الأَلْواحُ السَّبْعَةُ
اللوح الأول
سَماءٌ في جِوارِ سَماءٍ، سَماواتٌ معلقةٌ على حِبالِ غَسيلٍ بَيْضاءَ جِيريَّةٍ، سَماواتٌ مُتجاوِرَةٌ، زَرْقاء عَمِيقَةٌ، سَماواتٌ هَفْهافَةٌ ولها رَوائِحُ غَسِيلِ أُمَّهاتٍ أُسْطُوريّاتٍ جَلَسْنَ في شَمْسٍ زَرْقاءَ، وغَنِّيْنَ للبَحْرِ.
نَهاريَ طَويلٌ، سَرِحٌ كأَغْنامٍ في سَهْلٍ، هُناكَ تَتَطَاوَلُ أَعْشابٌ خَضْراءُ وأَعْشابٌ صَفْراءُ وتُخْفي بِبَراءَةٍ ماكِرةٍ حُطامَ أَعْمِدةٍ لَها تِيَجانٌ مِنَ المَرْمَرِ، تَمْرَحُ في عَناقِيدِها الصَّخْريَّةِ سَحاليَ طَريفَةٌ، صِغارُها تُقَلِّدُ كِبارها في التَّخَفِّي، كُلَّما سُمِعَ صَوْتٌ نَدَّ عَنْ خُطْوَةٍ أَو عَنْ هَبَّةِ هَواءٍ.
شكراً لك أيها الصبي لأنك، من دون الجميع، رأيتني أعمى، أعطيتني يدك ودللتني على الطريق، شكرا لك أيها الصبي الذي سيكبر ويَلُوّحُ ليَ من وراء الأبصار فتى بقميص يُلَوِّحُ، وفي حنجرته المشروطة هتاف شجي، جسد يافع مثقوب بالرصاص، حملته الأصواتُ على أكتاف فتيان تحدَّروا من كهفٍ في جبلٍ وملأوا المدينة بالجنازات.
الهواء أنشده
بصوت أزرق عميق
وعلقه
بين البحرِ والسماء
وتركه
يحرس القوارب التائهة.
أَنْتِ تَميمتي
المُعَلَّقَةِ،
في أرضي المعلقة.
بين الأرضِ والسماء.
اللوح الثاني
نهاري مركب في زرقة تتخطف تحت سماء تتخطف، سرب مناديل هاربة، خفة أصوات في رياش مذعورة، ونوافذ تركت للهواء.. نهاري الأعمى خطى عمياء في شمس صريعة، وكنت قبل اليوم، أرسل الحصاة إلى النهر وأرى الحصاة في النهر شمساً ضاحكة وماءً يتكسر.
والآن شمسي مرثيتي
وشراعي الممزق.
سماء طيّ سماء، طرش خراف تائهة في حقل شققته نباتات خائفة، أصوات هاربة.. أصوات أصوات، وألواح عائمة في زرقة غافلة، ومن جبال الموج أرى اليابسة تبتلع الهائمين على السفح، وأسمع رعدة القلاع وزعيق الطائر الهارب من السهم.
عيناي المخضلتان بالملح تشتعلان، وتطلبان الأصياف.
***
اللوح الثالث
شاحِبٌ لِسانُ الحَرْبَاءُ،
وهي تتريثُ وتتلفّت
وتنظُرني،
تَمُدُّ لسانَها لي، فيصيرُ أَطْوَلَ، وأَراني مُستلقيا على لسان أخضر شاحب وجفناي يترجفان، يطبقان ويرمشان على نظرتي الهاربة من بؤبؤي العسلي، نظرتي الطافية مع الأشعة على رؤوس أشجار الحور. تهوي وتلطخ غسيل الشمس.
ممدَّدُ على حائطٍ جيريٍ أَصْفَرَ في صَيْفٍ صامتٍ، الحَرْباء الصَّغيرة تَتَعَمْلَقُ، وتَمْلأُ الحائطَ، حتّى أَنَّ النباتاتِ بخضرتها الفاهية تهشمت، وملأت أذني بالأصوات.
لا زمانَ للزرقَةِ، ولا للترقب، في زرقة المساء، لما تنتشر الدكنة وتساقط النجوم على البيوت.
نشيج النافورة يرفع الأنشودة في هواء يصوح رائحة الدفلى وشبق الأرجاء.
اليرقات الصغيرة المضيئة تتوارى في لحاء الشجر،
والنعاس يملأ العين.
***
اللوح الرابع
يا لهذا الطريق، ويا لتلك السماء
كم يطول بي الطريق ولا يلوح طائر في زرقة
ولا وحش في فلاة
ولا جبل يقول أنا دمشق.
سأترك وصفك يا تميمتي الغائمة الأسيرة لعشاق في قوافل راجعة من صحارى طويت في كتاب، يعبرون الأقواس ويصفونك لمعشوقات قطَّعن شرايين معاصمهن غيرة من جمالك الغريب.
