الوطني هو الكوني
نكتب عن الثقافة الوطنية كي لا نقع أسرى الوهم في أن هناك مؤامرة عالمية تسعى للنيل من الثقافة العربية، وكي لا نسقط فيما يسميه البعض الغزو الثقافي الذي قد يؤدي إلى نوع من التعصب، وتجاهل الملامح القانونية لسيرورة الثقافة والنظر إلى كل فكرة أو أيديولوجيا أو فلسفة أوروبية تمارس تأثيرها على أنه غزو ثقافي أوربي – غربي، يستدعي التحصن خلف «التراث الأصيل».
لهذا كله لا بد من تأسيس فهم صحيح لمسألة الثقافة الوطنية كي يصار إلى جعلها أداة فهم نظرية من جملة الأدوات النظرية والعملية لفض عالمنا المعيش.
إذا انطلقنا من مفهوم الثقافة كتعبير عن جملة علاقات موضوعية تحدد نمط الحياة أو السلوك، كالعادات والتقاليد والنظرة إلى العالم فإن العالم الرحب يصنع الفرد من طريقة الطهي وعادات الزواج والتعبير عن الأفراح وطريقة التعامل مع الأتراح، وعلاقات الجوار وفضّ الخصومات اجتماعياً وعادات الثأر وطرق التحية والمعتقدات الدينية.. إلخ.
الثقافة عالم عصي على التغيير السريع، وعلى الرغم من القبول به والسلوك على أساسه، فإنه عرضة دائماً للتمرد من فئات اجتماعية تسعى لخلق قيم جديدة بغية التغير في عالم الحاجات وطريقة تلبيتها واختراق الثقافات الأخرى بما تنطوي عليها من أجوبة على أسئلة الثقافة الوطنية نفسها.
ثقافة – بهذا المعنى – ليست وطنية أو غير وطنية. إنها ثقافة دون أي حكم قيمة، أي ثقافة أمة أو شعب، بل نتحدث عن ثقافة قديمة وثقافة جديد تشق طريقها ببطء، ومقاومة بعض مظاهرها يدل على أنها لم تعد متطابقة لا مع حاجات البشر ولا مع مستوى تطورهم، أي لم تعد تتطابق مع مصالحهم.
ليس المجال الآن الدخول في الجانب الأنتروبولوجي للثقافة. حسبي القول إنه علينا ألاّ ننطلق من زاوية رؤية تقدس الثقافة بهذا المعنى الذي أشرت إليه، لأننا في هذه الحالة ننفي عن الثقافة سيرورتها وتناقضاتها ونضفي عليها صفة الجواهر الثابتة التي لا تعرف السيرورة العالمية، أما الحديث عن الثقافة الوطنية فإننا ننتقل إلى صعيد آخر من الثقافة أنه ذلك النشاط الإنساني المبدع فردياً كان أم شعبياً المرتبط بحب الوطن والدفاع عنه ضد الأخطار الداخلية والخارجية، الدفاع عن تقدمه وازدهاره وحريته، ثقافة كهذه تعبر عن نفسها روحياً وعملياً . أي الثقافة هنا تتجسد في القصيدة كما في الرواية في الفلسفة كما في العلم.
تتجسد في الطابع الرمزي لأولئك الذين ضحوا بأنفسهم أو عن طريق أفكارهم واكتسبوا صفة الفرادة والبطولة، تتجسد في عالم القيم الذي يخلق الارتباط الحميم بالوطن، وبمشكلاته الحقيقية، إنها ببساطة التعبير الروحي والعملي عن جانب من جوانب الوطن الأساسية.
كيف نعيّن الآن الثقافة الوطنية أو كيف نجعل من الثقافة العربية الوطنية ثقافة وعي متمرد على العالم؟
إن الأخطار والمشكلات التي نواجه ونعاني هي في النهايات التي تحدد خيارنا الثقافي. المواجهة ليست ثقافية فحسب، إنها متعددة الأوجه. وبالتالي ليست الثقافة الوطنية هي وسيلة لمواجهة ثقافة أخرى، وإنما هي التربة التي تنمو فيها كل أشكال المواجهة والصراع.
فالهوية في مرحلتنا الراهنة تتعرض لشتى أنواع الاختراق القانوني النظرية والعملية، وواقع الدولة يخلق عطالة وتشاؤماً كبيرين عسيرين من قيام الدولة، كعنصر أساسي من عناصر تعين الهوية الوطنية مادياً.
بمعنى آخر إن العوامل النابذة للهوية الوطنية حاضرة كممارسة أما العوامل الجاذبة لها فهي شبه غائبة عن مساحة الفعل رغم وجودها الموضوعي.
إن الثقافة الوطنية هي التي تسعى لإظهار العوامل الجاذبة عبر الخطاب السياسي والفني الجمالي الأدبي والفكري. إذّاك فإنها تساهم في خلق المناخ المشترك لفاعلية أبناء الوطن العربي.
