أحابيل التجريب وألاعيب الأقنعة السردية
يلاحق المبدع المتعدد وليد علاء الدين غوايات الكتابة السردية، وهو القادم من الشعر والمقالة والمسرح والفنون والبحث في التراث، مستعينا بقراءاته المعمقة للموروث الصوفي، والتقاطاته الدقيقة لتفاصيل اليومي المربك، ومقدرته على استعاذة المخزون المعرفي، واسترداد الصور المدخرة في زمن الطفولة، وإبان أسفاره المتعددة، وغنى الروافد والأنواع التي يهتم بها في حياته الثقافية وممارساته الأدبية المتشعبة.
في روايته الجديدة “الغميضة”، الأشبه بنوفيلا، ليس من حيث تمظهر حجمها فحسب، بل أيضا من خلال كثافتها واستعاراتها وبنائها الخطابي، يرتع قليلا في متخيل الطفولة، بدهشة أسئلتها، وصور تمثيلاتها للعناصر والأشياء المشاهدة، مستفيدا من خبرته في عالم الركح، ومعرفته بعوالم المرحلة العمرية المفصلية في حياة الإنسان (الطفولة).
لا يخرج وليد علاء الدين عن نهجه الفني والفكري المعلن عنه منذ أول عمل إبداعي يصدره، وهو جعل المنجز الأدبي محاورة صريحة مع سؤال “الواقع المتردي” للعالم العربي، تسعى إلى الكشف والمحاكمة والتشخيص، وملاحقة زوايا العتمة في السيرورة التصورية للإنسان العربي، فاضحة إياها أمام القارئ، ومعلقة نشازها قُدّامه على حبل الغسيل، مورطة إياه في لعبة المكاشفة الصريحة، وفرز مكامن العطب، ونقد الذات، والتعرف عليها عبر محكي يوهمه بالحياد، فإذا به يجد نفسه عالقا ضمن الأحبولة النقدية (مرآة الانعكاس القرائي)، فلا منجاة له من مساءلة روحه، والخجل مما آلت إليه صورته الشائهة التي لا يلمحها في خضم الالتزامات والغرق في بحر اليومي متلاطم الأمواج، والانجراف في متاهة متعة “العادة” المضللة.
يستدرج الباث (الراوي)، وقبله الكاتب، المتلقي إلى متاهة سردية مضللة، تفانى في مداراتها عبر مجموعة من المقدمات والعتبات الموجهة، للإيقاع به، وتوريطه في “مسرحية هزلية”، يجسدها طفل وطفلة بكامل براءتهما، قبل أن يلفي القارئ ذاته طرفا جوهريا في لعبة بدايتها هزل، ووسطها جد، ونهايتها متاهة لا حدّ لها، لتكون “الغميضة”، اللعبة المسلية، قالبا استعاريا، ومتاهة مقنّعة لدهاليز مرعبة من الخوف والتيه، تؤثث دواخلها كائنات نصفها آدمي، ونصفها الآخر كائنات شيطانية حبلى بالشر والخديعة والمكر. يكابد الكاتب والراوي والشخصيات (الطفلان) والقارئ معا للخروج من فخها بأمان دون جدوى، فما إن يعتقد هؤلاء أن لعبتهم المضللة، الأشبه بكابوس فظيع، انتهت، حتى تبدأ متاهة جديدة، وهكذا دواليك: دهليز معتم يفضي إلى آخر أشد حلكة وتيها.
ألاعيب السرد وحكاية الأقنعة
كعادته في أعماله السابقة، ينحو وليد علاء الدين في تشييد عوالمه السردية التخييلية على أساس تجريبي، توقا إلى تجديد الشكل الفني بوعي حساس، واجتهاد ملموس، ففي كل مرة، ينتقي بنية خاصة لمحكيّه، ويختار قالبا مختلفا عما سبق أن وظفه. الشيء الذي يجعلنا أمام روايتين: رواية الحكاية بما تتأسس عليه من حبكات وشخصيات وفضاءات وأحداث ومغزى ودلالات مبطنة، ورواية الشكل الفنّي (الخطاب السرديّ) الواعي الذي تقصَّده الكاتب في روايته، وانتقاه عن اقتناع ليؤدي رسالة معينة، أو بالأحرى ليدعم رؤية الكاتب (الباث للخطاب والمصمّم له) تجاه القضايا الراهنة، وتجاه العالم الذي يعيش فيه، على اعتبار أن أخطر ما يُمرّر من دلالات إلى المرسل إليه، هو ما يعبر من خلال الأشكال والقوالب، ولو بأسلوب ضمني غير ظاهر للعيان، مستعينا بالتباسه وتخفّيه وتجريديته.
