تغريب الواقع وتوشيح السرد
قد لا يكون مناسبًا، ونحن نقارب هذه الرواية تحديدًا، أن نبدأ من العنوان، وهي البداية المعتادة والمنطقية، باعتباره أول استهلال قرائيّ، والحقيقة أننا لن نفعل ذلك رغبة منا، وإنما سنتركه اضطرارًا، فهذا العنوان – وهذا لا يحدث كثيرًا – يُشتت بأكثر مما يهدي، ولا يمكننا الوقوف على دلالاته إلا بعد تأمل وجهد تأويلي، وهو في النهاية سوف يضعنا في منطقة الاحتمال التأويلي بأكثر مما يضعنا في منطقة الاستقرار الدلالي.
فمع الجملة الافتتاحية سيجد القارئ نفسه مباشرة إزاء عالم النص، لا توجد مقدمات ولا حيل سردية، وإنما إزاء حدث عاديّ، وقد يكون عابرًا وهامشيًّا، كما سنجد أنفسنا إزاء لحظة زمنية لا تختلف عنه في الاعتياد والتّداول اليوميّ، ومن هذا المدخل العاديّ والعابر ستتنوع الأحداث وتتشابك، لنجد أنفسنا شيئًا فشيئًا إزاء عالم مركب، شديد الجدة والازدحام، عالم المسجلين خطرًا، وقد لا يكون جديدًا على فنّ الرواية بشكل عام أن تقدم هذا العالم، ولكن الجديد أنها تجعله عالمها، عالم الظلال الذي يُؤثّر باختفائه بقدر ما يؤثر بحضوره.
بالتأكيد يبدو عالم “المسجلين خطرا” – حين يتوفر عليه نص كامل – مدخلًا صالحًا للمقاربة، باعتبار الجدة الموضوعية، فنحن إزاء رجال يعيشون في الظل ويتحدون القانون ولا يبالون بما ينتظرهم من عقوبات، يعيشون في الظل باعتبارهم فئة خارجة على القانون، إلا أنهم فاعلون مؤثرون بأكثر مما نرى أو بأكثر مما نظن، ولا يقتصر تأثيرهم على ما يرتكبون من جرائم، وإنما يتجاوز ذلك إلى التأثير في تشكيل نظام الأمن نفسه، باعتبارهم المطاردين أحيانًا، والمخبرين المرشدين أحيانًا أخرى. فهم الأداة تارة، وهم الموضوع تارة أخرى.
يبدو هذا المدخل – من زاوية مضمونية – مغريًا، ولكننا سنتجاوزه إلى طبيعة البناء السردي، وكيف تشكّلت أحداثه، وتلاقت شخوصه، لنغدو في النهاية إزاء عمل شديد التميز، واسع الدلالة، يكتشف ويُنبّه في الوقت الذي يبدو لك وكأنه يرصد ويسجّل، ويكتنه أعماق النفوس، في الوقت الذي يبدو لك وكأنه يرسم بورتريهات لشخوص قد تعرفها أو تألفها، سواء أكان ذلك عن خبرة مباشرة في الحياة، أم غير مباشرة عبر شاشة السينما، وقراءاتك في السرد بشكل عام.
(1)
قد لا نحتاج وقتًا طويلا لندرك أننا إزاء بناء سردي، يماثل بنية الرحلة: الانتقال من مكان معلوم إلى مكان آخر، من سطح المدينة إلى باطنها، وما يرافق ذلك من مشاهد غريبة، تتجسد عبر عشرات البورتريهات المتلاحقة لعالم الضباط والمجرمين وعشّاق السلطة ممن لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بها، ينسل كل بورتريه من الذي يجاوره، في استدعاء رهيف، ليتوازى ذلك كلّه مع الطبيعة المزدوجة والغنية للراوي؛ فهو ضابط مباحث ورسام في الوقت نفسه.
وهذا يعني أننا إزاء خطاب يمتاز بغناه وتنوعه، رغم بساطته الظاهرة الخادعة؛ فالرواية تنطلق من حدث رئيسي واحد، قد لا يشكّل قيمة في ذاته، وهو تردد الراوي، أو ضابط المباحث المحال للتقاعد قريبًا، في الذهاب إلى عزاء نجل الدكتور “ناجح”، كما يُطلق عليه، مرشده السابق، وكبير دولة البصاصين والمسجلين خطرًا في القطر كله.. هل يذهب أم يكتفي بمكالمة أو رسالة على الواتس؟ وماذا لو اعتبره المسجلون غريمًا لهم باعتباره رمزًا للسلطة حتى لو كان الآن مجرد متقاعد؟ فهل هو ذاهب إلى عزاء أم مقبل على فخٍّ؟
من هذا الحدث البسيط تبدأ الرواية، ومنه أيضًا تبدأ الرحلة، وهي بدورها رحلة مزدوجة، يأخذنا فيها الراوي إلى عالم السرادق (مكان العزاء) في سرد استباقي تنبؤي، ويأخذنا مرة أخرى إلى الماضي، عبر سرد استردادي كاشف، يقدّم لنا مزيدًا من المعرفة بالراوي، والمعرفة ليست مطلوبة في ذاتها بقدر ما تؤسس لموثوقية الراوي وحجيته، ولنا أن نعتبر السرد الاستردادي الذي يشغل القسم الأول من استهلال الرواية بمثابة التقدمة السردية، والحُجة التي تؤهل الراوي لأن يكون صاحب الرواية؛ إنه صاحب التجربة المروية وشاهد العيان عليها، ولذلك فهو جدير بـ”استمالة” المتلقي، واكتساب تعاطفه، والأهم تصديق ما سوف يقدمه له من مشاهد وأحداث، وعلى هذا يتكون السرد من حركتين:
الأولى: من وسط البلد إلى السرادق لتقديم واجب العزاء (سرد تنبؤي).
