أريد.. لا أريد!
السؤال والإجابة ليسا وجهي عُملة، والسؤال ليس مفتاحًا لأيّ جواب. السؤال عصا خرافية، بقدراتٍ لا يمكن التكهن لا بقوتها، ولا بضعفها. السؤال قنبلةٌ، قد تكون قنبلةُ حلوى فتغرقك بالسكاكر، وقد تكون من طين حمأٍ فتعيد تشكيل طينتك فلا تعود تعرف من أين ولا إلى أين، هذا إن كنت تظن نفسك عارفًا!
لماذا تكتب الشعر؟ سأغمض عيني وأختار إجابة. يا الله يا خالق الشِّعر والنثر، والبشر والحجر، والطير والشجر، والمعكرونة والفول؛ نابته ومُدمَّسه، يا مُجعّد شعور السمراوات لتجعلهن مكتملات، وسابل الستر على عيوب الشقراوات، مرة بزجاج أعين ملون، ومرات بأظافر وردية بلون الخجل، أو بِذرّات نَمَشٍ تتألق كقمح أنهكته أيدي الحُصّاد، يا جاعل البنات أحلى في عيون الأولاد، وجاعل الأولاد أجمل في أعين البنات، يا عاقد ظلّ كلّ ولدٍ ببنت، وظلِّ كل بنت بولد، لتُكمل روحًا بروح من دون أن تنتقص شيئًا من روحك. يا صاحب الميزان العدل، ساعدني على الاختيار، لا تجعل سؤالي قنبلة، لا من غاز ولا من حلوى، ولا أريد قنبلة من حمأ مسنون، تكفيني حيرتي في خلقي الأول. أريد إجابة للسؤال: لماذا تكتب الشعر؟ أنت بلا شك تعرف لماذا تكتب الشعر، أما أنا فلا أعرف، وحقك، والله، لا أعرف. سأترك إذن السؤال على بابك، هنا، تحت دوّاسة الأقدام، وأعود – كلما استطاعت قدماي حملي – لأرى لماذا جعلتَني أكتب الشعر.
آه، اغفر لي، نسيت بقية السؤال الصعب، لم يكفهم أنه سؤال مطلسم ابن جنيات وشياطين، فجعلوه معقودًا من أربعة عقد، ونفثوا في كل عقدة طلّسمًا أنقح من أخيه، مُطْلَق لا يستقر ولا يتواضع، كعناصر خلقك الأربعة: الطين والماء والهواء والنار. هذا هو الطين، وهذا هو الماء، وهذا هو الهواء، وهذه هي النار، فأعطوني كونًا، أعطيكم إجابات على مربعكم الفاره كظهر حمار جحا الشيطاني، الذي كلّما همَّ بركوبه ارتفع ظهره حتى اقترب من السماء، وكلما أهمله وقرر الرحيل انخفض ليغريه بالركوب. أربعةُ عناصر في كونٍ، وأربعةُ أسئلة في سؤال، لا أظنها مصادفة، لا شيء في كونك يحدث بلا سبب، لكننا يا الله، وأنت العالم، نخجل من السؤال، ونخشى من التفكير، ونملّ من البحث، ونتردد حين تنفتح علينا الاحتمالات، فنترك الأمر كله لك. فاسمح لي أن أضع بقية الأسئلة هنا، عند أركان الدواسة، على الركن اليمين – حين تكون القدمان متجهتان صوب الباب لتدخل سأضع سؤال: ما الذي تريده من القصيدة؟ فيخف ثقل قلبي. وعند الركن اليمين حين تكون القدمان متجهتان خارج الباب سأضع سؤال: وما الذي تحاول عمله في الشعر؟ فيخف ثقل روحي. وبعد خطوتين من الدواسة سأترك السؤال الرابع: هل لديك مشروع شعري؟ يا الله، ارتحت كثيرًا الآن، فماذا كنا نقول؟ آه.. صحيح، مِنْ أين لي بإجابات على هذه التساؤلات الأربعة الصعبة المعقدة؟ أنت صاحب السرّ، وجوهر الأمر، فاقض ما أنت قاض. وأنا سوف أراوغهم، أضيع بعض الوقت في مشاكسة بقية الأسئلة، إلى أن يأتي المَدد.
