الرجل في سرديات المرأة العربية
اعتاد النقاد ومؤرخو الأدب على البحث عامة عن صورة المرأة في الإبداع السردي (الروائي والقصصي) المعاصر، وقلما تعرض واحد منهم إلى درس الصورة المعاكسة؛ صورة الرجل في الإبداع السردي النسائي المعاصر. من أشهر الدراسات التي تعرضت لدرس صورة المرأة في السرد العربي المعاصر؛ دراسة المرحوم طه وادي «صورة المرأة في الرواية العربية المعاصرة»؛ دار المعارف، القاهرة، …. وكتاب الدكتورة فوزية العشماوي «صورة المرأة في أدب نجيب محفوظ»؛ عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، الكتاب رقم.. وهو في الأساس أطروحتها للدكتوراه التي كتبتها بالفرنسية، وقد ترجمته إلى العربية بنفسها أيضًا، وأخيرا دراسة الناقدة الدكتورة أماني فؤاد «ميراث من القهر»؛ الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2020.
لكن بالنظر إلى كمّ الروايات التي كتبت خلال الفترة من منتصف القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة، سنجد لدينا كما وافرا وغزيرا جدا من الروايات التي كتبتها روائيات عربيات ينتمين إلى أجيال مختلفة ومتعددة ومتباينة، وتمايزت كل منهن بطريقة مخصوصة في نسج عالمها الروائي، وفي تصويرها لشخصية الرجل التي كانت في المجمل وفي الغالب الأعم انعكاسا مباشرا أحيانا، وغير مباشر في أحيان أخرى، لوضعية المرأة العربية في المجتمعات العربية وما عانته و(تعانيه) من مشكلات مزمنة من غياب العدالة والتهميش وهيمنة النظرة الذكورية الاستبدادية التمييزية التي فصل فيها القول علماء الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا والثقافة على مدار العقود الماضية.
في معرض تحليلها لمصطلح “كتابة المرأة” عموما، تقول الناقدة فريال غزول صحيح “إن كتابة المرأة – ككتابة الرجل – تجمع بين ما هو حميمي وخاص وبين ما هو عام وسياسي، وليس هناك فصل بينهما، وأن المرأة عندما تكتب عن ذاتها فهي تكتب أيضًا عن مجتمعها، وعن السياق الخارجي، كما أنها ليست مسألة فقر في القدرة على التخييل، لأن الإنسان يكتب من تجربته، وإذا كان الإنسان يفتقد إلى التجربة، فإنه لا يستطيع الكتابة، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون هذه التجربة ذات طابع ذاتي.
وصحيح أيضًا أن المرأة تقدم في كتابتها نوعًا من الحميمية والتصور لما لا يعرفه الرجل. كل هذا صحيح، ولكن هذه الكتابة النسوية المعاصرة تختلف، في الدرجة لا في النوع، عن الكتابة “الرجالية” المعاصرة، ربما لأن مصفاة الذاتية النسوية لا تسمح بمرور جوانب معينة من العالم الخارجي، أو قل لأنها غير معنية بهذه الجوانب وغير منخرطة فيها.
لا مفر حين التعرض لدرس هذه الصورة، واستجلاء ملامحها في هذه المساحة المحدودة، وهذا الحيز المؤطر، إلا استكشاف بعض النماذج المنتقاة واللجوء إلى الاختيار من بين الكم الهائل من الروايات التي كتبتها روائيات عربيات برزت مشخصة فيها صورة أو أكثر للرجل باعتباره “بطلا” أو “بطلا ضدا” أو غيرهما.
علاقات الخوف
اعتاد قارئ الروايات العربية التي كتبها روائيون رجال على استشعار الخوف من هذه العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة؛ في كثير من الأعمال الروائية سنجد هذه التيمة المعتادة؛ المرأة كائن خائن بطبعه! مخلوق خائن، إما بمحض إرادتها أو لأنها ضحية الأهل أو فريسة وحش فاتك.. ألا تصور هذه الأعمال كلها خوف الرجل من المرأة وعدم ارتكانه إلى الوثوق بها؟ أو قل في أحسن الأحوال عدم اطمئنانه إليها!
