مرآة
في الثانية عشرة ليلاً هدأت أصواتهم. إما لأن الوقت متأخر أو لأنهم تعبوا. احتشدوا في الصالة واقفين قبالتي وأنا جالس على الكرسي. كنت كأنما أراهم في مرآة غائمة تبرق فيها أحيانًا نقاط مصقولة. تعجبت من مناظرهم. طوال وقصار، بملابس وأزياء مختلفة، من أعمار متعددة، على وجوههم تعبيرات متنوعة. شملهم شيء واحد مشترك أنهم جميعًا كانوا ينظرون إليَّ معًا برصانة وصمت. لا أذكر من فيهم الذي تقدم نحوى أولاً فصافحني مودعًا من دون كلام وأولاني ظهره. لعله الوعي، أو الأمل، أو الحلم، أو الإقدام. ثم تقدمت نحوي ذكرياتي في معطف قديم. أمسكت كفي وهزتهما في الهواء بحرارة كأنما تعتذر لأنها لن توافيني فيما بعد إذا استدعيتها. أومأت برأسها تسلم على الآخرين وغادرت وهي تكتم سعالها في قبضتها. تشجع الباقون فاقتربوا مني واحدًا بعد الآخر يشدون على يدي وينصرفون بهدوء. شعرت بانقباض من الرحيل الذي قطع الأمسية بلا تفسير. أحسست بالمكان خاويًا موحشًا. الآن تسبح وتتطاير الأوراق والكتب بنعومة في الجوّ وتزول في نقطة لا أراها. تواثبت الملعقة ذات اليد الطويلة التي اعتدت أن أقلب بها السكر في قدح الشاي وتلاشت. السراويل الشتوية الدافئة التي كانت تحميني من البرد. هرولت منصرفة من دون أن تتطلع نحوي الأقداح التي عشقت خصرها المضموم، ولحقت بها المصابيح الجانبية الصغيرة. وحدي على الكرسي في الصالة الممتدة، ولا شيء ولا أحد سواي. كأني في خلاء فسيح. ستحيا ذكرياتي من بعدي بصورة أو بأخرى، ليس بالحيوية ذاتها، ليس بحضور مكتمل، لكن نتفًا منها وأطراف قصاصات ستظل حيّة في عقل أو روح أخرى. ستجد أحلامي قلبًا آخر، كما تجد النغمة لنفسها منشدًا جديدًا. ستواصل ذكرياتي وأحلامي حياتها، شيء مني وشيء مما ستجمعه في الطريق. استغربت أن يستمر وجودي في الحياة خارجي. حدقت بالفراغ والسكون حتى كل بصري. ثمة صور شخصية تلمع في الجو لحظة وتنطفئ. زاد الصمت حضورًا، وبقيت في عقلي مرآة تومض في العتمة. لم يبق سواها. على سطحها توهجت مهتزة نقاط صغيرة مثل مشاعل في الريح. دراجة على سطح بيت. حقل ممتد. صوت والدي. عفاف التي أحبها منذ الصغر. عين جدتي الطيبة الحولاء. باب المدرسة الضخم. أمي ممسكة بكفي نقطع شارعًا طويلاً خاليًا من المارة خافت الأضواء.
سطع في عيني وهج أبيض، وانقطع شيء ما للحظة لم أشعر فيها بنفسي. وحين رجعت لم أر الصور، فتملكني فزع غريب. إذا غادرتني الصور هي الأخرى فلن أرى نفسي ثانية. لن أتذكر حتى هذا الحفل الصغير، ولا ملامح الضيوف الذين كانوا هنا. حاولت في جزع أن أستجمع كل ما في بدني من جهد لأنهض وأغلق باب الشقة بالمفتاح. خيل إليَّ أن كل شيء متوقف على ذلك. لكني لم أستطع أن أتحرك. تساءلت “ما الذي يحدث؟”، وعلى الفور تساءلت ثانية “ما الذي كنت أسأل عنه الآن؟”، فلم أتذكر. شاهدت في المرآة، المرآة ذاتها، تتهشم لكن مثل سائل يتمدد ويتهتك. وكما يشعر الأعمى بالضوء على جلده شعرت بالظلام لكني لم أره.