أرض بلا سياج
1
غالبا ما يبدو السؤال عن لماذا تكتب الشعر، أشبه بالسؤال عن لماذا تتنفس أو تعيش أو تحلم أو تتأمل… إنني ببساطة تامة أستعير مقولة هولدرلن الشهيرة لأقول: إنني أعيش شعريا على هذه الأرض. الشعر يرافقني لحظة تلو لحظة، حتى في النوم. لا معنى لحياتي دون الشعر، الشعر بوصفه حالة روحية أو نفسية أو ميتافيزيقية ودينية، أم بوصفه كتابة وتوهجا لغويا. هنا سر الشعر. أعتقد أن السؤال الأول الذي طرحه الإنسان عندما أصبح إنسانا على هذه الأرض، كان شعريا. وأجمل الخرافات التي يسوقها كتاب “جمهرة اشعار العرب” في مقدمته أن آدم كان شاعرا.
أما ماذا أريد من القصيدة، فهو أن تشهد بكلماتها أي بجسدها أو بدمها على ما أعيش من حيوات داخلية، من حدوس، من مشاعر، من تخيلات، من صراعات نفسية، من رؤى، من خوف، من غضب صامت، وأسئلة لجوجة لا حدود لها تطلع من صميم هاوية الروح أو من رباها المشرقة.
2
أخشى أن أقول إن حركة النقد الشعري ضئيلة في العالم العربي وهي تتضاءل أكثر فأكثر، ويمكنني أن أصفها بـ”المعلبة” والمغلقة والمحدودة. لم يرافق النقاد القلة أصلا، حركة الشعر الجديد والراهن كما يجب. ومعظم التجارب الجديدة والمابعد حداثية، أي مابعد ثورة التفعيلة وثورة مجلة “شعر” وما بعد حقبة السبعينات، مازالت تفتقد إلى قراءات ومقاربات نقدية علمية وأكاديمية ترافقها وتلقي عليها ما تستحق من أضواء. البؤس في معظم النقد العربي الأكاديمي أنه متوقف عند قصيدة التفعيلة والقصيدة الحداثية الجاهزة والمؤدلجة سياسيا وفكريا. النقاد الأكاديميون لا يجرؤون على الخوض في الشعر الجديد والراهن الذي قطع أشواطا من التقدم والتحديث، ومن تحقيق غاياته الجمالية والشكلية والرؤيوية، والسبب أنهم لم يطوروا ثقافتهم ولا أدواتهم، عطفا على أنهم يحصرون أنفسهم في حيز معرفي ضيق ولا يقرأون الجديد. ولكن يجب الاعتراف أن ما يكتب من نقد جديّ في المجلات والصحف وبعض المواقع، يسعى لملء فراغ النقد الأكاديمي، وإن لم يكن كافيا.
3
اليوم يمكن القول إن ما يكتب من شعر عربي راهن استطاع أن يضاهي الحركات الشعرية الراهنة في العالم. لدينا اليوم شعراء كبار فعلا. والريادة لم تعد مقتصرة على الأسماء السابقة التي تحول معظمها إلى أصنام. لقد شبعنا من الكلام عن الصنمية الشعرية، ويجب التخلص من مفهوم الريادة لاسيما مع الشعراء الذين باتوا يكررون أنفسهم ويكررون إيقاعاتهم وتراكيبهم. ولكن يجب الاعتراف أن لدينا شعراء تفعيلة كبارا مثلما لدينا شعراء كلاسيكيون كبار. لكن الشعر الراهن استطاع فعلا أن ينجز ثورة عميقة، في الشكل الشعري وفي المفاهيم والرؤى والمقاربات اللغوية. الشعراء اليوم هم أبناء عصرهم مثلما هم أبناء تراثهم.
4
هناك تهم توجه إلى الشعر الجديد دوما، ومنها الركاكة والضعف والأمية وعدم المعرفة اللغوية والتفكك وسواها. بعض هذه التهم قد يكون حقيقيا، فالشعر أصبح مشاعا وأرضا مشرعة بلا سياج. هناك شعراء جدد لا يتقنون قواعد اللغة مثلهم مثل بعض الروائيين والقاصين الجدد، ولا يملكون ثقافة واسعة، لا يلمون بأصول الكتابة ومعاييرها ولا يسعون الى تعميق تجربتهم والانفتاح على سائر الجماليات. هؤلاء الشعراء ساهم في ترويج أسمائهم النشر على الإنترنت والفيسبوك. ينشرون قصائدهم بلا مراجعة ولا تصويب ولا “اشتغال” بحسب مقولة الشاعر بول فاليري. لكنّ هؤلاء لا يمثلون واقع الشعر الحقيقي الراهن. إنهم على هامش الحركة الشعرية ولن يدوموا طويلا. هناك أشخاص انخرطوا في الكتابة الشعري بصفتها “موضة” رائجة، لا سيما الشاعرات اللواتي يحتللن شاشات الكومبيوتر مع صورهن. النشر الإلكتروني لا رقيب عليه، على خلاف النشر في المجلات والصحف. لكنني سأكون متسامحا وأقول مع لوتريامون: ليكتب الجميع الشعر. المشكلة في الشعر الحر (في مفهومه الحقيقي وليس في المفهوم الذي حرّفته خطأ نازك الملائكة بربطه بالشعر التفعيلي) وقصيدة النثر، أن كتابتهما مشرعة أو “مفضوحة”، وهما يكشفان للفور إن كان من يكتبهما شاعرا أم لا. أما الشعر الكلاسيكي أو التفعيلي فيمكن من يكتبهما أن يتوارى خلف الوزن القافية اللذين يستران عيوبه أو يحملان مساوئه. فالقافية والوزن كما شهدنا في دواوين كثيرة، تجعل الشاعر “نظّاما”، سواء أكان كلاسيكيا أو تفعيليا.
5
الشعر إما أن يكون دوما في أزمة أو لا يكون. إنه صنو الحياة. والأزمات التي يجتازها الشعر تدل على مدى حيويته وحقيقته. والأزمة الشعرية تكون فردية أو شخصية في أحيان، وجماعية في أحيان أخرى. نعرف كيف أن شعراء كبارا عبروا أزمات وتوقفوا سنوات عن الكتابة، ومنهم مثلا الفرنسيان مالارميه وبول فاليري ثم انفجر شعرهما. الشاعر يعيش في داخله حالا من الصراع الدائم، أحيانا تهبّ في روحه عاصفة وأحيانا يترقرق داخله نسيم. إنني أحترم صمت الشعراء، هذا صمت مقدس، حتى لو لم يعودوا إلى الكتابة. صمت المبدعين كما علّمنا الفلاسفة إبداع دائم. ولدينا خير مثل هنا صمت رامبو الرهيب، صمت ما بعد اكتشاف جوهر اللغة وإكسير الشعر.