نقطة الالتقاء الأساسية التي تجمع الرجل بالمرأة في الحياة والفن والأدب معًا هي العاطفة، ما من عمل روائي إلا في الغالب كان يحوم بصورة ما بدرجة ما حول هذه العلاقة العجيبة؛ صور لا متناهية متداخلة ومتقاطعة ومتوازية ومتناقضة قدمت لشخصية كل من الرجل والمرأة، وطبيعة العلاقة بينهما كانت “الباب المفتوح” للطيفة الزيات رواية نسوية مؤسسة إذا جاز التعبير؛ تسرد لحظات المخاض التي مرت بها المرأة المصرية و(العربية)، تبنت بطلتها رؤية متمردة على أوضاع اجتماعية ومؤسسية راسخة؛ صحيح أنها استغرقت وقتا طويلا استعرضت من خلاله رحلتها منذ كانت طفلة وصبية غريرة حتى أصبحت “ليلى” المثقفة الواعية المتسائلة التي ترى نماذجها الذكورية حولها في كل مكان وتحللها من منظور ناقد ومتسائل ومتمرد أيضا.
بطلة “الباب المفتوح” في بحثها الدائم عن هويتها، وفي اعتبارها الحرية هي الوجود نفسه، تخوض رحلة داخلية بموازاة رحلتها الخارجية للتخلص من غلالات المثالية الرومانسية الكثيفة، وهي تفترض وتنتظر أن يكون الآخرون مثلها تمامًا، بينما يبدو الواقع وشخصياته في قمة المراوغة، فكل شيء يتغير، وخصوصًا البشر.
ثمة نموذجان يمثلان رؤيتين متعارضتين للرجل في هذه الرواية؛ أولهما الممثل لكل آفات الثقافة الذكورية المستبدة التي لا ترى في المرأة إلا محض متاع وأداة للمتعة وإرضاء شهوات الرجل لا أكثر؛ فلا مجال لديه لاحترام عقلها وإنسانيتها ناهيك عن اعتباره بوجودهما أصلا!
النموذج الآخر نموذج البطل الرومانسي الفدائي المقاوم للاحتلال الجاثم على صدر بلاده بلا رحمة في موازاة مقاومة معنوية أخرى لأفكار المجتمع وتقاليده الراسخة التي ترى في المرأة حبيسة الجدران أمّا وزوجة وابنة تابعة للرجل ومذعنة له وخاضعة له بالكلية دون أيّ محاولة للخروج أو التمرد وهو ما ستنجح فيه “ليلى” لطيفة الزيات بدرجة أو بأخرى.
أما نوال السعداوي؛ أحد نماذج الخروج والتمرد العظمى في كتابة الستينات وما تلاها، فقد تحدثت عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، في معظم أعمالها وسردياتها الروائية، ولكن يلفت النظر في أعمالها التي تلت زواجها من الكاتب الراحل شريف حتاتة، أنها تفسح له المجال أيضًا بصفته شخصية روائية؛ تدين بحضورها لمرجعها الواقعي أو باعتبارها شخصية “متخيلة” مستلهمة من الواقع، كي يتكلم عن كل شيء تقريبًا: حياتهما الخاصة والعامة، تجربتهما في السجن، العلاقة بين الرجل والمرأة، الإبداع والفن والأدب، التربية والتدريس والجنس، السياسة والثقافة والمثقفين، أعمالهما الروائية، عُقد الطفولة ولحظات النجاح والإحباط، علاقتهما بالشهرة وبالدين.
نوال السعداوي شخصية تصادمية عموما لا تتردد في أن تفقد أصدقاءها إذا تراجعوا أو تهاونوا وكذلك بطلاتها وشخصياتها النسائية الساردة، أما “شريف” نموذج الشخصية الرجالية فهادئ متأمل، يقول كل ما يريد، ولكن بطريقة أخرى، فكلاهما طبيبان تعوَّدا على فحص الحالات، ومصارحة المرضى بالداء، دون لف أو دوران، يكتبان ما يعتقدان أنه روشتة الدواء بعد التشخيص، وبالطبع لا يملكان أن يجبرا أيّ مريض على تعاطيه، يعني أنت حر، بل لعل أحد أسباب تفرد الكتابة أنه بالأساس عن حرية أن تفكر وأن تناقش دون وصاية، بصرف النظر عما إذا كنت ستتفق أو ستختلف معهما.
ربما تكمن أهمية سرديات نوال السعداوي التي برز حضور الشخصية الرجالية بها أنها لا تضع أي نقاط في نهاية السطور، مجرد مرآة تنعكس عليها آراء وأفكار شخصيتين لا يفهمان الثقافة باعتبارها كتبًا ودراسات، ولكن يعتبرانها عملية تحول للذات وللمجتمع.
