الرَّجُلُ ذُو الرَّأْسَيْنِ
منذ ما يفوق الأربعة أشهر وأنا أكابد صداع رأس لا يحتمل، صداع حاد حال دون استمرار حياتي بشكلها الروتيني. إذ كنت أضطر في أَحَايِنَ عدة إلى ركن سيارتي بجانب الطريق وإمساك رأسي بكلتا يديَّ حتى لا ينفجر وتهاجر فراخه دون رجعة، أمكثُ هناك مغمضَ العينين لدقائق قبل أن أواصل نحو وجهتي وذلك عندما تتحسن حالتي قليلا.
هذه الحالة من الصداع الجامح كانت تجتاحني في العمل ودون سابق إنذار، فلا أدري حتى أقع على الأرض مغشيا، وطبعا نصحني زملائي بزيارة طبيب مختص، حتى أن رئيسي في العمل منحني يومين للراحة، أحدهما لتشخيص حالتي الصحية المتفاقم تدهورها يوما بعد يوم. لكنني لم أذهب طبعا، ذلك أنني لم أكن مستعدا بعد لتلقي صدمة، يبدو أنني أواجهها بالتسويف المتواصل لا غير، والحقيقة أن صوتا ما داخلي كان يهاتفني باقتراب أجلي، إنَّه صوت عَدَمِيّ يشخّص حالتي بأنها مرض خبيث يعشش في رأسي ويكتسحه شيئا فشيئا.
عندما لم يعد أمامي خيار آخر، ولم أعد أستطع تحمل الصداع المتزايد، قررت أن أزور طبيبا، لكن رأسي لم تمهلني يوما آخر، فقد كان موعد الولادة تلك الليلة، نعم لقد اكتشفت عند استيقاظي بروز رأس ثانية، وحتى لا أفقد صوابي اعتبرت أن رأسي أنجبت رأسا أخرى، وصرت رجلا برأسين، لأشكل بذلك استثناءً بين من تقع عينيّ عليهم كل يوم. أحيانا كنت أتساءل: لماذا أنا بالضبط! وأحيانا أخرى يعتريني يقين تامّ بأني قد دخلت في حالة هذيان طويلة جراء مضاعفات الصداع الحاد، وأني سأرجع بعد انقضاء هذه الحالة إلى حالتي الطبيعية؛ رجل برأس واحدة، غير أنني لم أكن أبذل مجهودا كبيرا، لأكتشف أني وقعت ضحية أوهام لا تلبث أن تتبخر بطلوع شمس يوم جديد، بل انتبهت أيضا إلى أن رأسي الجديدة تكبر بسرعة قياسية، حتى صارتا توأمين متطابقين.
اعتقدت بداية الأمر أني سأجد صعوبات كبيرة للتأقلم، لكن الرأس الجديدة عوض المتاعب كانت تمنحني قدرات أكبر، حتى أني عدت لعملي قبل استكمال رخصة الشفاء. علم الجميع زملائي بالشركة أني أجريت عملية جراحية، كما تلقيت تهنئة من إدارة الشركة بعد أن تخلصت من صداع الرأس أخيرا. وفي الوقت الذي لم أجد فيه صعوبات كبيرة في إخفاء هذا التحول، وجدتني أتوصل إلى الحلول بسرعة أكبر؛ أذهلني ذلك، وأذهلت به زملائي ورئيسي في العمل، حتى أنه صرف لي مكافأة ومكّنني من ترقية استثنائية بسبب مردودي الذي فاق جهود ثلاث موظفين، يكمن السر ببساطة في قدرتي على تقسيم الأدوار بين رأسَيَّ، وبما أن الرأس الأولى كانت شبه خردة؛ فقد خصصتها لمواصلة مصارعة شروري وشرور المحيطين بي، ولأني لا أرغب في تخريب رأسي الجديدة بأعباء الحياة؛ فقد جعلتُ الأولى تواصل الوقوف على فوهة البركان وتقاوم قوة الامتصاص المتواصل لكل البشر الضئال. بينما تركت الثانية نقية طاهرة من كل الخيبات.