لاستدراج متلقيه، وظف الباث عدة فخاخ لتضليل العابر إلى المتن:
أ- فخ العتبات: جعل الكاتب من عنوان الرواية “الغميضة”، مدخلا مراوغا إلى لعبة القراءة، متخذا من أجواء لعبة طفلية عريقة، مثيرة ومسلية، جسرا ممهّدا لولوج سلس لفعل القراءة (اللعبة) (أليست القراءة لعبة مضللة، ومتاهة افتراضية للبحث عن متعة خاصة لم يتحها واقع القارئ، وأفقا يخرج به من ضيق محيطه؟)، غير أن المتلقي سرعان ما يستفيق على خدعة سردية انطلت عليه، ليجد ذاته في فك كابوس يضطره ليعيش مع شخصيات الرواية، فظاعاته، وتلوينات رعبه، واضطراب المشاعر التي يضع فيها من يقرفص عليهم بكلكله البغيض. يثبت هذا المنحى البنائي فرضية كون اللعبة التي يختارها المرء للتسلية لن تكون دوما كذلك، والأدهى أن الحياة بمداخلها الشهية، قد تضع الإنسان من حيث لا يدري ضمن اختبارات صعبة، وتحديات وعرة قد لا يخرج منها سالما، حتى لو اتخذ كافة احتياطاته وتدابيره الاحتراسية. الحياة لعبة في ظاهرها المتع، وفي باطنها تتخفى المحن والشدائد. تلك هي لعبة العنونة، وربما باقي المشيرات والمداخل النّصية الأخرى على اعتبار أنّ النّص تجسيد للحياة، واختصار لتجربتها، وفضح فنيّ لكوابيسها المتعددة والمتلاحقة.
ب- فخ النوع السردي: يُصدّر الرّوائي متنه بإشارة فنية توجه متلقي “الغميضة” إلى كونها لا تنتمي إلى النوع الروائي، بل هي مسرحية. يقول الكاتب الضمنيّ “هذه ليست رواية، إنما مسرحية خبأتُها في جسد رواية، لقد خدعتك، يمكنك أن تقرأ لتكتشف بنفسك، أو انزع هذه الصفحة، وأهدِ الكتابَ لصديق تمنيتَ خداعه” (وليد علاء الدين: الغميضة، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2020م، ص. 7)، بمعنى أن الكاتب المُضمر، يعلن منذ البداية قرّاءه إلى عدم محاكمة نصه من منطلق صفاء النوع السردي، بحكم أنها تستدمج خطابات أخرى شبيهة أو مفارقة، أو على الأقل، تستضمر نوعا موازيا صُبّت فيه الحكاية، ويتعلّق الأمر بنوع “المسرحية”.
لن يشكّل هذا الأمر مدعاة لمعاملة النص على أنه مسرحية خالصة، أو محاكمته على أنه تهرّب من قضية “التّجنيس”، وتبرّم منه، بل هو دعوة واعية وصريحة من الباثّ لمساءلة المحكيّ من منطلق واع، وقراءته بتبصّر، تنويها منه إلى أهمية الشكل أو القالب الفني، ولافتا النظر إلى الجهد المبذول في هذا الصّدد، مفترضا أنّ القراء، في غالبيتهم، يحاكمون النّصوص الروائية بخلفيات مسبقة دون إعارة الاهتمام إلى الصوغ الجمالي، وما يحيل عليه من دلالات ومعان. هذه الإشارة، في نظري، كافية لوضع المتلقي أمام نص روائي تجريبيّ يستعير قالبا أو قوالب أخرى، ويستند على دعامات شكلية تغني وعيه بالنوع الروائي، وتعزز تجربته على مستوى اختبار التنويع، والتجريب، والتحايل على القواعد المسكوكة؛ بحثا عن آفاق أرحب للسيولة المضمونية.