أرسل لي حلمًا صافيًا كدمعة طفل، أقابل فيه هذا الولد القديم التائه بداخلي، لأسأله إن كانت قَدمه انزلقت وهو صغير، فهوى على أم رأسه في قاع بئرٍ خاوية فأصدرت صفيرًا مهولًا اخترق أذنيه وعشش في قاع جمجمته فصار يرى الأشياء كما لا يراها الناس. وبات كلما حاول الكلام غَمُضت صوره عنهم، فقالوا: شاعر! يمضغون الكلمة يا الله كأنما يقولون: ساحر، والعياذ بك من السحر والسحرة.. أرسله يا الله، أرسله في الحلم، وأنا كفيل به، أعرفه ويعرفني، وإن ضعنا عن بعضنا منذ سنين، بيننا مودة ومحبة ولعب وأسرار وتفاصيل لن نشغلك بها، وهو لن يكتم عني شيئًا، سيجيبني إذا سألته، فقط أرسله، واسمح لنا ببعض الوقت، لأعرف منه متى – بالضبط- ارتكب، ارتكبت، هذه الحماقة؟ متى صار يرى بين الأشياء روابطَ ناعمةً وماكرة، كأن الكون كله يطير في ندف قطن نظيف وخفيف تملأ ما بين الكائنات من فراغات. لا فراغات في هذه الكون، إنها تشكيلات موازية، يراها من تصيبه اللعنة التي يسمونها شعرًا، يشعر بها بل يُبصرها، وكلما همَّ باقتناصها في صورةٍ ليشاركها مع الناس تبدلت وتحورت، وعليه – مثلما يفعل سيزيف – أن يعيد القراءة والصياغة والتصوير.. يا الله تعرف أن الفراغات، أقصد الكائنات الموازية المختبأة في شكل فراغاتٍ لا يراها الناس، مراوغة، وتعرف أننا تعبنا من متابعتها بأعيننا ومخيلاتنا وكلماتنا، فهي تروغ وتراوغ وتتلوى وتتراقص وتصب في آذاننا أصوات موسيقى وغناء لنطرب وننشغل. أرسله يا الله، فأعرف منه مَنْ أفسد عقله فصار يتحدث بالكناية، وينشغل بالصور والموسيقى مهما كانت خفية، ويقارب الأشياء ولا يفصح عنها! لأسأله كيف لا يرى في الحجر مثلًا حجرًا، كبقية خلق الله، إنما يرى طلعَ زهرة النحّات، وهو ليس بنحّات يا الله، لكنه يرى الراقدين في الصخرة، يراهم آلهة كانوا أم مسوخًا، كواكب وأقزام وعماليق وشهبًا تتهاوى من علٍ، يراهم ويفكر ولا يأبه لمن يزجره: يا ولد هذا مجرد حجر. وقس على هذا كل شيء، يرى في كل شيء طَلْعَ زهرةِ الشيء! أرسله يا الله، لأعرف منه لم يُشبَّه الوقت مثلًا بالثمر، منذ شهد طلعة الصبح مرَّة من بوابة بيتهم، ومن لا يشاهد طلعة الصبح من بوابة بيتهم! لكنه لسبب أنت تعرفه، شاهد في الوقت نفسه إوزّات نشيطات، يركضن نحو الترعة الفائض سطحُها بالماء، فتجلى له الكونُ كلُّه حبَّة توت في كف ملاك، لم يكن أوان توت يا الله، لكنه يحب التوت ويذكر لحظته الآسرة عندما اعتلى ظهر شجرة توت للمرة الأولى في حياته، كانت تتدلى بثقل أغصانها وحبيباتها المنتفخة على النيل، فاستقر التوت في خياله لحظتها بالماء والخطر ولمعة الشمس وصراخ الأولاد وخشيته من أمه حين يعود، التوت شهي يا الله، لك هذا التوت أشهى من كل توت تذوقه بعد ذلك في حياته. لحظتها بينما أجنحة الإوزات تصنع موسيقاها الخاصة من