ـــــ آه كم كنت محتاجا لهذه الرأس الجديدة!
هكذا كنت أقول بعد أن غابت عنّي نوبات الصداع الهستيرية، وحققت حياتي طفرات ونقلات نوعية في فترة وجيزة، كما أنني صرت أعيش طمأنينة تامة، لم يكن ينغّصها سوى سعي الآخرين لاكتشاف ما تحت قبعتي من ضخامة مفاجئة، لهذا كانت علاقاتي بالآخرين تقل وتواجدي بالخارج يندر، والحقيقة أن ذلك كان مريحا نوعا ما.
لم أتنفس الصعداء إلا عندما بدأت ألحظ بين الفينة والأخرى بعض الأشخاص في الشارع؛ رجالا ونساء برأسين، كانوا يسترون ذلك طبعا، حتى أنهم طوروا وسائل إخفاء هذا التغيير الطارئ بتشكيل قبعات شمسية وطاقيات شتوية تناسب حجم رؤوسهم المتضخمة. أحد الرجال صمم خوذة دراجته بحيث تناسب رأسين، أكثرهم حظا من امتلك رأسا صغيرة أو حتى متوسطة الحجم، بحيث لا يبدو التغيُّر كبيرا ومستفزا، هذا الحظ لم أَحْظَ به، فرأسي توشك أن تضاهي بطيخة أفريقية. غير أنني كنت أتوصل في نهاية المطاف إلى أن ما يحدث ليس إلا مجرد استيهامات، أو لنقل إنها كانت طموحات شخصية، صحيح أني كنت أرى كثيرا من الناس برأسين، وفق نظرية “إذا عمّت هانت” غير أنني بمجرد ما أمعن في التدقيق حتى أدرك أني هائم في هواجسي الميتافيزيقية، وأن ذلك لا يتحقق إلى داخل رأسي العطوبة. والحقيقة أني كنت أَرِقُّ لحال هؤلاء المساكين، وأتعجب كيف أنهم يستطيعون الاستمرار في تحمل كل هذه الأعباء المتزايدة برأس واحدة، رأس لم تكفيني شخصيا إلا لخمس وعشرين سنة أو أقل، قبل أن تصير عالة ومتقاعسة بالكامل عن أداء الأدوار المنوطة بها.
بينما أنا في سيارتي أنتظر أن يخلو المتجر من الازدحام – ذلك أني لم أتخلص كليا من وقع نظرات الآخرين رغم كل جهودي – إذْ بعدسات أَعْيُنِي الأربعة تلتقطها في دهشة، كانت فتاة جميلة برأسين، وعندما انتبهَتْ لنظراتي ارتبكَتْ قليلا، وقَرَّرَتْ أن تغير مكان تواجد القفة من اليد اليمنى إلى اليسرى علَّها تتجاوز وطأة العقدة، ثم تصنّعت عدم اللامبالاة وأخذت تتصنع قفزات وأنها وقعت في مطب الغراب، لهذا بادرتُ فقط باستراق نظرات خاطفة حتى لا أحرجها. عَبَرَتْ الشارع، سارَتْ باتجاهي وهي تحاول استرجاع مشيتها التائهة، عندئذ كان نبضي يتَسَارَعُ كلما أخذت ملامحها تتضح وابتسامتها تنجلي وصرت بدوري مكشوفا لها بشكل أدَّق، وقَفَتْ متقابلة معي، وابتسمت بخفة ثم رفعت حاجبيها مستغربة ولسان حالها:
ـــــ أنت أيضا؟!
– حركت رأسي إيجابا: “أن نعم”.
عندئذ ابتسمنا نحن الاثنين قبل أن تكمل وجهتها، تتبعت خطواتها حتى اختفت في الزقاق، هذه المرة لم تكن استيهامات وهمية بالمرة، بل كانت فتاة حسناء برأسين.