الثانية: من وسط البلد إلى ماضي الضابط: رحلة عمله، بدايتها ونهايتها (سرد استعادي).
تعمل الحركتان السرديتان معًا، بشكل متكامل؛ فالاسترجاع يمدنا بالمعلومات اللازمة التي تغدو ضرورية بالنسبة إلى راوٍ يقدم سردًا ذا طبيعة تنبؤية كشفية، يقدمه بصيغة العالم ببواطن الأمور، المطلع على خفايا هذا العالم، والحركتان معًا تكوّنان هذا العالم الروائي الخاص، الذي استقر على غلافه هذا العنوان الذي لا يخلو من إرباك: “جنازة جديدة” لعماد حمدي.
يعدنا الرّاوي برحلة عجيبة مشوقة إلى عالم السرادق، تمامًا كما يعد الرّاوي الشّعبيّ مستمعيه بالعجيب الغريب، وبذلك يتحكم فيهم، ويشد انتباههم؛ إذ يقدم جانبًا من حكايته ويؤخر جوانب أخرى، ويصف شخوصه على نحو يجمع بين الغرابة والإمتاع معًا. (معجم السرديات: إشراف محمد القاضي).
فالراوي يتوجه بالحديث المباشر إلى القراء: (المروي عليهم/رفقاء الرحلة)، يُبرم معهم اتفاقًا، قبل دخول هذا العالم، إنه لا يلجأ إلى هذه الحيلة ليكسر الإيهام السردي فحسب، وإنما ليضعهم مباشرة إزاء هذا الواقع، أو لنقل إنه يمارس شكلًا من التهيئة العامة، ولا بأس من وصفها بالتهيئة النفسية، قبل دخول هذا العالم، ليس لأنه يقدم لهم الخيال المجاوز للواقع، وإنما لأنه يقدم الواقع بأكثر مما يقدر الخيال على استيعاب حقيقة وجوده؛ فكثيرًا ما يخرج الواقع عن أطر المنطق والفهم، ويغدو بذاته فنتازيا المعيش وليس المتخيل، وهنا يحتاج الواقع – حين يغدو عملًا روائيًّا – إلى شيء من الحيلة، وغير قليل من الفلترة، التي تحجم انفلاته وتجعله ممكنًا ومقبولًا ومؤثرًا.
فالراوي هنا هو صاحب الحكاية ومالكها، ونحن رفقاء الرحلة، ومقتضيات الرحلة تفرض عليه الحرص على مستمعيه، بل وتنبّههم إلى خطورة ما هم مقدمون عليه، ولذا فهو يحذرهم قائلا:
“احترس… احترس أيها القارئ.
قف مكانك.
ثبت قدميك في الأرض جيدًا… الأمر يستحق، أنت مقدم على تجربة تستحق المخاطرة، لن تتكرر في حياتك…” (ص 18).
فهل نحن إزاء راوٍ شفاهي؟
الحقيقة أن هذا البعد لن يغيّب ذهن المتلقي طوال الوقت، سواء بشكل مباشر، عبر هذه الأفعال التداولية التي تنبه وتحذر، أو عبر مجموعة الأغاني الشعبية التي ستوشّح السرد لتؤدي وظائف عدة: تفسيرية وتمهيدية وجمالية تكسر انهمار السرد، بالإضافة إلى قدرتها على تلوين الفضاء السردي كله بهذه الأغاني التي تنبثق مباشرة من وجدان عالم المسجلين خطرًا وأرواحهم. ففي كل مستويات السرد سيظل الراوي محملًا بهذا الحس الشفاهي، وسيظل القارئ (المرويّ عليه) حاضرًا بشكل نصيّ، متداخلا مع طرائق حضوره في البنية السردية الشعبية. وفي هذا السياق يمكننا فهم هذا الاتفاق المبدئي:
“قلتها لكَ، وأعيدها ثانية وثالثة: إذا كنت تريد أن تعود من حيث أتيت فلا ملامة عليك، عذرك معك، ولا يجب أن تنتظر رحمة من أحد… إذا كان معك نقود تخلّص منها على الفور، أفرغ كل جيوبك… طهِّر روحك من أدران المحبة… طهِّر أصابعك من أيّ خاتم، ذهبيًّا كان أم فضيًّا…” (ص 19).
بالتأكيد، يؤشر هذا الاتفاق لطبيعة هذا العالم الذي هو موضوع الحكاية، ولنا أن نقول إننا إزاء حيلة تشويقية، ليست مجانية بالطبع؛ فهي تقدم للقارئ تأطيرًا كليا لهذا العالم، وتدعوه للاستعداد لتلقيه، وتفتح أفق انتظاره على دلالات التوجس والخشية التي سوف تُرْوى.
تبدو هذه الرحلة مختلفة؛ إنها لا تقدم لنا مجاهل الجغرافيا ولا عجائب التاريخ والسير، كما تفعل الرحلة العادية؛ فالراوي لا يقدّم عالمًا مجهولا تمامًا بالنسبة إلينا؛ إنها مجرد رحلة إلى سرادق عزاء، ومنه إلى عالم المسجلين خطرًا، رحلة نحو الجانب غير المرئي من مجتمعنا، نشاهده ونراه كل يوم دون أن نعرفه كما ينبغي؛ فلا أحد يجهل عالم المجرمين، ولكن قلّة من يعرفون قانونه، وقلّة من يمكنهم الاقتراب من أرواح رجاله والتدقيق في ملامحهم.