الترتطام مع الهواء والتراب والماء أيقن أن الظهيرة المقبلة ستكون عناقيد عنب تتسلل بين أغصان شجيرات أم الشعور على شاطئ الترعة المقابل، وأن الغروب المختبئ ما زال في الأفق البعيد سيكون حبة خوخ ناضجة تدير ظهرها للسماء،… حديث يطول يا الله، فقط أرسله لي في الحلم، أرسله، فبيني وبينه عتابٌ لا ينتهي وأسئلة لا تنام. أرسله، سأهمس في أذنيه بما كتبه ناقدٌ عن النصوص التي زرعها في نَفسي وغادرني أو غادرته حين ظل متشبثًا بطفولته الآمنة، كتب الناقد مطالبًا متلقي نصوصي بالتسلّح “بكثير من التوقع الذي يجعله متهيئاً لهذا النوع من الإبداع الذي لا يتمسح في القارئ كقطٍّ أليف”، فعلى القارئ – كما يقول – أن “يُدرك أنه يجوس في عالمٍ وحشى من العلاقات اللغوية، وعليه أن يتسلح بكل ما في جعبته من حسّ المغامرة لكى يستمر في هذا الصراع بينه وبين هذا النص الذي لن يسلم نفسه بسهولة للمتلقي الذي تعود على التجوال في حديقة مهذبة” (1). هذا أنت يا أنا، هذا أنا يا أنت كما أوجزنا الناقدُ في عبارة بعد أن انتهك سرّ لثغتي الفكرية ولجلجتي مع الأحرف والكلمات في محاولة رصفها وتقريبها لِما يتخبط من أفكار وصور في جمجمتي، لِما أراه من أشكال تملأ فراغات الكون وتكمل المعاني، لِما أسمعه من موسيقى منسابةٍ كغزل البنات بين ثقوب اللوحة الكبرى، لِما يتراقص أمام عيني من ظلالٍ ينشغل عنها الناس بالمعتاد والمكرور… أنتَ فتحتَ النافذة وألقيتني وسط هذا الضجيج وغادرت، منذ ذاك الحين أحاول الطيران ولكني لست بطائر، وأنتظر السقوط فلا أسقط، أشير للناس فيشيدون برقصي! وأحدثهم فيقولون “عالم وحشي من العلاقات اللغوية”! هذا عمل يديك، وسأطعنك بالسؤال حين نلتقي فاستعد.
أرسله يا الله لأصف له كيف أعاني، ليس مع الشعر، ولكن مع من يظنونني شاعرًا، ويسألونني عن الشعر، كيف أجيبهم يا الله، وأنا معلّق في نقطة بين السماء والأرض، لا أنا بطائر ولا أنا بملاك، ولست حتى شيطانًا أنفخ النار فأغيبهم عن وجهي. ماذا أقول لهم عنه؟ أأقول هو المَسُّ المتوهج من الغريب والمفاجئ والمدهش والخارج عن المألوف والكاذب والمتخفي والموارب والمازج الحقيقة بالخرافة والمُخفي الحقيقة في لغز؟ هل أتحدث عن الشعر باحترام كما ينبغي؟ أم ألعنه وأسفه سلسفيل جدوده كما يستحق؟ كيف أصف هذا الكائن الذي يفقد صفته بمجرد التباسه بصفة؟ الشعر ليس موجودًا لنَصِفَه! قلت لهم من قبل “الشعر ليس مؤهلًا لمخاطبة اللحظات الراهنة. الشعر ليس خطاب عاقل يعظ مجنونًا، ولا عارفًا يخاطب جاهلًا، ولا شيخًا يوجه مريديه، ولا خطاب معلم يُرشد تلاميذه. إنه خطاب الخيال، خطاب الإيمان بالقدرة على صنع مستقبل يخلو من فساد اللحظة” (2). يبدو كلامي عاقلًا وموضوعيًا! والموضوعية ضرب من المستحيل في الشعر، هو مستحيل لأنه إذا تحقق سوف تنهار الشعرية كلها.
