لبث أن برز خلفه رجل ملتح يلوّح نحوه بالتّهديد ويصرخ متوعّدًا:
– “يا علمانيّ! يا ملحد! سترى حسابك!”
أسرع مسعود يعبر الشّارع الضّيق إلى الرّصيف المقابل، وهو يتوجّس خيفة من هذه المحلاّت الغريبة التي نبتت فجأة، وأسلوب القائمين عليها في استدراج الزّبائن عنوة. لا شكّ أنّ الشّابّ فرّ بجلده مثله، بعد أن رأى ما لا يخطر على بال. وهو في طريقه إلى بيته بالحلفاوين لينال لقمة ولو كانت كسرة خبز وقطعة جبن، فوجئ بأنّ محلاّت مماثلة رأت النّور حيثما مرّ، “مطعم الرّيّان”، “مطعم الكوثر”، “مطعم بارق”، “مطعم سلسبيل” “مطعم البيدخ”… وأنّ على أبوابها ملتحين بنفس أزياء القرون الغابرة يستحثّون العابرين على الدّخول. وإذا هي منتشرة في مدينته انتشار مطاعم ماكدونالد، يكاد لا يخلو منها نهج أو زقاق.
ولم ينقض النّهار حتّى كان خبر تلك المطاعم على كلّ لسان. وسرعان ما تلقّفه مراسلو وكالات الأخبار الأجنبيّة، فأذاعوه عبر العالم كشيء لا يصدّقه العقل، وراحوا يتحدّثون عن البلاد وأهلها كعجيبة من أعاجيب هذا الزّمان، وهم لا يفهمون كيف يقبل عاقل أكل أصابعه، فإذا هو عاجز بين يوم وليلة عن ارتداء ثيابه وحلق ذقنه بنفسه، وعن توريق كتاب أو تصفّح جريدة، عاجز حتّى عن مسح دبره.
عندما صارت الظّاهرة حالة عامّة، بدأ النّاس يتساءلون عن الدّافع، فقيل من نهم، وقيل بل من ندم.