وعلى هذا يبدو الاتفاق السابق حجة خطابية شديدة الأهمية، ولا بأس من اعتبارها حيلة ما بعد حداثية في النصوص السردية، وهي كذلك بالفعل، ولكن حتى أمثال هذه التقنيات لا بد لها من تفسير وظيفي، بما هي وحدة صغرى في خطاب كُلّيّ، وليس أهمّ من أن تكون حُجة تؤسس لطبيعة العلاقة بين الراوي والمرويّ عليه، أو بين الراوي وصحبة الرحلة، تؤشر لما سنواجهه من أحداث عالم نعيشه، دون أن نرى حقيقته، وحقيقته، حين تُروى، ستريك منه الغريب العجيب، وحينها ستدرك أنك لم تكن تدري عنه شيئًا من قبل.
(2)
يستوعب المتن السردي – بقليل من التأمل – بنية الرحلة، مع تعديلات هيكلية تناسب طبيعة البناء الروائي التخييلي؛ فهنا لن نجد العناصر الجغرافية والإثنوغرافية التي تهيمن على بنية الرحلة التقليدية؛ فالرحلة هنا إلى السرادق، وهو – في الظاهر – علامة ذات دلالات اجتماعية ودينية محددة؛ فمن حيث الشكل هو مكان يتقبل فيه ناجح عزاء نجله، ويتصدره قارئ يتلو آيات القرآن، ولكنه من حيث الموضوع جدارية هائلة يمكننا أن نشاهد عليها أكبر تجمع للمسجلين الخطرين، يتناثرون في فضاء الجدارية، كل حسب مقامه في دنيا الإجرام واختصاصه، ومقدار قربه من ناجح الذي يتوسط اللوحة ليس باعتباره صاحب العزاء فحسب، وإنما باعتباره القيّم على هذا الجمع، وصاحب الأمر والنّهي فيه، ولذا فالجميع حاضر هنا، ليس لتقديم العزاء كما هو معلن، وإنما لتأكيد الولاء وإعلان البراءة من دم الابن “هوجان”.
هذا إذن ليس سرادقًا عاديًا، ليس لأننا سنشاهد عبوات البيرة وأنفاس الحشيش تعبّق المكان، وهذا بحد ذاته لا يخلو من إدهاش، وإنما لأننا سندخل مع الراوي مكانًا عجيبًا، سندخله مع الراوي الذي يعلم عن رجاله ما لا نعلمه، ويدرك من أسرارهم ما لا ندركه، ولأن المكان عجيب وخطير معًا، ولأن خطورته لا حد لها، لذا فمقتضيات الأمانة تفرض عليه أن ينبهنا، كي نأخذ حذرنا، وهو لم يقصّر، فقد نصحنا، ولنا أن نقبل أو نرفض، فإذا قبلنا الشرط بدأت الرحلة، وإذا رفضنا الشرط انتهت الرحلة، وتوقف السرد قبل باب السرادق.
تستوعب هذه البنية برهافة واضحة رحلة موسى عليه السلام مع الخضر، عبر أكثر من مستوى:
أولا: استغلال الفضول المعرفي لدى المتلقي، بعد أن اصطنع الراوي من الحيل التشويقية ما يجعله توّاقًا إلى البداية، القارئ هنا في موازاة موسى عليه السلام هناك، وهذه المعرفة ليست نظرية، وإنما هي تجربة، والتجربة – فيما يقول الراوي – “أم المعرفة”، إنها رحلة في الطريق إلى المعرفة، وكل رحلة تتطلب تهيئة من يقوم بها، ليستوعب ما سوف يراه أو يشاهده، من الحوادث والأخبار، كما أن مقتضيات الصحبة تقتضي من الراوي/المرشد أن يكون أمينًا على صاحبه، وألاّ يعرضّه للمهالك والمخاطر.
ثانيا: أن يعي طالب المعرفة شروط الصحبة، وعلى رأس الشروط التخلص من النقود، وكل ما قد يكون مطمعًا، كالخواتم والهواتف، بالإضافة إلى التحلي بغلظة القلب، أو حسب عبارته، “تطهير الروح من أدران المحبة”، وهنا تتشكل أولى المفارقات بين الرحلتين، فإذا كان على “موسى” (عليه السلام) أن يتوقف عن السؤال وأن يشاهد خوارق المعرفة في صمت؛ انتظارًا لتأويل أخير سوف يقدمه المرشد العارف، أي أن عليه أن يتخلى عن مقتضيات العقل الظاهر والمنطق السببي، فإن موقف المرويّ عليه هنا مختلف، إنه يعلم – على سبيل الإجمال – طبيعة العالم الذي سيقدم عليه، ويجب أن يحرص تمامًا على نفسه وماله، وليس عليه من بأس إذا سأل، فعالمه واقعي وليس خارقًا، ولا حكمة من ورائه غير معرفة خفايا العالم الذي يراه، ولكنه لا يعرف عجائبه.
ثالثا: يبدو المرشد هنا متخوفًا من عدم صبر المتلقي، ولذا فهو يرجوه أن يتمتع بشيء من الصبر: “أتمنى أن تستطيع معي صبرا”.(ص 20) وهي جملة تستبق الفضول المعرفي لما بعد اكتمال الحدث، كان هذا أيضًا شرط المرشد في القصة القرآنية وأمنية الراوي هنا.