لفاتح مسحور جال تحت أسوارك ويريد أن يضيفك إلى خارطته المبللة بدم الأبطال، سأتركه يقلب ألواحه التي ملأها باسمك، يا دمشق ولا يعثر لك على أثر.
المحارب أرسل رمحه في حقل الشقائق،
ومضى في إثره.
الشهب الطائشة أشعلت الرمل، الهواء يلهو بالشباك
والصيادون الذين رجعوا من المغيب تركوا على الشواطئ ظلالاً تشتعل.
الزرقة تتوارى في القباب
الغيوم تخفق في الأشرعة والسماء تتخبط في المراكب
كيف لشاعر أن يلهج باسمك، يا سرَّة الأرض ولا تفتح لأجله الأبواب.
اللوح الخامس
هنا على الشواطئ المضيئة يرتطم المغيب،
ويهوي
في زرقة عميقة
السرطانات اللطيفات تمرح، تاركة وراء مياسمها المدببة قطرات الماء تلمع، وتتقطر،
العقارب الصغيرة تفلت من لسان الماء وتتركه يعود إلى خضرة فيروزية تتشمس، وبينما المويجات الهامسات تتفحص في الرمل نجمة بوسيدون، القلاع البعيدة تضيء شعلاتها،
والقوارب المتأرجحة، تترك الأصداء تتردد.
قرص المغيب يسترد حمرته من الواقعة ويدفنها في الأبصار.
أأنا هنا، أم أنني هناك.
اللوح السادس
هنا
أنا هنا:
الهاوية تستيقظ، والمرآة عين مسمولةٌ تبرق في محجر فارغ.
النور الأهوج يغشي العيون.
هل أظل هنا
نزيل عصف تلو عصف في ظلمة،
وهواء مسموم يملا رئتي على ساحل رمادي مهجور.
الحجارة تحتجز رأسي نبات شيطاني يلهث قرب عيني.
وعيني تنظر رقدتي.
هنا:
نباتات الضوء تتنفس في كهوف غائرة وراء محاجر أتخمها سخام، مجسات العماء تشرب الضوء في أسلاك عملاقة تتلوى، الصور تهب في الأنفاق، وتهب بي، مسوخ بأجنحة ملونة يهيمون وراء أطرافهم العائمة في مجرى مقطّع الأوصال.
الغريزة ترمق المجرى، والعين الغسقية ترسل الإشارات، تملأ الهواء بقصاصات دبقةٍ، حمحمة تغرز نصالها في السمع، وقرون تنطح المجرى.
قوس قزح آلي له أثداء وحلمات تضوي، يتلوى ويتلون ويتعطل في قنوات تسري فيها ظلمة. كلابات لها أذرع طويلة وصدور بحراشف تتشظى.
من يقف هناك؟ وهذا الوجه المشبع بالكدمات الزرقاء هل كان وجهي؟
***
هنا
أنا هنا:
أرى أجنحة عملاقة تهوي على إعلانات تتشقق.
كيف لي أن أنهض، كيف لي أن أنتشل رقدتي من هذا الشرك.
اللوح السابع
أفتحُ الأبواب وأخطو على الظلال، العشب يتطاول على الجدران،
العرائش الجافّة تغمر الخيالات وتتكسر في الشرفات والنوافذ،
لا أحد،
هنا
لا أحد
الدهليز الذي ارتجّ تحت خطوتي
حمل إليّ هواء أصياف صريعة.
***
أخطو، وأسمع حطام ضحكات تتفشى في زرقة على قماش أبيض مطرز،
رائحة الأمس تهبّ من خيالات نسوة عبرن خطفاً، وتوارين وراء الأصوات، الأنفاس المبهورة تركت أصابعها الصامتة في المناديل. ووراء الغلالات سمعتُ التوقعاتِ همسَ بنات صغيرات يتلاشى، وخطوات رهيفة تبتعد، واصطفاق أبواب تركت أُلهية للهواء.
***
الستائر لعب بها الوقت،
وانصرف.
وجاء الهواءُ وجلس في الأريكة.
***
الشمس تميل على أوراق العنب وتغرب في البيت
تاركة لي أنا الأعمى بكاء الشجرة ونشيج الأرائك في الظلال.
والآن،
تلفت معي، وأنظر، ولا تترك الصورة تهرب من عينك التي رأت.
***
من أي الطرق أصل إليك، يا دمشق، يا مدينتي المسحورة،
أي باب أطرق ليفتح لي، أنا الهارب وورائي سياط الصحراء،
أسير في أرض ضربتها الزلازل،
أخوض في عماء تحت سماء تتشقق،
المرايا تنفطر وتبتلع الجبال،
تائه تحت سماء هاذية، كلما بلغتُ أرضاً، رجمها الغيبُ وتشققت تحت قدمي،
حتى لكأنني هارب من آلهة لاهية لا ترمي لي قارباً إلا لترسل في إثره كرة من اللهب.
أُغمضٌ وأغيبُ في رمال لاهبة.
خفق عماء
خفق عماء.