أرسله يا الله، سوف أعترف لك، وَلَهُ عندما ترسله في الحلم، بأنني كنت أكره الشعر، وأحار طويلًا أمام محاولات مُعَلّم اللغة العربية وهو يشرح مواطنَ الجمال في عباراتٍ لا أشعر حيالها سوى باللزوجة، تعلمت أن أسكت تجنبًا لجدال ينتهي دومًا باتهامات بالكسل وعدم الانتباه، تعلمت أن أتركه – بلا ضغينة – يُبين لنا كيف أن جمال الصورة يكمن في أن الشاعر شبَّه شيئًا بشيء أو حذف المشبه به واستعان بصفةٍ من صفاته، فيما يسمى استعارة مكنية، وأخرى تصريحية وثالثة بليغة. “احفظها كما هي ولا تتفلسف”، يهمس زميلي. “ومَنْ أنت لكي لا تعجبك صور شعراء المهجر؟” “لا يهم إن أحببتها، اعرف القاعدة لكي تتمكن من الإجابة”. سوف أعترف لك، وَلَهُ، وأطلب منك أن تُنزل عقابًا شديدًا بواضعي مناهج اللغة العربية في مدارسنا ومدارس آبائنا من قبلنا ومدارس أبنائنا من بعدنا، آمين. قل لهم – أرجوك – إنك لا تهتم بما يُروّجون له من أن اللغة العربية لغة مقدسة، وأن شكل حروفها مقدس، ونظام كتابتها مقدس، وقواعدها مقدسة، وأن نظام عملها البلاغي مقدس! بل حتى صُورها البلاغية الناتجة عن استخدام هذا النظام البلاغي مِنْ بشر عاشوا في أزمنة غير أزمنتنا وماتوا وشبعوا من الموت وقَبله من الحياة.. مقدسة. ها أنا قد وضعت الحكاية كلها بين يديك فاقض ما أنت قاض، ولكن أرسله لي في الحلم لكي أقول له إن نفوري من الشعر هو ما قادني إلى كتابته؛ فهمت الأمر بصورة مختلفة، ربما. ورطت نفسي، ربما. كنت منذوراً للأمر منذ البداية، ربما منذ عثرت على مخطوطات أبي بخطّ يديه الرشيق، وأحبار أقلامه الملونة، فصرت أقضي الليالي سائحًا هائمًا مستمتعًا في مملكة من كتاباته الشعرية والنثرية وتخطيطاته ومختاراته من أشعار وأقوال على صفحات كراساته الصفراء. كنت أتصفح أوراق الكتب الضخمة فلا يستوقفني فيها سوى خطّ يد أبي، تجذبني تعليقاته المنمنمة بأحبارٍ ملونةٍ رأسيًا وأفقيًا موزعة على هوامش الصفحات، كانت تسحرني، فأقلّب الكتاب بين يدي متتبعًا اتجاه يد أبي، ثم أعود لأبحث في المتن عن ذلك النص السحري الذي جعله يكتب كل هذه التعليقات، وأتساءل لِمَن ترك هذه الهوامش؟ لِمَن وضع هذه الجمل الاستفهامية والتعجبية؟ ولماذا يرسم دائمًا علامتي الاستفهام والتعجب ضخمتين وكأنهما كائنين يضجان بالروح، أو كأنهما حارسين على قمم شوارع تصنعها العبارات؟
