عين على المستقبل
1
في واقع الحال، أجهل ذلك. قد أجد أيّاً من تلك الأجوبة في رأسي، لكن دائما ما ينقصها شيء. ربما عليّ أن أطرح هذا السؤال على رغبتي أكثر من عملية الكتابة ذاتها. رغبتي تتفوّق، إرادتي قليلا ما تكون.
ليست أبدا من ضمن قاموسي حول الشعر، كلمة مشروع. بتلقائية أتجه نحو هدف مستبطن في ذاتي وأريده أن يتخلّق داخل النّص. أن يتجلّى كوعي يتسع ويرحّب بما من شأنه أن يجعلنا نستضيف الوجود بأنسب ما يمكن؛ والأنسب لا يكون إلاّ شعريا حسب زعمي. إن كان من مشروع قد أدعيه، فلتكن ببساطة هذه النيّة.
أريد من القصيدة أن تكون مستقلة بذاتها، أن تكون الحقيقة التي تخيفُ الظلم والكراهية. أن تبرز الإنساني فينا وتعمّقه، وأن تطمس كل أنا زائفة، بتخليصها من معتقدات ما تزال تشكل عقبة بالفعل. أن تخفت نبرتها لصالح توليف هارموني هادئ للأفكار والمشاعر النقية. أن تكون بمثل حبكة السماء وتوَسُّعها الدائم، في أسلوب شربة حساء بسيطة. أن تكون دائما وأبدا فنّا وخيالا متجدّدين، فكرا ناصعا حرّا خاليا من التصنّع والتلقي التربوي التعليمي المنحاز بتعمدٍ والذي يجعل منا نسخا مكرّرة. أن تكون ثورة هادئة، وإصغاء متواليا إلى الدواخل. أن تكون صلاة، تصلنا بضمائرنا، بذاتنا الحقيقية. أن تكون قوّة قلب. جرأة في التصوّر أبعد من حدود المرسوم للعقل وللذاكرة والحسّ بفعل العادة. أن تكون نبشا في الباطن وحفرا في الأحاسيس لحظة تشابكها النبيه مع الإدراك واللغة.
ما أحاول عمله في الشعر هو ما أريده من القصيدة.
2
حتى الآن، تبدو تجربتي بعيدة عن المتناول نقديا. لأسباب تنطوي عليها القصيدة نفسها، ولمعاناة يعيشها النقد مع ذاته. ولأسباب أخرى لست معنيّاً بها..
3
التصورات الذاتية تصاحب قراءة منجز الآخرين دائما، وتغذّي نفسها به. ممكن لقراءاتك المتعدّدة أن تضع بين يديك حلا سحريّا لأشياء ظلت مستعصية في سؤال تجربتك الخاصة. وانجذابك لكتابة الشّعر، لا يُفسّر إلاّ باستعدادات محضة. نداء غامض، هوى ذاتي نحو تعبيرات هوية، باللغة. تتحرّك داخلك كهيولى، منذ زمن لا تعلم متى هو. هناك معلمون كبار، يقفون في خفاء القراءة كيافطات أمام مهمة الكتابة. وقد ينصب لك عقلك أو حماستك وأنت تقرأ لهم فخاخا عن غير قصد، تفشل في التخلص منها لتكون ذاتك. وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث.
ثمة شعراء بالطبع، لا يمكننا تصوّر الشعر العربي على حاله الآن، من دونهم. وقد تركوا أثرا فاعلا. والمسالك التي أضاءوها في أعمالهم كما فعل غيرهم من شعراء العالم، كانت تحمل لنا شيفرة إمكانية الانطلاق نحو تجلٍّ شعري مُغاير. بمعنى وجود تركيبة خيميائية تسعف دائما بكتابة نصٍّ ينطلق من تصورات خاصّة، من حوار داخلي مع الوجود والعالم والنصوص.
4
مثل هذه الآراء أحترمها، ونقيضها أيضا؛ لكنّ الآراء تظل أراء فحسب، وتتطلب قدرا من المسافة. أعتقد أن ما ينقص هو التمعن في التجارب التي يمكنها أن تُحدث فارقا مهما. تبدو جغرافية الشّعر الآن، كمتاهة غابوية. والنشر يحدث بتوال تلقائي كماكينة صرف النقود، وليس هناك أيّ مجهود مبذول لتقييم ما ينشر. كثير مما ينشر تنعدم أهميته، وهذا أمرٌ طبيعي جداً.
5
لا علم لي بما يحدث لأصحاب التجارب اللافتة، ومعاناتهم الصامتة. أعتقد أنّ لكل شاعر ظروفه وطريقته الخاصة في مواجهة العالم والنص الذي يكتبه. هناك شاعر لبناني معروف، هو عباس بيضون، أغدق على الفايسبوك كتابة شعرية تكاد تكون يومية عن الحالة الفريدة التي نعيشها اليوم مع الجائحة. أعجبتني هذه الهزة الارتدادية الشعرية المباشرة، لكنها لم تغريني بالكتابة أنا أيضا. فلست أستبطن شكلا من الوضوح والتماسك الكافي حتى أكتب مثله؛ ذهني مشتت لأسباب أخرى وظروف خاصة. ربما آخرون كما تشيرين أخرستهم الصدمة؛ لا علم لي عن الصمت المعذِّب لهؤلاء. لكن ما حدث مربك حتماً للجميع. بالنسبة لي، هذه الغرائبية المفجعة أحدسها كنقلة ممكنة في وعينا وتجربتنا الأرضية عموما، وشعريا على نحو أخص. نحن موجوعون ومُحفَّزون بهذا التحوّل في آن. أظنُّها النقلة التي ستحدّد الكثير من الأشياء في المستقبل، وتخلق بالتأكيد، في نواح عديدة، مسارات أخرى جديدة، لم تكن في إمكان التوقّع.