فالنص، إذن، يهدينا بصريح العبارة “النواة” إلى التعالق بين الرحلتين، وإلى الفوارق بينهما، بين المعرفة الخارقة المتعالية، والعجيب الإنساني؛ فالخارق يتجاوز حدّ العقل ومنطق الأشياء، إنه يثير الدهشة وسؤال الحكمة، وتفسيره ليس من ذاته، وإنما من خارجه، من الحكمة الإلهية والمعرفة الشاملة بما سوف يكون. وهذا يختلف عن العجيب الروائي الذي يثير الدهشة، ولكنه لا يستعصي على التفسير المنطقي للظاهرة، بل إنه في ذاته تفسير لكثير من الحوادث التي نراها ونعجز عن فهمها.
لقد كان الخضر مرشد موسى في الرحلة، وكان عليمًا بمآلات الأمور، وكان مطلق اليد في التصرف في مصائر الأحداث والشخوص، طبقًا لمقتضيات هذه المعرفة، وتلك الحكمة، وكذلك الراوي هنا؛ إنه عليم بشخوصه وأحداثه، ولكنه لا يتدخل في تغيير المصائر، إنه يحكي جانبًا من سيرته الوظيفية، ويُحيل على وقائع ليست خارقة، ولكنها غريبة..!
بالتأكيد سيحتاج القارئ إلى بعض التنبيهات بين الحين والآخر، تمامًا كما احتاج موسى عليه السلام، ويبدو هذا مفهومًا مع تجربة يحتاج كل حدث فيها إلى تفسير، وإذا كان الخضر عليه السلام قد فسّر لموسى كلّ حدث على حدة، ليكشف له وجه الحكمة منه، فإن الراوي هنا ليس مضطرًا إلى تفسير أحداثه، لقد اتصلت بدايتها بنهايتها، واختارت شخوصها مصائرها، واكتملت حكايتها الغريبة والمشوقة.
لقد “امتصت” الراوية – على نحو رهيف – البنية السردية لرحلة موسى مع الخضر، وصنعت هذه المفارقة بين خطابين وعالمين، يختلف ظاهر الحدث فيهما عن باطنه، قد لا يخلو الظاهر من دلالة غير مفهومة وعبثية، في الوقت الذي يبدو فيه الباطن على خلاف ذلك.. سيضعنا الراوي إزاء قوانين عالمه وقواعده، وسيعيد ترتيبه مرة أخرى وفقًا لمنطق وجودي، وسياق اجتماعي، يكتسب فيه الإنسان قيمته، ليس من ذاته، ولا من مواهبه، وإنما بمقدار قربه من السلطة.
ولنا – بالتأكيد – أن نتحدث عن إعجاب الراوي بعالم المسجلين؛ باعتبارهم نقيضًا له، فقد صدقوا مع أنفسهم وآمنوا بمواهبهم واختاروا طريقهم بإرادتهم، سيقوم الراوي برسم جدارية كلية، في نهاية النص، يعيد فيها بلورة المشاهد، طبقًا لقدرة كل شخصية على التأثير والاختيار الحر، لتتشكل هذه المفارقة الساخرة بين خطابي الرحلتين؛ عالم الحكمة الإلهية التي لا يمكن استيعابها إلا بتأويل خارجي متعالٍ، وعالم المسجلين خطرًا، الذين فرضوا قانونهم واختاروا طريقة حياتهم.
(3)
تقدم البنية السردية عبر منظور خطي محكوم بزمنين: زمن إطاري خارجي (زمن الحكي) ومقداره ساعتان تقريبًا، يبدأ بتردد الراوي في الذهاب إلى سرادق العزاء، وقيادته سيارته في شوارع وسط البلد حتى جلوسه على إحدى المقاهي في انتظار صديقه ومعاونه القديم عبقرينو ليستشيره – كما كان يفعل سابقًا – في ذهابه إلى السرادق. وهذا زمان يمتاز بحضوره الآني، ويشغل حيزًا محدودًا من الفضاء السردي، سواء المكاني والدلالي؛ إذ يقتصر على حركة سيارة الضابط داخل أحد شوارع وسط البلد وصولا إلى هذه القهوة ومنها إلى السرادق.
ومن داخل هذا الزمن يتولد زمنان آخران: الماضي الذي يحضر عبر عمليات التداعي والتذكر، وزمن المستقبل الذي يكتسي به السرد صبغة تنبؤية لشكل السرادق ومواقع المسجلين فيه وعلاقتهم بناجح وموقفهم من القادمين لتقديم واجب العزاء.
يرتد السرد عبر تقنية “الاسترجاع” ليقدم لنا سيرة الضابط قبل دخوله كلية الشرطة، وبعد عمله ضابطًا وحتى خروجه منها، وبذلك يطلعنا على الأرشيف الشخصي الذي يشكل أزمة هذا الضابط؛ فقد اضطر – استجابة لرغبة والده الضابط السابق – إلى دخول كلية الشرطة، رغم تعلقه بفن الرسم الذي لم يتركه طوال فترة خدمته، وهذا ما لفت انتباه زملائه، فأطلقوا عليه الضابط “فجنون باشا”، من الفن والجنون معًا، وهو وصف ساخر في ظاهره، ولكنه يلخّص أزمته؛ فلم يعش فنانًا خالصًا، ولم يعش ضابطًا خالصًا، ومن هنا كانت حاجته المستمرة لجناحين يحلّق بهما وهو في قيده، وقد وجدهما في “ناجح” المسجل الخطر، والمرشد الذي اختار حياته وبنى عالمه أو مملكته التي تدين له بالطاعة، وهذا هو الجناح الأول، أما الآخر فهو “عبقرينو” مهندس الاتصالات الموهوب في البحث الجنائي، وقد منحه “فجنون” الفرصة كاملة لتأكيد مواهبه في البحث والتحري، وتحقيق حلمه الذي فشل في تحقيقه، حين لم يتمكن من الالتحاق بكلية الشرطة، واضْطُّر لدخول كلية الهندسة.. “نسجته ونسجت ناجح على كفي، لديّ جناحان أطير بهما” (ص 89).