ج- فخ الحكاية: تنطلق الحكاية بلقاء نسجته الصدفة بين طفل وطفلة، ليبرما اتفاقا بخوض لعبة “الغميضة”، التي لم تكن سوى قناع مؤقّت لا يحجب عن واضعه ما يعتمل حوله ضمن محيطه، ولا يستر عينيه عن رؤية وجوه الآخرين الحقيقية، بل يصبح مرآة تعكس بشكل بيّن ما يحفل به العالم من جنون وبهتان وزور وتناقضات وخداع ومكر وتفسّخ ورعب. تصير الغميضة مفتاحا لولوج مناطق التّماسّ المكهربة التي لا تُرى، تلك المتوارية خلف أقنعة المظاهر البراقة التي يجتهد اللاعبون الحقيقيون في ابتداعها (المهرجون، الشخوص الرئيسة المستحكمة في اللعبة) لتصبح أكثر تضليلا وتمويها للعالم من حولها.
تخرج مقولة ” الغميضة”، الفعل المسرحي المستعار عن مقتضى الظاهر، لتوقع المعنى بالشكل المعكوس عن طريق فعل المجاورة والإيحاء، إذ لم تعد “لعبة يمارسها جماعة من الأطفال، قائمة على أن تُغمض عينا طفل ويتنادون عليه من كل جهة، ويحاول أن يقبض على أحدهم، وعندما يمسك به يحل محله، وهكذا دواليك” (عبدالغني أبوالعزم: معجم الغني، مادة غميضة، نسخة محفوظة على موقع واي باك مشين، بتاريخ 15 دجنبر 2019م)، ولم تبق حبيسة التمثل المعجمي الذي يعتبرها “لعبة أساسها الاختباء والبحث، حيث يبدأ أحد الأطفال بالعدّ ووجهه على الحائط، بينما يختبئ باقي الأطفال المشاركين. وبعد أن ينتهي من العدّ، يذهب للبحث عنهم، وعندما يرى أحدهم، يسعى للقبض عليه، فيخرجه من اللعبة، وتستمر اللعبة إلى أن يتم إخراج جميع المتسابقين (المسلط صالح الهواش: من تراث الجزيرة السورية، دار الحكمة للطباعة والنشر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى، 1999م، ص. 207)، بل أضحت مغامرة جدية ترمي بلاعبيها في عالم موجع، ودهاليز خفية تحبل بالرعب والخوف، كاشفة أمام الشخوص (الطفلان) والقراء معا، حقائق ما خطرت على بال أحدهم من قبل، ومعرّية الخلفيات الضمنية المحجوبة عن الأنظار، بما فيها شخصيات إنسية متعددة الأوجه، وعوالم مليئة بالتناقض والتضارب، وكائنات بشعة متلونة تثير الرّهبة في النفوس، وواقع مزيف مسوّر بالمآسي والضيم والضيق والخداع والمكر والسفك والانتهازية، لا مجال للآدمية فيه.
ما حدث مع الطفلين، وهما يقتحمان عالم “الغميضة”، هو ما يحصل للإنسان، وهو يعتاد على عالمه، ومحيطه، وعادات مجتمعه، بالتدريج، وكلما خطا خطوة، صدمته تجارب جديدة، وتشَرّبَ، شيئا فشيئا، خبرة الأقنعة الغريبة عنه “les masque culturels”، وهذا بالضبط ما عناه أليساندرو بيزورنو “إن القناع يُخفي ويَكشف في الوقت نفسه. لكن يفعل ذلك بصورة مختلفة، بحسب الحالة وفي مختلف المراحل خلال الحياة. في البداية، تجد القناع في العائلة. إنك تعتقد أن لا أحد يملكه، بعد ذلك، تدرك أن الآخرين يضعونه. وإذا وضعوه، تستطيع فهمهم شيئًا فشيئًا عندما يكونون أمامك وجهًا لوجه. هكذا يبدأ المسار الطويل الشاق للتدرب على القناع. إنك مُلاحِظ وممثل، تسعى لفهم ما يكمن خلف القناع الذي يضعه الآخرون، وفي الوقت نفسه، تحاول فهم من يخدمك بصورة أفضل حتى تحمي نفسك من الآخرين. وإنك تضعه وتزيله. وحينما تغدو مراهقا، وأنت لست على يقين بما يكمن خلف القناع، فإنك تقرر ارتداءه، وأنت غير متيقن من الأمر الذي تحاول إخفاءه، فتبحث عن الأقنعة الأكثر غموضًا أو الأكثر إخافة، أو الشاذ منها، أو القناع الأكثر تضليلًا بصورة احتفالية لارتدائه. تترك مسافة بينك وبين كل الآخرين، بينما أنت تراقب نفسك، وشيئًا فشيئًا، تكبر داخل القناع الذي صنعته بنفسك، لكن أنت مجبر على ارتدائه شئت أم أبيت” (أليساندرو بيزورنو: القناع والهوية، مقابلة أجرتها ساساتيلي، ترجمة تقي الدين بن فيفي، موقع “أثارة”، بتاريخ: 8 أبريل 2020م، على الرابط: (https://atharah.com/the-mask-and-identity/).