فالمعرفة عندهما لا قيمة لها ما لم تجعلكَ تصبح أفضل وأكثر إبداعًا، والأفكار يجب أن تصل إلى الناس، لا أن تبقى سجينة أصحابها، كلاهما متحمس لرأيه ولاختياراته، وكلاهما تمرد على الوظيفة ودفع الثمن، ولكن سعادتهما في هذا الاتساق بين أفكارهما وحياتهما، في قدرتهما على الاختيار وممارسته وتحمل نتائجه، وهو أمر نادر للغاية.
كتابة البنات
من الستينات إلى التسعينات؛ ومع بروز ظاهرة الكتابة النسوية التي أطلق عليها البعض كتابة البنات أو كتابة السيرة الذاتية النسوية برزت لدينا نماذج أخرى تتجاوز نموذجي لطيفة الزيات الحدّيين؛ هناك فارق زمني تمثل فيما يقرب من أربعة عقود حملت معها تحولات عميقة.
يرصد الناقد الدكتور خيري دومة في دراسته اللافتة «رواية السيرة الذاتية الجديدة ـ (قراءة في بعض “روايات البنات” في مصر التسعينات)» بروز الظاهرة فجأةً، ففي أواسط التسعينات من القرن العشرين، أصدر عدد من الكاتبات الشابات في مصر رواياتهن الأولى، ودواوينهن الشعرية، ومجموعاتهن القصصية الأولى.. وهو ما شكل ظاهرة أدبية ملحوظة، تناقش حولها النقاد فيما عرف بـ”كتابة البنات” أو “النساء الصغيرات”. وقد تبلورت الظاهرة على نحو واضح حين صدرت رواية “الخباء” لميرال الطحاوي في 1996، إذ تلقفتها الصحف والندوات والمتابعات النقدية، وأصبحت -بعنوانها المثير الدال – مادة خصبة للجدل، ناهيك عن الترجمة السريعة للغات الأجنبية. وفي عام 1997، صدر في القاهرة عدد متزايد من الروايات الأولى لكاتبات شابات أخريات، «دنيا زاد» لمي التلمساني، «قميص وردي فارغ» لنورا أمين، «مرايا الروح» لبهيجة حسين، «السيقان الرفيعة للكذب» لعفاف السيد، «دارية» لسحر الموجي.. إلخ. ولم يكد عقد التسعينات ينتهي حتى كانت الرواية الثانية والثالثة قد صدرت لنفس المجموعة من الكاتبات، مثل «الباذنجانة الزرقاء» و«نقرات الظباء» لميرال الطحاوي، و«هليوبوليس» لمي التلمساني، و«أوراق النرجس» لسمية رمضان.. وغيرها. وسرعان ما انضمت كاتبات أخريات – من أقاليم مختلفة في مصر، ومن فئات اجتماعية متنوعة – برواياتهن الأولى؛ مثل صفاء عبدالمنعم، وأسماء هاشم، ونجوى شعبان.. وغيرهن.
ولأن هذه النصوص مبنية على عناصر من السيرة الذاتية؛ فإن بطلاتها بلا استثناء، مثل المؤلفات، هنّ من مثقفات الطبقة الوسطى الميسورة، يعشن قدرًا لا بأس به من ترف العيش، ويملكن قدرًا لا بأس به أيضًا من الإرث البرجوازي. وتقوم الحبكة الأساسية في سيرتهن – بدرجات مختلفة، ومن خلال تجارب متنوعة – على تمزقٍ واضح بين هذا الإرث التكويني الأساسي من ناحية، وطموح المثقفات إلى تواصل إنساني سوي ينسجم مع أحلامهن المتناقضة.
في هذه المرحلة، وبحسب الناقد الدكتور شكري عياد (د. شكري عياد: «نساؤنا الصغيرات يعلمننا الحب»، مجلة (الهلال)، يوليو 1998)، استطاعت المرأة أن تحقق انتصارات مهمة في مضمار الأدب، حيث استطاعت أن تتجاوز درجة المعارضة هادئة الصوت إلى درجة تقديم صورة مناقضة تماما لشخصية كل من الرجل والمرأة وطبيعة العلاقة بينهما، ستدور أغلب روايات هؤلاء الكاتبات حول علاقات حب مركبة وعشق جارف تتخللها علاقات زواج وطلاق تعيشها “الراوية/الكاتبة”، وترويها بمختلف ضمائر الحكي المعروفة؛ : الراوي المتكلم (المشارك)، والراوي العليم (الغائب)، والراوي المخاطب (أنتَ أو أنتِ) المضطرب (سواء أشار إلى الراوية ذاتها، أو إلى الرجل الذي يشاركها التجربة، أو إلى القارئ).