لم يكن هذا نجاحًا بقدر ما كان تكيفًا مع وظيفة فشل أكثر من مرة في الاستقالة منها. لقد استمرّ بجناحين ليسا له، بجناحين حرّين، اختارا طريقهما، واحتفلا – كلٌّ على طريقته – بنجاحهما في الحياة.
ورغم ذلك، لا يجب الخلط بين ناجح وعبقرينو؛ فقد كان الأخير فردًا واحدًا يحاول تحقيق حلمه، متماهيًا مع السلطة وقوانينها، ويحتفل – فرحًا بنفسه – باحتساء كأس من الخمر عقب انتهائه من حلّ قضية صعبة، وتقديم المتهمين إلى العدالة، بينما كان ناجح جماعة كاملة، وزعيمًا لدولة غاطسة في المجتمع، تشكّل النقيض للدولة وقوانينها، فلم يكن فردًا، وإنما جماعة من المسجلين الذين يُعرفون بصفاتهم وأسمائهم ووظائفهم التي اختاروها، فلم يكن مجانيا أن يهبهم السرد الأسامي الدالة، التي لم يفرضها عليها آباؤهم، تماما كما اختاروا حياتهم: ناجح (الدكتور ناجح) أم خنوفة، شحتة، منير أبو شفة، سيد كباية النشال، قنبل… الخ.
فمن حيث الظاهر يبدو ناجح ورجاله جماعة من المهمشين، والحقيقة أنهم سلطة مضادة لسلطة الدولة، وأحيانًا يكونون جزءًا منها، فعلاقتهم بها شديدة التركيب، ترتبط السلطة بهم لتحقق الضبط والربط، ويرتبطون بالسلطة – عبر زعميهم ناجح – ليؤكدوا وجودهم ومهابتهم في مناطقهم، يتصلون بالسلطة وينفصلون عنها في الوقت نفسه، والسلطة تعلم ذلك، بل إنها تسمح به وتوظفهم لصالحها، وهم يعلمون ذلك ويوظّفونها لصالحهم أيضًا.
وقد يمتدّ أثرهم أكثر فيحددون مصائر رجال السلطة؛ فالراوي قد أحيل للتقاعد بسبب علاقته بناجح، رغم أنه لم ينجز عمله الوظيفي إلا بمساعدته؛ فكم من قضايا صعبة لم تحل إلا بما لناجح من ولاية وهيمنة على عالم المسجلين، فهو من يقدم الأدلة ويقدم المتهمين أحيانًا، ويحمي شهود الزور، فالجميع يدرك قوة ناجح، حتى أمناء الشرطة الذين أفرطوا في الإخلاص لأعين الضباط، أدركوا بعد فترة أن دولة ناجح باقية والداخلية إلى زوال، هذا ما وعاه الأمين خالد، الذي كان عين ناجح اليمنى في الماضي “والآن هو عينه اليسرى” (ص 34).
لا يكتفي السرد بمنح “ناجح” اسمًا إيجابيًّا فحسب، وإنما يجعله موضوعه، وكل الحوادث والشخوص الأخرى هي على هامش حكاية ناجح مع الضابط ذي الاسم الذي يثير من الشفقة أكثر مما يثير من السخرية، الاسم حضور وتمييز، الاسم غير اللقب الذي يشترك فيه الكثيرون، وناجح حظى بهذا وذاك، فهو الدكتور ناجح، ليس هذا فحسب وإنما حظى بأوصاف جسدية ونفسية متعددة، وامتدت ريشة “فجنون باشا” إلي وجهه وروحه مرات عديدة، وكأنها تحاول مقاربة نص يستعصي على النفاذ، يبدو ناجح أحد التحولات الساخرة للبطل الشعبي؛ إنه “كبير المنطقة، لكن ناجح ليس كأيّ كبير، هو كبير الحاضرين والغائبين والذين يحلمون، العاشقين والطامحين وأولي العزم من النشالين، صبيان المخدرات وحريفة البانجو، والذين يحملون مشارط في جيوبهم الخلفية …” (ص 18).
تتولد السخرية من التحويل المستمر للثيمات المستقرة للبطل الشعبي، النموذج الذي تتجمع فيه أحلام الطامحين والطامعين، والبطل الذي ينتصر وينقذ الجماعة من المخاطر. كل هذه الثيمات يتم تحويلها ليس فقط لفهم الواقع وتفكيكه وإنما لتجسيده أيضًا، لنتذكر أننا في رحلة مع الراوي الضابط إلى عالم المسجلين، وهنا تتحول السخرية إلى ملهاة، سلطة المسجلين التي تغدو جزءًا من سلطة القانون، وجناحه الذي يطير به.
لقد وضع ناجح قانونه الذي يخصه وجماعته، كما أنه ملتزم بمسؤوليات تجاهها؛ يوفر لها الأمن والحماية والعمل، ترتبط الجماعة به، ويرتبط بهم لتحقيق حلمه وإنفاذ قانونه، وتوريث ملكه لابنه من بعده؛ فهو يسمح بتجارة الحشيش وتوزيعه، ولكنه يرفض بشكل صارم الاتجار في البودرة، ولا يقبل أن يتستر على أحد أفرادها؛ فهو يعتبر الذين يتاجرون فيها خونة وعملاء لأعداء الوطن.