صراع القيم ونزاع الخير والشر
لم يكن اختيار الطفلين لتأثيث عوالم المحكيّ من باب العبث والصدفة، بل جاء ليعضد اشتغالا واعيا على القيم والتصورات والمواقف داخل متن “الغميضة”. فالطفل والطفلة، وهما الشخصيّتان الرئيسيتان، يمثلان البراءة والصفاء، والإنسانية في جوهرها الفطريّ المطلق، وما يزالان على نقائهما الطبيعيّ، ولما تنل بعد، المدنية الصماء منهما. تلاقي بينهما حبكة الرواية، ليمثّلا الجانب المضيء في الإنسان، قبل الخوض في معترك الحياة المعتمة (لعبة الغميضة)، حيث يقودهما عماء التجربة، ونواياهما الحسنة إلى المخاطرة في عالم مقيت، حافل بالألغام والزيف والنفاق، دون أن يتسلحا بما يكفي من تجارب، أو يتدربا على مراوغة الألغام التي يحبل بها “المعترك”، ومخاتلة الشخوص الإنسية الهجينة والمركبة، المدعومة بنوازع الشر والانتهازية والاحتيال والمكر. يقول الراوي “ورغم رؤوس الحيوانات والطيور التي تُطل من كل مكان، تدرك سريعًا كعادة الحكايات أن الأمر على خلاف ما يبدو؛ فالأصل أنهم بشر يرتدون أقنعة. أقنعة كثيرة على أجساد بشرية كثيرة تتجول في كل الأرجاء في أزياء أبطال كل أساطير الكون وحكاياته، في ملابس الفراعين والرومان واليونانيين، والمماليك، والعثمانيين والأحباش والعرب والأفارقة والبدو، رجال في جلابيب فلاحية، وأخرى صعيدية، وأخرى من أزياء الوجه البحري، ورجال في بنطلونات أوروبية وملابس صيادين وعسكر ولصوص وبحارة ومُشاة وسقَّائين وحمَّالين وحطابين وأفندية ووزراء وباشوات وخدم. ونساء في زي بدويات وفلاحات وصعيديات، نساء بأغطية رؤوس تقليدية، تعرف الواحدة منهن من غطاء رأسها، الكيلاغايي من أذربيجان، والبندانة تميز نساء جبال الألب، والحبرة والبرقع والربطة واليازما والقبعات القازدغلية لنسوة آمان يالالالّي، والشرخة والإيشارب والمنديل أبو أُوية والعصبة والطرحة والفرودية والصفة والشطفة لبنات البلد في مصر وبلاد الشام، والمَكرونة لنساء الخليج، وأخريات في أغطية رأس دينية كالغودفا اليهودية، والمانتيلا للمسيحيات المتدينات من الإسبان وبعض الروسيات ونساء أميركا اللاتينية، والدوباتا من الهند وباكستان، والبونيه للأميركيات، والحجاب الأبيض لنساء أوربا الشرقية، والأبوستولنيك المميز لراهبات الأرثوذكس” (الغميضة، ص. 21).