أظنها تلك الليالي، أظنه ذلك المخزون من المتون المكللة بالهوامش الملونة والتساؤلات الحارقة، تسلل إلى عقلي وذاكرتي بلا وعي مني. أظنه هو البذرة التي انغرست في روحي من دون إرادة مني، جزاءً لفضولي وتسللي، فأنبتت تلك النبرة المتمردة والنظرة الساخرة والتعليقات المُرّة التي جعلت علاقتي بمدرسي اللغة العربية دومًا غير طبيعية سلبًا أو إيجابًا، كأن يكتب لي الأستاذ إبراهيم سمية في الصف الرابع الابتدائي في مقدمة كراسة التعبير كلامًا عن أصغر مضغتين في جسم الإنسان يميزان المرء عن أترابه، القلب وللسان. وأن تناصبني أبلة دلال العداء في صفوف الإعدادي لأنها تظنني أسخر منها، كلما صنعت سؤالًا أو تركت تعليقًا، أظنه – والله وأنت أعلم – في صميم الدرس الذي تشرحه! أو أن ينهرني الأستاذ الذي لن أذكر اسمه في الصف الثانوي كلما سألته سؤالاً ويذكرني بأننا في حصة لغة عربية وليست فلسفة! أرسله يا الله، لعله يتذكر معي تفاصيل تلك الأيام، لنتذكرها معًا ربما تخففت من تأتأتي وقلت شعرًا مما يُعجب مدرسي اللغة العربية، ويرتاح له من يرونها مقدسة بحروفها وبلاغتها وشعرها وصورها ومجازاتها… ولا يعود النقاد يصفون تجربتي – على قلّة ما أكتب – بالعالم الوحشي من العلاقات اللغوية. لا أريد أن أكون وحشيًا يا الله، أريد أن يشعر الناس بما أكتب، لا أريدهم أن يفهموه، فالشعر ليس خطاب عقلاء، ولا حتى مجانين، الشعر أداة قتل، ضحيتها المستهدفة الوحيدة: الاعتياد، هذا الاعتياد الوحش الذي يضعنا كل يوم في دائرته، فنعتاد كل شيء، نعتاد البؤسَ، نعتاد القتل، نعتاد الخيانة، نعتاد المهانة، نعتاد الخنوعَ والتضرعَ والقسوةَ والوضاعةَ، ونعتاد القبحَ والفسادَ والكراهيةَ، الاعتياد يهذبنا ويقلم أظافرنا ويصطادنا، يسقطنا في شباكه على مهل، فنعتاد. على الشعر أن يقتلَ هذا الاعتياد، وأن يدرك تمامًا وهو يصنع صورته أنها مثلها مثل سابقاتها منذورة للفناء، وإلا سقطت في فخ الاعتياد. وحدهم الذين يعرفون من عُمق أرواحهم أنهم راحلون، يعيشون بعد رحيلهم، لأنهم عاشوا بخفة الراحلين. أرسله يا الله، أرسله، فقد تورطتُ ولا أعرف ماذا أقول، أرسله لعلنا نصل إلى حل.