يقف ناجح هذه اللحظة في سرادق العزاء، يتقبل العزاء، وحزنه كبير وعظيم؛ فـ”الموت لم يسرق منه ضناه، بل سرق حلمه” (ص 179)، فـ”هوجان” فقيده ووريث دولته، ولم يكن هوجان فتى عاديا، كان أيضًا محملا بسمات البطل الشعبي، من زوايا ساخرة، من حيث ولادته وفطامه على قطرات البيرة، ومن حيث نسبه، فهو “مسجل خطر أصيل ابن مسجل خطر وصولا إلى جده الرابع من الفئة النقية والنطفة الخالصة” (ص 13)، لنتذكر أن الراوي الشعبي “يهتم بإبراز نسب البطل وخصائصه الجسدية عند الولادة والمحن التي تعرض لها، والمكائد والعراقيل التي تبرز أصالته وقوته” (معجم السرديات ص 265).
هوجان هو النسخة الجديدة من أبيه، استقلّ عنه وكوّن تشكيلًا جديدًا من المسجلين خطرًا، ومن النساء طبقًا لمطالب التحولات الاجتماعية والسياسية الجديدة، مرحلة الانتخابات وألاعيبها… (ص 180). لقد جاء مقتل هوجان ضربة قاصمة لأبيه، ولنا أن نعتبره بمثابة رفيق البطل في السيرة الشعبية، الذي دونه يعجز عن مواجهة قوة الدنس بمفرده، ولذا فهو دائمًا في حاجة إلى رفيق.. ولكن رفيق بطل السيرة غالبًا ما يكون رفيق نبوءة ولادة البطل وليس ابنه (أحمد شمس الدين الحجاجي: مولد البطل، دار الهلال ص 61).
لا يتوقف السرد عن ممارسة هذه التحويلات؛ فالهدف هنا ليس تقديم سيرة شعبية معاصرة، وإنما توظيف ثيماتها وتحولاتها، والسخرية من جلال النموذج الذي تمثله، فقوة الدنس التي كان يواجهها البطل الشعبي ويعجز عن مواجهتها دون رفيق، تعهّدها هنا بطل مسجّل خطر، والرفيق ليس أكثر من وريث لهذا الدنس، وهنا تبدو الدلالة أعمق من فكرة تفكيك السلطة، إنها بالأحرى تفكّك نموذج البطل الفردي، وتسخر من حلم انتظار المخلّص الذي يمتلك قدرات خارقة تمكّنه من تحقيق العدالة وإنقاذ الجماعة، والسخرية هي السبيل الناجع في تفكيك هذا النموذج.
(4)
تتسع لغة السرد لتتجاوز الدور الوظيفي المعتاد لتغدو هي بذاتها تجسيدًا لأشواق الفنان في روح الضابط الراوي، بل إنها لتتجاوز الثيمات الضيقة والمحدودة التي تحدّدها الأحداث والشخوص، لتغدو هي بذاتها دليلا على مقدار الوعي التفكيكي ليس بالنموذج السلطوي، الذي تحدده ثنائية الضابط والمجرم، والعلاقة المعقدة بينهما، فنحن هنا إزاء لغة سردية ثرية، تتناثر على جسدها العبارات الآتية من الأزمنة البعيدة والقريبة على حد سواء، بما تؤشر له لمواقف فاعلة في الوعي المعاصر، وكثيرًا ما يتم استدعاؤها – كما سنشير – في المواقف السياسية والأزمات الاجتماعية المختلفة، بالإضافة إلى عشرات النصوص الغنائية التي تُستدعى باستمرار لأسباب متعددة، منها امتصاص طرائق الحكي الشفاهي وموقع الراوي الشعبي، وتستدعى لتخلق سجالًا ممتدًا بين ما يدور في عقل الراوي وناجح، لنكتشف معها مقدار التماهي بينهما، وأن ناجح من زاوية ما كان يحمل وجه الفنان الحر الذي عجز الضابط عن أن يكونه.
وهذا كله يجعلنا إزاء نص سردي أقرب إلى تعاشيق الأرابيسك، حين يجدل الفنان أكثر من مادة في الجسد الواحد، أو إزاء لوحة متعددة الألوان، لا ينتمي معناها إلى أيّ لون منفردًا، وإنما يتخلق المعنى من العلاقات المختلفة بين مجموع الألوان.
ولأننا إزاء راوٍ فنان، قضى عمره كله في قيد الوظيفة، يخشى التصريح بموهبته، ويحرص على إخفائها عن الجميع وعن المسجلين تحديدا، “لم تستطع أن تقول له إنك فنان، وإلا باعك لكل المسجّلين، الخطرون لا يحترمون إلا الخطرين” (ص 166). لأننا إزاء هذا الراوي، فقد تلون السرد بألوان فرشاته، وغدا مشحونًا بهذه البورتريهات باذخة الجمال، لقد وجد قيد الوظيفة براحه الكبير في هذا السرد الملوّن، لتتخلّق المفارقة من أعماق البنية، فتتسع دوائرها، لتشمل وحدات السرد كلها: الأحداث والشخوص والزمان والمكان… ولتغدو السخرية فعلا منتصبًا، وكأنه علامة تعجّب كبيرة، يضعها السرد إزاء حياتنا بكل تفاصيلها.