جعل هذا الأمر الرواية ساحة عراك بين قوى الخير الممثلة بالطفلين، في نقاء سريرتهما، وبراءة غايتهما المتجلية في البحث عن متعة عابرة، وارتياد نزوات المخاطرة الشهية بصدق نية، وطهر طوية من جهة، ومن جهة أخرى قوى الشر المتمثلة في الشخصيات متعددة الوجوه، والكائنات الشريرة المخيفة، والدهاليز المعتمة الحافلة بالخوف والذعر وكل ما يسبب الانزعاج والنفور والتذمر للطفلين، وهما يمارسان لعبتهما الأثيرة التي لاقت بينهما دون سبق إصرار وترصد، ليلفيا نفسيهما في ورطة (حياة) مسوّرة بالقيود، والكوابيس، وسيناريوهات ضياع محتملة ستقودهما من متاهة إلى متاهة أشد خطورة. يقول السارد “جاء من نهاية الحشد صوت ضعيف ينم عن صدق صاحبه: لقد حيّرتنا يا مُتعدد، وجه واحد أم وجهان أم وجوه كثيرة؟!”، فعقب صوت مجاور ساخرًا “جوز و لا لّا فرد جوز ولا لا فرد؟!”، وسرعان ما صاحبته أصوات كثيرة تغنَّت بالعبارة ثم أخذهم الإيقاع إلى أغنية أحمد عَدويَّة.. صاحت البنت في حماس: وهذه أغنية ماما المفضلة، ترقص عليها. وسحبت الولد ليرقصا معًا. لا أحد يعرف حتى الآن من أين جاءت موسيقى الأغنية، ثم صدح معها صوت عَدويَّة الساحر، فراح الكثيرون يتراقصون على إيقاعها وارتفعت ضحكات ساخرة وأخرى ماكرة” (المصدر نفسه، ص. 38).
ترتبط هذه الثنائية الضدية الصدامية التي عرفها الإنسان على مدى التاريخ، بثنائية أخرى ملازمة، هي الزوج الدلالي، والتوأم المتطابق (الوجه والقناع)، فحيثما ذكر قناع إلا وخلفه وجه، لأن هذا الأخير هو الأصل المميز. فإذا كان بإمكان أيّ شخص ارتداء القناع الذي يريد، فإنه لا يمكنه أبدا تغيير وجهه ثابت الملامح، لذلك، يستطيع أن يظهر الشخص الواحد بأقنعة مختلفة، وفي هذا السياق يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل ليفيناس “لا يعكس الوجهُ التكوينَ الإنساني، وهو في حالة انغلاق واكتمال في حضرة الآخر، بل إنه يفتح هذا التكوين على عمقه ويضفي عليه بعدًا شخصيًا في الوقت نفسه” (Levinas, Emmanuel: Difficult Freedom, Essays on Judaism, 1997, p. 8.).
رثاء الإنسانيّ في الإنسان
تُخفي المسحة الساخرة في الرواية الوجه الحقيقي للأطروحة، مثلما تُلبسُ وجوه شخصياتها الفاعلة أقنعة غير إنسانية: “المزدوج”، “المتعدد”، الرجل في صورة قرد، المرأة في صورة عصفورة… عمقا نقديا سرعان ما يتجلى، كلما توغلنا في عملية القراءة، حيث يتم الرهان في الخطاب، على اتخاذ التهكم، والتستر، والتقنّع، والمفارقة… بوابات للمعرفة والتشخيص بالنسبة إلى المتلقين، وجسرا لإبلاغ رؤية نقدية وتصورا للعالم بالنسبة إلى الباثّ، الذي يشرّح زيف العالم ونفاقه، واحتفاله بالمكر والثعلبية، ونغوله بكائنات إنسانية تخلّت عن سمات البشر فيها، وتوارت خلف أقنعة مخاتلة لتتستّر على أفعالها البغيضة، وسلوكياتها المنحرفة عن الفطرة والذوق السليم.
