دون سلاح
في اليوم الأول وقف حاملاً لافتتهُ البيضاء مبتسماً، يتصبب العرق عن جبينه، يرسم خطوطاً متعرجة بكتفيه وبقعاً كثيفة خلف ظهره، تحمَّلَ عطشه وجفاف حَلقِه، تَحمّل شمس آب/أغسطس الحارقة، تبدو من ملابسه النظيفة مسحة من انتماء إلى الطبقة المتوسطة، شعره المصفف بعناية وجلده النضر يشيان بخبرته المعدومة بالوقوف في الشارع، فذلك البائع – جاره على الرصيف المقابل – تنبت شعيرات ذقنه تماماً بشكل أشعث، أشبه بحبات التين الشوكي التي يلتقطها بخفة بين سبابته وإبهامه، يغرزُ فيها سكيناً مدبباً ليفصل القشرة الشوكية عن اللحم المحمل بالرائحة العذبة الشهية، شتان ما بينهما؛ وهو يشبه في وقفته تلك اللحم الطري لثمار التين، بينما جاره خشن ذو أشواك حادة.
تَحمّلَ تنمُّر الشيوخ والصبيان، ونظرات النسوة المتشحات بالسواد، تحمل تساؤلات الباعة الجوالين بالميدان، تحمل كذلك حرارة الأرض المنبعثة في باطن قدميه تحيلهما حريقا داخل حذائه الرياضي المصنوع من مادة بلاستيكية تكتم الحرارة والعرق وتمنع الهواء، حذاءٌ ابتاعه ليمارس رياضة المشي في شوارع ضواحي العاصمة، لكنه اليوم يستخدمه للوقوف بقلب العاصمة.
اللافتةُ لم تحمل أيّ كلماتِ أو حروفِ أو حتى إشارات رمزية، لم يُكتب عليها شعار أو تُطبع بها دلالة يُستدل منها على هوية حاملها المُبتسم، فقط صفحةٌ بيضاءُ تَسرُّ الناظرين، ترتكز على حامل خشبي ذي أطر داكنة اللون، الخشب نفسه رخيص الثمن، رقيق السمك، سهلٌ تكسيره إذا ما ارتطم بأيّ جدار، ولكن تناسق الإطار الخشبي الداكن مع اللوحة البيضاء يسترعى انتباه السائرين، وأصحاب المحال المقيمين بالميدان، تناسقٌ يغلبُ عليه “التضاد اللوني، وتوافق عنصر البساطة مع الأصالة” كما فسّره فيما بعد الأستاذ عبدالحليم، معلم أول الفنون بالإدارة التعليمية المحال للتقاعد، وأحد الرواد الدائمين للمقهى المطل على الميدان حين تساءل العديد من الجالسين عن هوية ذلك الشاب، ولكن لم يدم تساؤلهم كثيراً حين وقف الصبية يتضاحكون أمام الفتى الناصعةُ أسنانُه بياضاً، ولم يشأ أن تكون وقفته مثار ضحكهم وهزلهم وسخريتهم، تجاهلهم أول الأمر، فازدادت شراسة هجومهم عليه، وتكأكأوا عليه من كل بقعة يتحرشون بمظهره وسلوكه ورسالته المبهمة، فنأى بنفسه وسار مطأطأ الرأس إلى الحديقة الخلفية للميدان واختفى بين الأغصان، تعالت الضحكات قليلاً وانشغل الناس بجدهم وهزلهم ومرقت السيارات بينهم وطفق السؤال يلتمع في أذهانهم حين باتت رؤوسهم على الأسرّة قبيل نومهم ليلاً في ذلك اليوم، ما المقصود باللافتة البيضاء حقا؟
في اليوم الثاني، تزود بحقيبة ظهر زرقاء اللون ملأ بها زجاجتي مياه، وارتدى قبعةً رياضية وانتعل حذاء قماشياً غير الحذاء الكاوتشوكي السابق يحتمل به وهج الأرض، توقف الجو وامتنعت نسمات الهواء عن الحركة، فصار القيظُ يدمرُ مقاومة السائرين والباعة الجائلين والصبية اللاعبين والشيوخ والرجال والنساء ومجاذيب الطريق في الميادين، فاحتمى كل ذي كبدٍ رطبةٍ بظل يقيه حرارة الشمس، وحده وقفَ بوسطِ الميدان، رفعَ لافتتَه بيضاءُ اللون كما في اليوم السابق.. وابتسم.
ظلت ابتسامته مستمرة طيلة أسبوعين ومع انكسار موجة الحر بمطلع أيلول/سبتمبر لم تنكسر اللافتة البيضاء ولم يردع وقوفه ولا صمته ولا تبسمه شيء. اختلف القوم حوله، فمنهم من هو قائل بأن ذلك الفتى ذو توجهات يسارية، ومنهم من أقسم بأغلظ الأيمان بأنه يميني مُتطرف، ومنهم من نادى باعتقاله لأنه يحرّض على قلب نظام الحكم، ومنهم من قال بأن الفتى تخريبي فاقتلوه، ومن الناس من يحسب انتماءه لتنظيم سري يدعو لسقوط الدولة، ولكن كل هذا الاختلاف جعل وجود شيء ملموس يؤخذ عليه مستحيلاً، فالفتى دون كلمة ودون شعار.. دون دعوة، دون عنوان.. دون سلاحٍ يُخِيفَ به الآمنين، فلو حسبت فقط ابتسامته وصمته وبياض أسنانه ولافتته الملفتين للأنظار، لن تضعه في قوائم المُرعبين ولا الإرهابيين ولن تحسبه أبدا من الأشرار، طاف السؤال مراراً بين الناس، فمن هو إذاً؟
اختفى عدة أيامٍ وظل مكانه فارغاً، قالوا إنه لم يستطع على الأمر صبراً، نفضوا أيديهم والتفتوا إلى بضاعتهم ونداءاتهم يطلقونها عالية، فما بين منادٍ على أحلى فاكهة، وما بين مُطرٍ على أجود خضراوات، ومن ذهب إلى النداءِ على مكانٍ شاغرٍ بسيارة السفر إلى محافظة مجاورة، وما بين أصوات المتقاتلين حول انتمائهم المتعصب لفريق كرة يشجعونه، وما بين هؤلاء وهؤلاء دخل الميدان يجر ساقه الجريحة، يربط رأسه بشريط طبي أبيض، عيناه جاحظتان تحوطهما الكدمات الشديدة. وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف يأخذ من حقيبة ظهره اللافتة، ويُعدَّلُ وضع أركانها، يرفعها فتخذله ذِراعه المكسورة، فيحملها بيد واحدة، مشهده أجرى الدموع في أعين المتابعين، والألم بلغ منه مبلغاً عظيماً.. نظر للجمع المحدق وقال لأول مرة منذ أسابيع عديدة “شكراً”.
كاتب من مصر