وهكذا يقرر شحته المسجل الصغير التوقف والاعتزال بعد سنوات طويلة، لقد استراح لـ”آيات” ووجد راحته معها، و”كما حدث للرئيس السادات حين أتته فكرة زيارة إسرائيل، وهو في طائرة في قلب السماء، اتخذ شحته قرار الاعتزال وهو في حضنها” (ص 244).
قد لا تحتاج السخرية هنا إلى شرح، وهي نابعة من العلاقة بين الموقفين، والإصرار على إنزال الموقف السياسي من علياء الحكمة المظنونة إلى ابتذال الواقع المعيش، فالربط بين الموقفين على مستوى الصورة التشبيهية لا يأتي لمجرد توضيح الفكرة، وإنما ليؤكد ما بين الموقفين من اتصال المقدمات بالنتائج.
لا نتحدث هنا عن لغة تحسينية لا وظيفة لها، وإنما نتحدث عن لغة قادرة على اكتناه الأحداث والمواقف المختلفة، وربط الحدث السردي بالسياق الاجتماعي والسياسي، وجدل النصي الروائي بظلال النص الشعبي، وكأننا إذ نقرأ رواية نقرأ في الوقت ذاته سيرة، ولكنها ليست سيرة البطل النموذج، وإنما هي سيرتنا نحن، وهي لا تفعل ذلك كله لتمتعنا فحسب، وإنما تفعله بالأساس لتجبرنا على التفكير والقلق والشك، إنها – شأن كل فن كبير – لا تقول ذلك مباشرة، ولا تقوله عبر أحداث جليلة، ولكنها تلتقط أحداثًا عابرة، وقد تبدو عادية لكثير من الناس، وقد لا تتجاوز فكرة المانشيت في إحدى الصحف، كالجنازة التافهة التي أقيمت لفنان كبير بحجم عماد حمدي.
لا تتأكد اللغة بأكثر من حضورها عبر الأغنية الشعبية في هذا السياق، فوظائفها متعددة، ولعل أخطرها أنها تمنح السرد هوية وجدانية خاصة (شعيب خليفي: الرحلة في الأدب العربي، ص 121)، هوية تجعله جزءًا من العالم الذي يشكّل فضاءه، وهي تحضر بحساب مقدر، لتقيم حوارًا بين الراوي وناجح، أو لتكشف ما يدور في ذهن أحدهما في لحظة محددة، وهكذا يتردد هذا المقطع من شريط الكاسيت داخل السيارة التي يقودها الراوي:
“واحد ابن حرام، قاعد جوّه نافوخي.
واحد كله إجرام آه منه يا خوفي”.
يعتبر الراوي هذا المقطع من الأغنية إشارة، تخبره بأن يرجع من حيث أتي، وألا يذهب إلى سرادق العزاء، وهذا الفهم، يطلعنا على جانب مهم من حياة الراوي وناجح معًا، فالراوي لم يترك الوظيفة إلا بعد أن تركت أثرها في نفسه، فجزء من داخله يأخذ العلامات ويمشي خلفها، وهذه صفة رجل المباحث لا الفنان، كما أن عدم استجابته لهذه العلامة، وإصراره على الذهاب إلى العزاء يطلعنا على جانب من طبائع المسجلين وعلى رأسهم ناجح: “اسمع، المرشد ليس ابن خالتك، كلهم نسخة واحدة، رديئة، ينفض يده من يد الضابط الذي رحل ليضع مؤخرته في يد الضابط الجديد، مات الملك عاش الملك” (ص37).
وتظل الكلمات تنساب من شريط الكاسيت داخل السيارة، وتلتقي مع تطوّرات السرد وتقدمه، لتكشف لنا كثيرا من أبعاد العلاقة بين ناجح والراوي: “ادفع نص عمري، والباقي أقسطه/وترجّع لي عقلي اللي إنت ملخبطه”.
وهنا يصرّح الراوي أنه تلقي هذا الشريط هدية من ناجح، الذي انتحل صفته أكثر من مرة، وحين يواجهه: “يقول بابتسامة صفراء: مضطر يا سعادة الباشا، فعلتها لأجلك” (ص27).
هنا تبدو المسافة أكبر من مجرّد انتحال صفة، هنا لا نعرف – بالتحديد – صاحب العقل “الملخبط”، أهو الراوي أم ناجح، أم هما معًا؟ فكل منهما يودّ لو يكون مكان الآخر، أو لنقل إنّ كلاّ منهما يبحث عن نصفه المفقود في الآخر.
وإذا تركنا أغنية الراوي إلى الأغنية التي يتمتم بها كثيرا وعي ناجح:
“مش باق مني غير شوية هم/متلوثين بالدم
مرّين وليهم سم/مقدرش أسقي في مواجعهم“.
ترتبط هذه الأغنية تحديدا في الوعي المصري باحتراق قطار الصعيد أيام العيد قبيل ثورة يناير 2011، وهنا يلتقي الفردي بالعام، وتختزل الكمات مواجع الفقد الكبير، وتكثفه، وتعطينا بعدًا جديدًا لهذا الرجل الذي يقف منتصبًا في السرادق، يخشى أن تدمع عيناه أمام جمهوره.
تجري كلمات الأغاني في كاسيت السيارة، وتتردد في وعي ناجح والراوي/الضابط؛ فالاثنان – تقريبًا – يستريبان في الجميع، وإن كانت الجهة مختلفة، وهنا تقوم الأغاني بوظيفة توشيح السرد، بقدر ما تكتنه بدلالتها وإيقاعها ما يدور داخل ناجح والراوي، باعتبارهما في العمق وجهان لواقع واحد، واقع القهر والجبر، فكل منهما يودّ لو كان مكان الآخر.