نكاية في هذا العالم، تُحوّل الرواية عالم الزيف إلى مجرد فرجة عابثة، وإن تخللته مظاهر رعب حقيقي يفسد طمأنينة مرتاديه من الطيبين المسالمين، أو ممّن ما يزالون يحافظون على البعض من سجيتهم الإنسانية، لكن ما إن يقتحموا دهاليز هذا الواقع المعتم المرعب، مسلحين بصفائهم، حتى تصدمهم الفجاءة، إذ يلفون أنفسهم متورطين في دوامة من المسوخ متعالقة الحلقات، بعضها يفضي إلى بعض، مكتشفين عوالم ما عهدوها في واقعهم الأصليّ (عالم النقاء الذي ينتمون إليه بالفطرة)، وتفاعلات مطبوعة بالتّحوّل والخروج عن مقتضيات السلوك الإنساني القويم.
يقابل الخطاب بين عالمين: عالم طبيعي متوازن هو الخلفية الإنسانية السوية التي أفرزت صفاء الطفلين المجبولين على الطوية الحسنة، والنية البيضاء، وعالم مستتر يشتغل في الظل، وفي العتمة، ووراء الكواليس، أبطاله بشر بوجوه متعددة، لا مواقف لها، ولا أخلاق، ولا انضباط ولا قيم… غير أنه يجعل من العالم الزيف المتخفي واجهة في المحكيّ، بينما يتوارى الواقع الحقيقي (المأمول)، ليصير الأول غالبا على الثاني ومهيمنا عليه، مثيراً السخط والرعب في نفوس من لم يعهده، أو لم يفطن لما تحفل به الخلفيات المحجوبة وراء ستائر واهية، انسجاما مع رؤية نقدية مستبطنة تروم الفضح، والتعرية، والتشخيص، وتجلية صورة الإنسان المعاصر الحقيقة في المرآة، لعله يرعوي، ويعود إلى ذاته مصححا، مقوما، منقذا ما تبقى من الإنسان في شخصيته المقنّعة. يقول السارد متسائلا على لسان شخصية “المتعدد” «هل يقابل أحدُنا أحبابَه بالوجه نفسه الذي يقابل به أعداءه؟… استشعر البعض فخًّا في السؤال، ولكن آخرين تبرعوا بإجابة بدت جماعية: أكيد لا، فانتقل المتعدد إلى السؤال التالي: وهل الوجه الذي تتعامل به مع الناس الضعفاء، هو ذاته الوجه نفسه الذي تتصدى به مثلا لوحشٍ قرر أن يفترسك؟، ازداد عدد الأصوات: بالتأكيد لا، فاستمر المتعدد في العزف من المقام نفسه: والوجه الذي تحتفظ به للأزمات مختلف عن الوجه الذي تستحضره في الحفلات، صحيح؟!، فتعالت الأصوات: أكيد صحيح. هنا قرر أن يبدأ في استخلاص ما يود أن يستنبته من قناعات في عقولهم، فقال متوجهًا بكلامه نحو المرأة في قناع العصفورة: أما المحتال، فهو مَن يقابلك بذات الوجه في كل مرة، مخفيًا مشاعر مختلفة، المحتال هو مَن يقابلك بوجه بَشوش يقول لك: مبسوط بك، لكن مشاعره تقول: ربنا يأخذك، المحتال وجهه يعطف ويده جاهزة للنهش، وجه أب أو أخ يطمئنك على عوراتك، وقلبه شهوة تنتظر انكشافها” (الغميضة، ص. 37.).
تعزز رواية “الغميضة” النتاج الروائي العربي الجانح إلى مغازلة الشكل الخطابيّ، بالموازاة مع طرق موضوعات جديدة مستلهمة من واقع متغير شديد الحساسية، في استعانة بقوالب جديدة تفرزها التصورات الفكرية الراهنة، انسجاما مع مفرزات جدلية الواقع والكائن والممكن، ومسايرة لدينامية التحول السريعة على مستوى الوسائط وأدوات التفكير البشرية بوعي إشكالي يتحرى التشخيص والمماثلة والتساؤل، وإعادة النظر في الأشياء والعناصر واللغات المعتادة، دون تفريط في الحس النقدي، وخصيصة تمثيل الجمال والقبح معا على مرآة السرد غير المهادن، الذي يسخر حينا، ويصف حينا آخر، وينتقد أحيانا، متمردا على الأشكال الثابتة المسكوكة، ومستشرفا أفقا محتملا يكون جديرا باحتضان مسوغات الإبداع ورهاناته غير القابلة للقيود والحدود والضفاف.