من هذه الروايات “مرايا الروح” لسمية رمضان، و”قميص وردي فارغ” لنورا أمين، و”السيقان الرفيعة للكذب” لعفاف السيد و”دارية” لسحر الموجي. ويمكن إدراج رواية ميرال الطحاوي “الخباء” في هذا الإطار أيضا فهي تتناول تجربة فلسفية وجودية، وإن ارتبطت بقضية القهر الواقع على المرأة بشكل عام، وحكيت من منظور أقرب إلى منظور الراوية الطفلة، التي تستدعي بعض التفاصيل الرمزية من طفولتها، في محاولة للكشف عن جوهر الأزمة المتراكمة التي تحياها المرأة العربية، وأزمة الإنسان في عمومها.
ثمة صورة/صور للرجل تختلف كثيرا عما قدمته الزيات وكاتبات جيلها؛ فالكتابة هنا بالنسبة لكاتبات التسعينيات تلعب وظائف أخرى أساسية بالنسبة لهؤلاء الكاتبات، وراوياتهن، وبطلاتهن على السواء. الوظيفة الأولى، كما يحددها خيري دومة وظيفة تعويضية؛ فهن يكتبن تجاربهن عوضًا عن بكائها مرةً، وعوضًا عن ممارستها مرةً أخرى.
والوظيفة الثانية وظيفة ثأرية انتقامية؛ فهن يكتبن لتثبيت صورة الرجل وصورة المجتمع الرجالي المراوغة، في محاولة لأسرها وتقديمها من المنظور النسائي لأول مرة، وفضح ما فيها من كذب. فنورا أمين، على سبيل المثال في “قميص وردي فارغ”، تخترع بطلتها التي فشلت في زواجها وقبلت عمليا بقواعد المجتمع الذكوري الذي حطمها، تخترع حبا غير ذكوري تفصله بخيالها وتنسجه بخيوط الوهم والتوهم.
في رواية بهيجة حسين “مرايا الروح”، صورتان متمايزتان للرجل يمكن أن تعادلا الصورة التي رسمها الرجل للمرأة؛ كما يقول الدكتور شكري عياد، وبذلك يمكن أن تصححا فكرته عن جنس المرأة، وعن جنس الرجل أيضا؛ أي عن نفسه بما هو رجل.
كما تستدعي الكاتبة بوعي بالغ وبكراهية واضحة، صورة “الجد”، سلطان زمانه الذي يجمع كل المتناقضات؛ مثل السيد أحمد عبدالجواد رمز الطبقة الوسطى “المحفوظية”: يدير مجالس الصلح، ينتصر للبنات ضد الرجال، مثقف وفنان يقرأ جبران ويسمع أم كلثوم، يبكي من أجل وطنه، لكنه أيضًا يمارس الجنس مع امرأة غير جدتها، بعلم الجدة، وتحت نظر الجميع الذين يخضعون لقانونه الأبوي المركب.
في مرحلة تالية، وبصورة أو بأخرى، تتخذ “الحرية” صورة امرأة جميلة وليس “رجلا”، تحضر المرأة باعتبارها أقوى بكثير من الرجال رغم القهر والعنف والامتهان، خصوصًا إذا قرأت وعرفت واستطاعت أن تقرّر بمحض إرادتها، لعل ذلك أحد أسباب خوف الرجل منها دائما بل إنه يخاف دوما منها، من فتنتها، من جسدها، ومن عقلها، كما أنه يستأثر في عديد الأعمال (مصرية وعربية) بكل ما يمنحه السلطة والسطوة والنفوذ، لكنه في قرارة نفسه يظل دائما يخشى من أن تعرف المرأة، أو تتاح لها فرصة لكي تعرف. من هنا دائما تبدأ الحكاية وينطلق الحكي إلى آفاق جديدة.
