غيوم بوينس آيرس
موتٌ ساخر
سالماً، إلى ماضيه، يعود من مات
أوسعوا جسده الـمُستترَ رموزاً
وأثقلوا المشهد بالطقوس
لكنه سقط من على الأكتاف
وهكذا
شق الميت صفّ الأحياء
وارتطم رأسه بالبلاطات هازئاً
بطقوسهم
كأنه فاكهة مجففة
تدحرج على السلم الصاعد إلى كلمات التأبين
وعاد إلى ماضيه
سليما من سهام النقاد
وورود المعجبين.
الطفل والقمر
وماذا قال القمر الذي شفَّ خلفَ ستارة الليل
للطفل الذي كان يتتبّع خطوات قلبه الأولى
في حديقة بيته الريفي؟
يفكّر في عالمٍ، للجمال الذي يعتريهِ
يخترِعُ مزهريّةً لبهجته
كأنّهُ غمامة ياسمين، يعبر ظلّ السورِ إلى ضوء الفضاء
يرى قمراً فيُجَنُّ، يركضُ
يتبعهُ القمرُ الذي لا عمرَ لهُ أطول من خيالِ الطفل
يكبر ألف عام في دقيقة!
إلى أن يشيخَ الخيالُ ويموت
وصاحبهُ بعدُ في ريعان الشباب!
خروج
سيخرجون من الآتي إلى الماضي
سيرجِعون إلى مخاوف أجدادهم
سيقابلون أحزانهم الغامضة
سيصبح الهاجس مستهلكاً كفوط الأطفال
سيمزقون بيارق الليل بنار مخيمهم
ويتقاسمون رغيفهم إن وجد.
سيعلّمون الصخور أن تبكي معهم
أن تبكيهم
سيتناقل الهواء حكاياتهم
وينثرها في جميع الجهات
كرماد الموتى.
ليلة حافلة
تخطيط: حسين جمعان
حافلةً
تجولُ
في رأسي
في شوارعَ أعرفها
أو كنتُ…
كثيف كالليل ضبابُ الليل
الحياة تضِجُّ
ثرثرة وشدوٌ
وأنا في مقعدي الخلفيّ
أحصدُ الهمس،
أغفو..
وأرى.
(محطة أولى)
زجاج متناثر وصبيةٌ
حفاةً يتراكضون
أنوار دوريّة الشرطة حمراء زرقاء
لطّخت العيون والقلوب المرتعدة
يتناول متشرّد زجاجة الجعة الفارغة
يقذفها جهة الحافلة الطارئة على المشهد
تتكسر تحت نافذتي
أَمُتَطفّل أنا أم أنّ الشوارع لي؟
اصفرارُ المصابيح الـمُسيَّحُ على الأسفلت أعرفه
وأعرف انحناءةَ الشجر على الجانبين
أهذه المزّة؟
نزلة جامع الأكرم؟
أم أنا في مدينة من شرق أوروبا
تتقيّأُ ماضيها السوفييتي
أم في مدينةٍ لاتينية تأكل البيتزا وتحتسي الشمبانيا
على مشارف المجاعة؟
(محطة ثانية)
مُوحل السماءِ والخاطراتِ
أهبطُ، فالموقفُ هنا بَهيج
أُري نفسي خبايا السكون المغروس في كبد الليل
وأشباحَ ذكرياتٍ انفلَتت من مطلع تاسعة شوبرت
تستعيد أبواقُها الوطيئة صوراً ذابلة
لِـما كان يبدو نَضِراً
وجميلاً إلى أقصى درجات الإيلام
أأنا في حلم أم في علم؟!
تسرقني حافلة العمل من الداخل
وتعلّقني من جديد في الخارج
على حبال اليوميّ
كقميصٍ مُتْعَبٍ من الغسيل والكيّ.
(محطة ثالثة)
لو علمنا بما تخبّئُه لنا اللعنات
لآخينا إخوتَنا
وانطلقنا
في خضمٍّ من الألفة
نقطف السّيَر والأحداث
من أفواه الرواة
فنحسّنها ونزيّنها بالقلائد
حتى تليق بليل الجحيم الذي ما كنا نعلم
بأنه سيُعدُّ لنا
لو علمنا بما تضمره لنا الطريق من مطبّات
لروى عنّا المسافرون
ما يُخالف قصّة الحافلة التي انقلبت برُكّابها
في كلّ فجٍّ عميق.
(محطة رابعة)
يفرمل السائق مكابح الحافلة على عجل
مِزاجه يفوق الصباحات المكفهرّة سوءاً
لفحات آخر الليل تتسرب من النافذة
تصفعني على الخدين
كنُحاسِيّات تشايكوفسكي المحمومة
أُغلق النافذةَ، يُفتَح الباب
يصعد الضابط
يسألني عن اسمي فأجهله عمداً
ملامح صورتي ضبابية
اسمي غائم ومهنتي عائمة
محل إقامتي مجهول
يجلس الضابط بجانبي
ويضع القيد في يديّ.
(آخر الخط)
نعلو ونعلو في جبل المهاجرين
نقارب آخر الخط
دمشق أسطورة بالولادة
مدينة أجمل من نفسها
أَأمدُّ ذراعي من النافذة لأداعب غماما يخرخر لي كالقطط؟
يهدهدني لحنٌ لزكريا
ويرقى بالحافلة إلى مصافِّ الطائرات
أرى الشام تبعد، نوافذَ وأبواباً
أنوارها تخبو وقلبي يغور في بئر لا قرار لها
يبلغ لحن زكريا ذروة الجواب
(غني لي شوي شوي)
علّي أرى في الليل شيئاً سوى الظلمات
حينما تطلع الشمس على خيباتنا
سأرى… قد أرى
شيئاً سوى الحافلةِ المنقلبة
والركاب الهائمين.