(5)
تبدو العلاقة بين موضوع الرواية وعنوانها في حاجة إلى استبطان موسَّع، فما العلاقة بين فجنون وعماد حمدي؟ لدينا أكثر من إشارة، وحدث واحد، هو خروج الضابط لتأمين جنازة الفنان الكبير، وكانت جنازة قليلة العدد، لا تتناسب مع ما قدمه عماد حمدي لجمهوره على امتداد رحلته الطويلة، وبعدها جلس الضابط الفنان على المقهى فطالع صورة الفنان الشهير على الحائط، وهو يدخّن بشراهة في فيلم “ثرثرة فوق النيل”، صورة في غاية البؤس تشبه نهايته؛ فقد مات فقيرًا معدمًا. هذا هو الحدث الوحيد المباشر الذي يتصل بعنوان الراوية… فما العلاقة؟
يبدو الراوي حزينًا من تشييع جنازة الفنان الشهير على هذا النحو، كان يجب توديع فنان مثله بطريقة تليق بما قدمه من فنٍّ، أمتع به جمهوره عقودًا، ولكن فيما يبدو أن المجتمع كله أدار ظهره للفن، وانشغل بالسلطة، رغم أنه يحتاج للتحرر من شروط القهر والجبر، ولن يساعده على ذلك غير الفن، بالتأكيد يمكنك أن ترصد المفارقة الكبيرة بين ضآلة جنازة الفنان الشهير وسرادق عزاء هوجان بن ناجح، لتدرك حجم التحول ومقدار ما انتهت إليه الأمور.
الصورة الأخيرة لعماد حمدي على جدار المقهى، وهو يقوم بالتخديم على أصحاب الكيف تبدو علامة أيقونية هائلة الدلالة على ما انتهت إليه الأحوال كلها، لقد صارت السلطة هي الكيف الجديد، والجميع يقوم بالتخديم عليها، المواطنون التواقون للسلطة، وآلاف المسجلين خطرًا، وضباط المباحث الذين يقضون أعمارهم الثمينة في خدمة السلطة، دون أن يدركوا مواهبهم الحقيقة.
لقد كان عماد حمدي فتى الشاشة الأول في عشرات الأفلام، وكذلك كان عبقرينو، الفتى الأول الذي منحه الضابط فجنون الفرصة كاملة، فازدهرت مواهبه في عشرات القضايا، وغطت شهرته المديرية إلى غيرها، واستعان به ضباط آخرون، ولكنه في النهاية اختفى، وانتهت حياته، وآوى إلى الظل، مثله مثل الفنان الكبير، فلم تحظ مواهبه بجملة تكريم واحدة.
الجنازة الجديدة معنى رمزي رهيف، ودعوة جديدة لإعادة ترتيب الأوضاع، حيث يحتل الإنسان ومواهبه مركز الحياة، الجنازة الجديد تعني أننا نمتن للفن ونعيد الاعتبار إليه، يطمح فجنون – وقد تخلص من قيد الوظيفة – في حياة جديدة، حياة يقضيها مع الفنان داخله، الفنان الذي لا يشغله أيّ شيء عن فنه وعن رحلته في خدمة الحياة الحرة المبدعة.
الجنازة الجديدة لعماد حمدي انحياز للخلق والابتكار وقيمة الإنسان وموهبته، فـ”الفنان يخلق مدينة أخرى حتى لو كان يرسم شارعًا واحدًا” (ص288).
الفنان يمنحنا فرصة أخرى، وتقديرا للحياة، واختيارًا حرًا للمصائر والمواهب، هكذا كانت حياة عماد حمدي، لقد أدى أدوارًا عديدة على الشاشة الصغيرة، وقدّم حيوات كثيرة، وجسّد مئات الشخوص التي تحيا بيننا اليوم، يبدو الأمر إذن وكأن أرواحًا كثيرة تناسخت فيه، تناسخت في الجسد الواحد، وهذا ما يميز الفن، أو ما يتماز به الفن، وهذا ما يردده فجنون في الأسطر الأخيرة: “انظر لنفسك كأنك صفحة بيضاء، أنت الآن مولود جديد، الذي يولد في العمر مرتين يعش طويلا، وسينجح في الحياتين. فرصتك أمامك، أنت عشت مرتين، مرة في البوليس بجسدك وعقلك، وهذه مرة أخرى للفن خالصة، تعيشها بروحك” (ص 287).
قدمت الرواية عالمًا غريبًا مشوقًا، توالت مشاهده السردية في حركة أفقية ممتدة، أقرب إلى مشاهد السيناريو، تتصل بها في الوقت نفسه حركة رأسية كاشفة لبنية نسقية عميقة، تكتنه المتداول واليومي والعابر، فلا تتوقّف الدلالة عند حدود ما نرى أو نشاهد، وإنما تتسع بقدر ما في اللغة السردية من رحابة ودقة نسج تشد العابر إلى المتجذر في الثقافة والوعي الجمعي الذي لم يتشكل في عقد أو عقود قليلة، وإنما تشكل عبر تاريخ طويل من السرد المتنوع.. لقد كان كل شيء يدعوك إلى التفكير والقلق، ولن تنتهي حتى تردد بينك وبين نفسك: إننا في أمسّ الحاجة إلى التساؤل الذي لا يعرف التوقف، أو لنقل: إننا في حاجة إلى جنازة جديدة، بعدها نبعث من جديد.