مغالطة القصد في الشعر والنقد
للوهلة الأولى أفترض أن يشير استفتاء “الجديد” إلى تعددية ربما كانت مفقودة، تعددية تماثل تعدد الشعراء المشاركين. أفترض هنا أن المخيال الكامن وراء التعددية يشبه أوركسترا صامتة تحدد من خلال العازفين واقع الشعر العربي الحديث. أعترف أنني اخطأت في الصدور عن فرضية كون طموح الشاعر أقوى من استراتيجية التحقق والوصول. أقول إن الفرضية تحيل إلى ما يدعى بمغالطة القصد. غائية الشاعر التي تكشف عنها المغالطة لا تعني بالضرورة أنه حقق في شعره ما قاله في استجاباته خارج الشعر.
ويمكن القول، أخيراً، إن القضايا التي تثيرها قراءة مدققة للأجوبة عن أسئلة الاستفتاء قابلة للاختزال في النقاط التالية:
أولا: السؤال عن وجود مشروع، بل التساؤل عن إفصاح شعرية خفية في أعمال الشاعر، شعرية تخطيط مسبق أو استراتيجية لم ينتبه إليها النقاد، ربما كان وسيلة لاستدراج الكشف عن صنيع الشاعر نفسه وعن تجربته الخاصة. ولكن ما يرشح عن بعض الاستجابات حديث عن الشعر باعتباره قيمة جمالية مطلقة لحمتها الفلسفة ووسادتها جموح المخيلة. وربما توقع السؤال حضور مشروع كان يفضي (تجنباً للإقرار بعدم حضوره، وهو إقرار قد يوحي بالنقص أو الانتقاص) يفضي إلى اعتماد لغة نقدية مستمدة من نظرية الأدب، لغة منفوخة الأوداج أو مفعمة بتواضع غير حقيقي. والتواضع هنا قرين التعاظم وليس نقيضه.
ثانياً: تبدو الإجابات متشابهة أحياناً، ربما لأنها، بطريقة أو أخرى، مستمدة من استجابات شعراء يتمتعون بحضور عالمي، استجابات ذات كمال واكتمال. وتعليل ذلك في ظني أن الأجوبة صارت شائعة في الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية. هل يعني ذلك هيمنة كوزموبولتانية تقليدية المنزع في حقل الجواب عن سؤال حول شعرية خاصة بالشاعر العربي الحديث تجعل الجواب متعذراً؟ وهل يصح القول هنا بخفة إن الأجوبة من هذا المنزع ربما تبدو أشد اكتمالاً من الشعر نفسه، أو أكثر مقروئية؟
ثالثاً: النقاد الذين لم ينتبهوا لهذه الخصيصة أو تلك، ربما ليس من المغالاة أنه يندر وجودهم. بعد المرحلة التموزية في سيرورة الشعر الحديث والتخلص من البلاغة بحثاً عن بلاغة شخصية، أو استجابة لدعوى الخلق من عدم (بهدف القول بنفي وجود تناص معرفي أو جمالي بين شاعرين ينتميان إلى العقدين الأخيرين) يصبح النقد متعذرا أو شبه متعذر.
هذا الزعم لا يستمد عقلانيته النقدية باستبعاد النقد الأكاديمي بطيء الحركة فحسب، بل تكمن مشكليته في الارتداد إلى مرجعيات خارجية حاضنة ذات دوران نشيط حول ذاتها، مرجعيات تمثل “بارادايم” رامبو وبودلير ومالارميه وويتمان على وجه التحديد. مشكلية هذا الارتداد تكمن في اقترابه أو ابتعاده عن البارادايم. المماهاة القريبة والبعيدة تصير مطلوبة لذاتها. فكأن قصيدة النثر واحدة من حيث تحقيقها لمثل أعلى وحيد.
في هذا الفضاء الافتراضي أنظر عبر منظور “متشائل” لأقول متردداً لا متمتماً إنه فضاء طوطمي تعترضه في نهاية البرزخ خصيصة تدعى “الغلقة” (Closure) الكلمة التي توصف بأنها تتحدر من مصدر ديني فهي البداية والنهاية في وقت واحد. لا أريد هنا أن أستنتج فأزعم أن الشعرية العربية استحالت من التصنيم إلى التسليم، بل أتساءل محاذراً إبرام حكم نقدي: أين موضعة التجربة الشعرية من سيرورة مغيبة؟
رابعاً: قبل الحكم على التجربة الشعرية خلال عقدين أو ثلاثة من الضروري الكلام على موضعة التجربة، وأعني بذلك الإشارة تخصيصاً إلى أن اكتشاف الآخر (يقول التموزيون) أدى بالشعراء المحدثين إلى اكتشاف الذات. قراءة رامبو وويتمان أسفرت عن اكتشاف الحداثة في القدامة. وأدى هذا السبر والاكتشاف إلى موضعتها في سياق ثقافي ومعرفي. في ظني أن هذه الموضعة مستمرة لم تنته بعد.
خامساً: التخلص من الريادة صحيح إذا نظرنا إليها من منظور المنافسة بين الملائكة والسياب، ولكنه غير صحيح على إطلاقه. شكسبير وبودلير وثيرفانتيس وباسترناك ووالت ويتمان مازالوا رواداً. العرب وحدهم لم يتفقوا في اليونسكو على رواد لهم يشار إليهم بالبنان. شأنهم في ذلك شأن الأمم الأخرى. فالشعر، كما هو معروف، مؤسّس اللغة بالمعنى الأنطولوجي.
سادساً: قراءة الآخر تحيل إلى ما أشار إليه الناقد عبدالفتاح كيليطو بالفرنسية (ترجمة عبدالعزيز شبيل) حول اللغة المحمولة المجازية للنقاد العرب ينقل كيليطو عن ابن رشيق أنه في العصر الجاهلي كانت القبيلة من العرب، إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس. ولم يكن باستطاعة المحدثين أن يطمحوا إلى مثل هذه المكانة المبجلة. لذلك تحملوا “البلاء” بصدر رحب وحولوا الاحتفال إلى داخل القصيدة. لقد كان من الواجب النظر إليها على شاكلة عروس رائعة الثياب لم يكن ينقصها لا الزينة ولا الجواهر. إلا أن العرس رغم ذلك لم يتم: لقد اتهم المحدثون بجريمة خنق العروس، فتحولت بسبب ذلك إلى مومياء جامدة التقاطيع يدعوها كيليطو بـ”العروس المخنوقة”.
في تقديري أن هذا الدرس النقدي الذي يذكر بـ”الإيماجيزم” يجعل من الممكن النظر إلى الشعر العربي ليس باعتباره ديوان العرب فحسب، بل بكونه مفهوما عابراً للأنظمة المعرفية (Interdisciplinarity) فلنقرأ الشعر العربي مرة أخرى.
سابعاً: الكلام على النقد والنقاد يحتاج إلى وقفة أخرى. لماذا يكتب النقاد العرب بلغة متشابهة وربما متماثلة؟ لأن قراءتهم للشعر لا تنطلق دائماً من الخاص إلى العام (من النص إلى القول النقدي) لأن مرجعياتهم تعتمد المستجدات النظرية في النقد الغربي من دون أن تحاول تجاوز الدُّرْجَة (الموضة)، من دون أن تحاول الموضعة.