في روايتها “جبل الزمرد” التي تعتبر مجازا هائلا ليس فقط لتجميع ما تفرق من حكاية الأميرة زمردة، ولكنه مجاز لعملية تجميع بطلات منذورات لأقدار تتجاوز همومهن الصغيرة، ليست الرواية في حقيقتها إلا محاولة لكي تنظرن من عَلٍ مثل جبل شامخ، لتكون الصورة أوضح وأعمق للتجربة الإنسانية بأكملها. يحضر الرجل هنا باعتباره “تابعا” لا قائدا ومسترشدا لا دليلا، فمن يمتلك المعرفة يمتلك كل شيء.
يمكن أن نعتبر أن كاهنة الأبيض والأسود المعاصرة والمسماة بستان البحر، القادمة من جبل الديلم، حاملة معها مهمة مقدسة لبعث الأميرة زمردة، هذه البطلة العارفة بكل شيء، والتي تقود دفة السرد والحكي في زمن “جبل الزمرد”، وفي زمننا الحاضر، ليست سوى شهرزاد معاصرة، تطرح الأسئلة وتواجه سلطة المعرفة التي رسخها الرجل وحكم بها بل إنها ستأتي على هذا البنيان من أساسه.
تجربة مها حسن
عربيا؛ برزت الروائية السورية المقيمة في فرنسا مها حسن بمدونة رواياتها التي تجاوزت العشر؛ قدمت فيها معالجات حساسة ومبتكرة لفكرة الهوية والانتماء للذات والوطن معا، معالجات كتبت بقلم عربي وبمداد فرنسي وجودي، وبحس امرأة كردية تبحث عن الوطن بداخلها مثلما تبحث عنه في خارجها..
روايتها الشهيرة “حبل سري”، رواية نسوية بامتياز، ولكن بالمعنى الواسع والعميق؛ فالمرأة في الرواية هي الأرض والوطن، والرجال عابرون رغم ضجيجهم المستمر، كأننا نعود إلى ما قبل الزراعة حيث لا شيء سوى الأم والأبناء، وحيث الرجل صائد جوال، وحيث لا دولة ولا وطن سوى الانتماء إلى هذه الأم.. أما في الشرق الزراعي فقد عرف الرجل الاستقرار، فاستلب كل الهويات بلا رحمة، وقنع بأن يكون مستبدًّا في وطنٍ يحكمه الاستبداد، ولكنه فشل في إزالة بقايا ذلك الحبل السري الذي يذكرنا دوما بأننا أبناء هؤلاء المقهورات.
أما في عملها المهم الذي اختارت له مها حسن اسم “الراويات”، وأهدته إلى كل النساء الساردات في بقاع الأرض، اللواتي لم تتح لهن نشر رواياتهن على الملأ، فعشن ومتن في الظلمة، فإن الحكي يصبح امرأة جميلة تمنحه حواء للوجود، كما تمنح العالم أطفاله، مها لا ترفض حكي الرجل، بطلة قصتها الأولي تحمل في حقيبتها دوما رواية من تأليف إرنستو ساباتو، ولكنها تدافع عن نساء قمعت رغبتهن في الحكي الشفوي والكتابة، تحت ضغوط مادية أو عائلية أو نفسية.
ونلاحظ رغم ذلك أن رجال الرواية يفتقر معظمهم إلى الخيال، باستثناء جيروم الأب البوهيمي لإحدى بطلات الرواية، والذي يعتبر نفسه وريث رامبو في أشعاره وبوهميته، وباستثناء الراعي حليم عازف البزق الرقيق، ابن الأرض والطبيعة، فإن بطل الرواية الذي يمنح بطلتها راتبا للتفرغ من أجل الكتابة، يقوم حرفيا بالسطو على ما كتبته، ينسب الرواية إلى نفسه، ويحقق شهرة مدوية، ويصبح عاجزا رغم ذلك عن كتابة رواية ثانية مثلها، بطلتنا متعددة الأسماء مثل معظم الشخصيات، وكأن الراوية الأصلية (مها حسن) تتلاعب بالخيال كيفما شاءت، وكأنها تؤكد أنه “ليست الراوية هي الحقيقة، بل الرواية، الرواية أهم من الراوية”، والأسماء ليست سوى جزء من لعبة الخيال والسرد وخلق العالم الموازي.
المرأة في الرواية مبدعة، عالم مستقل لا يعرف عنه الرجل شيئا، المرأة التي حصلت على منحة تفرغ أفرزت عددا هائلا من الروايات، استدعت شخصياتها وتحاورت معهم، عشقت الرجل فخذلها، ولكنها استطاعت أن تحقق نشوتها دونه.