منذ أيام فقط، صارحني ابني الصغير يوسف – بطريقته المميزة التي تبدأ الكلام من نهاياته أو من منتصفه فيُسقطك أو يعلقك داخل فكرته ثم يستكمل متقدمًا بالحوار أو متأخرًا به – “أعرف أنك شاعر، وأرجوك لا تغضب، فأنا لا أحب الشعر، بل لا أطيقه”. لم يقلها بهذه الكلاسيكية بالطبع، قالها بفصاحته الخاصة التي تليق بصبي يناهز الثالثة عشرة. تذكرتُ أبي وهو يدق بأصابعه على حرف سور السطح ليقرب لي معنى تفاعيل العروض، وتذكرت معلم العربية نفسه في الصف الثانوي وهو يؤكد لي إن العروض علمٌ أكبر من أن أستوعبه. هل تعرفون هؤلاء القتلة الذين يرغمون أطفالهم على تناول طعام لا يحبونه ويصرخون في وجوههم “إنه لذيذ”؟ ماذا لو قالوا: “نعرف أنه ليس لذيذًا – أو نعرف أنك لا تستسيغ طعمه – لكنه مفيد؟ لا، إنهم يصرخون بوجوه حمراء من اليقين “إنه لذيذ”، لقد اعتادوا طعمه. ويريدون أن تقع أنت أيضًا وذائقتك فريسةً للاعتياد. قلت ليوسف “العجيب أنني مثلك، لا أحب الشعر، وأخجل عندما يصفني أحدهم بالشاعر”، ولم أقل له أنني أحسه وصفًا ميكانيكيًا يشبه الاستعارة المكنية؛ إذا شَبَّهْت مشبهًا بمشبه به وحذفته ثم أبقيت صفة منه… فقد صنعت استعارة مكنية. كُلْهَا، إنها لذيذة، كُلْهَا ولا تتفلسف فنحن في حصة لغة عربية وليست فلسفة.
أنا مثلك يا يوسف، لا أحبّ الشعر، أتشكك دومًا في جماله، وأراجعُ ذائقتي معه بين حين وحين، ولا أحب الشعراءَ الذين يؤمنون بأنهم شعراء، ويحبون أن يسميهم الناس شعراء. أرواح الناس كالبالونات إذا امتلأتْ باليقين تيبست فلا تعود صالحة لاستقبال ولو نسمة صغيرة من هواء الآخرين تُغيّر من اعتيادها المؤبد على هوائها الذي فسد وتحنط. كل روح امتلأت بيقينها فسدت وتحنطت. لماذا ظننتَ أنني سأغضب حين قلتَ لي ذلك؟ حقًّا لا أعرف شاعرً واحدًا كانت الدنيا من دونه ستصبح أسوأ، بينما هناك كُثرٌ يبدو أن الدنيا من دون ذواتهم المتورمة باليقين الناضح في أشعارهم، كانت لتكون أهدأ. من أين لهم بكل هذا اليقين؟ هل يجتمع شعر ويقين؟ يا الله، سأخبر يوسف – إلى أن ترسل إلى الولدَ الغائب – بما كتبتُه قبل سنين عن علاقة الشعر باللحظة الراهنة المليئة بالقتل والذبح والفساد “منذ كم ألف سنة يكتب الشعراء أشعارهم، يسقط ما يسقط منها ويسافر ما يسافر في نفوس البشر، كم قصيدة وكم نصًّا وكم كلمة دارت بخَلد شاعر فصاغها، أملًا في مستقبل خالٍ من فسادٍ شابَ لحظته الراهنة؟ ثم تكررت اللحظات الراهنة ولم تتوقف إجلالًا للشعر! لم تتوقف إجلالًا لنصوص الآلهة، لم تتوقف إجلالًا لدمعات أمهات ولا لدماء أطفال، لم تتوقف لنزيف شيخ أثقلته السنون، لم تتوقف لعويل طفلة طمرها التراب، فهل تتوقف اللحظة الراهنة لأجل خاطر الشعر! ماذا لو اجتمع شعراء العالم كلهم وصاغوا قصيدة وصرخوا بها مجتمعين في وجه اللحظة الراهنة! الشعر كشفٌ وانتهاك لحظي، يقتنص اللحظة ويصنع صورته. هل يشبه -في ذلك- المصورَ الذي فضل التقاط الصورة على مدّ يد المساعدة لطفل يموت بينما ينتظره طيرٌ جارح لينهش لحمه الغض؟ هل كانت الصورة أهم أم الطفل؟ هل يمكن أن نلتقطَ الصورة ونساعد الطفل في آن! لنا أن نتساءل ولا ننتظر الإجابة، على شخص ما أن يسجّل صورةً للحظة الراهنة، ليس لأجلنا، فنحن ضحايا تلك اللحظة، نبوء بذنبها. إنما لأجل القادمين، على شخص ما أن يكون شاهدًا على فساد اللحظة، لا لمحاكمتها الآن، فهي أقوى منه ومن محكمته، إنما لأجل القادمين في لحظة نأمل أن تكون أشد رحمة وعدلًا وإنسانية. لذا على الشعر أن يسجل صُوَرَهُ، وعليها أن تكون حادة وباترة وقاطعة ومعبّأة بما في اللحظة من فسادٍ وقتل وخراب وانهيار للقيم، فقط عليه أن يبقى منحازًا للإنسانية، لكنه لا يخاطب الآن ولا يقدر، إنها لحظة الإيقاع الفاجر التي تبتلع كل إيقاع يأمل في مناطحتها، إنما يسجل شهادته لمن يمكنه أن يلتقط أنفاسه من حضور اللحظة الراهنة وسط ضجيج القتل والسفك والخيانة، ودائمًا للقادمين ممن يراهن عليهم الشعرُ في اللحظات المقبلة” (3).
يا يوسف، يبدو أننا صنعنا للشعر وظيفة! لكن الشعر ليس موظفًا عند أحد، ولا أحد موظف عنده، اسمع هذه الحكاية: ذات مرة كتب شاعرٌ قصيدةً يتغزل فيها بوجهِ محبوبته، ولم يجد هذا الشاعر لوصف وجه الحبيبة أجملَ من ثمرة المانجو، فهو يحب المانجو بصورة تفوق كل وصف. قال أحدهم متأففًا: مَنْ هذا التافه الذي يصف وجه محبوبته بالمانجو، ألم يجد صورة أرقى من هذه؟ وقال آخر غاضبًا: المانجو ليست كلمة عربية، ربما لو اختار مفردة ذات صلة بثقافتنا وعمقنا العربي؟ وقال ثالثٌ ضاحكًا: أي وجه هذا الذي يجمع بين الأخضر والأصفر والبرتقالي ليصبح شبيهًا بالمانجو؟ وقال رابعٌ متجهمًا: لو وصف أحدهم وجه ابنتي بالمانجو سأقتله! وقال خامسٌ وهو يضع نظارتيه: العالم ينهار تحت وباء مُصَنَّعٍ في مختبرات الرأسمالية، وهذا الشويعر يتغزل بوجه محبوبته ويصفها بحبة مانجو قيمتها تكفي عشاء أسرتين لثلاثة أيام! وقال سادسٌ ردًّا على سؤال طفله الذي يلعق أصابعه جوعًا: المانجو، نوع من أنواع الفواكه! ودارى خشيته أن يستوضح الطفل عن معنى الكلمة الأخيرة. وقال سابعٌ وهو ينثر رماد سيجاره المدملج: أي نوع من المانجو يقصد هذا الجاهل، هناك على الأقل سبعون نوعًا فاخراً بخلاف مانجو الأسواق الشعبية؟ وقال ثامنٌ: لو أنه كتب شيئًا يحصل به على الأجر والثواب! وقال تاسعٌ فعاشرٌ وحادي عشر…. هل فهمت من حكايتي شيئًا؟ ولا أنا قصدت شيئًا، فحاذر أن تعتاد ذلك.
إشارات:
(1) – نصوص لا تتمسح في القارئ كقط أليف، «تفسر أعضاءها للوقت» عالم وحشي من العلاقات، د. عايدي علي جمعة، جريدة النهار، 24 نوفمبر 2014، ص 28.
(2) – ن مقالة للكاتب بعنوان ما المطلوب من الشعر، مجلة الجديد، أكتوبر 2015.
(3) – السابق.