وهنا نحدد الثقافة الوطنية كعامل توحيد أو أنها تلك التي تسعى لأن تكون كذلك. تدخل الأيديولوجيا هنا في خانة الثقافة سواء أكانت وطنية أم مناهضة للوحدة الوطنية. عندها سنحصل على منظومة من الأفكار السياسية والدينية والأخلاقية والأدبية والفلسفية.. إلخ متناقضة من حيث أهدافها.
وبالتالي فإن الأيديولوجيا كجزء لا يتجزأ من الثقافة تقوم بأدوار مختلفة من دور الأيديولوجيات الساعية لتأكيد الهويات الما قبل وطنية، أو الطائفية أو العائلية.. إلخ.
في هذه المرحلة نشهد حركة مصطنعة لإبراز الطابع التاريخي الثقافي الموغل في القدم للكيانات التي نشأت في النصف الثاني تقريباً من القرن العشرين.
فهناك من يتحدث عن الإنسان الأردني وتاريخه أو اللبناني المنتمي إلى آبائه الفينيقيين، أو العماني ودوره في التاريخ أو اليماني الخ.. أن النتائج المباشرة لتفكير كهذا هي وسائل نزع الثقافة المشتركة وتغليب القيل الأيديولوجي الضيق سواء في عالم الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة.
لكن الأيديولوجيا الوطنية ليست هي تلك التي تبرز فرادة العرب ودورهم التاريخي وتفوقهم على غيرهم من الأمم، بل تلك التي تبرز العرب كهوية ثقافية لغوية لن يواجهوا مشكلة المصير والمستقبل إلا بوصفهم متحداً إذا ما أريد لهذا المستقبل أن يكون جزءاً من روح العصر.
إذاً هذه السمة للثقافة الوطنية تجعلها في لحظة أولى نقيض للثقافة المحلية ومواجهة أشكال التزييف الجاري الآن للتاريخ. وإذا كنا قد حددنا الثقافة الوطنية بذلك النشاط المعبر عن حب الوطن والارتباط به والدفاع عنه، فإن ثاني سمات الثقافة الوطنية، إنها ثقافة الاستقلال الوطني. وفكرة الاستقلال لا معنى لها إلا في شروط التي تعيشها أمة وهي مسلوبة الإرادة في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وممارستها لهذه الخيارات.
إن الإرث التاريخي الحديث والمعاصر للثقافة الوطنية يكاد ينـزاح من ساحة الفعل الثقافي بسبب روح التشاؤم السارية الآن .فالإخفاقات المتكررة خلقت نوعاً من الإحباط المرضي حيث بات معه مناخ الاستسلام هو الطابع السائد. مما أدى إلى انصراف معظم المثقفين المبدعين خاصة عن تقديم فكر التحرر الوطني استجابة لخلق الواقع من القوى الاجتماعية والسياسية المتمردة. فباسم موات الأيديولوجيا والعقلانية وروح العصر والعالم الجديد.. إلخ، وبسبب من زيادة هيمنة قوة السلطة وأجهزتها الإعلامية نشأت الثقافة المقطوعة الصلة بفكرة الاستقلال الوطني إما باسم أكاديمية ميتة تلبس لباس العلم. أو نزعة فردية تضخمت أناها لتجد لها مكاناً في عالم السيطرة واعترافاً منه. أو باسم الاعتراف بالأمر الواقع الذي لم يعد يحتاج إلى أوتوبيات.
ولم تكن ثمرة حالة كهذه إلا الانحطاط في جميع مجالات الثقافة بدءاً من المقال السياسي مروراً بالمعرفة التاريخية والفلسفية وانتهاءً بالأغنية والموسيقى. هذا ناهيك عن المسلسل التلفزيوني، ودعايات السلع التي استبدت بأذواق الأطفال.
إن الحاجة إلى ثقافة وطنية في شروط كهذه، حتى ولو كان الواقع بهذه الصفة الكوميدية_ حاجة مستقبل، ثقافة تبقي على الانشداد إلى قضية تنهيها مرحلة عرجاء كالتي نعيش، ذلك أن كل جيل قادم سيعاني من غياب الاستقلال الوطني. وعلينا أن نورث الأجيال القادمة زاداً يساعدها على الفعل إن توافرت شروطه تماماً كما نحن الآن نتزود من الأفغاني وعبدالله النديم ونبيه العظمة وعبد الرحمن الشهبندر وسليم خياطة ومهدي عامل.
علينا أن نبعث كل الرموز الوطنية التي حملت همّ الاستقلال الوطني، عبدالقادر الجزائري وعمر المختار وعبدالكريم الخطابي وعرابي باشا ويوسف العظمة وعبدالقادر الحسيني وكمال ناصر.. إلخ، إنّ ذاكرة الوطن لا تفعل إلا إذا أبقينا هذه الرموز حية في الوجدان الوطني عبر كل أشكال التعبير الممكنة من الرواية إلى الشعر إلى الفن بكل أشكاله التشكيلي والسينمائي عبر البحث التاريخي .
علينا أن نخلق طقوساً سنوية لإحياء ذكرى هؤلاء لا في إطار القطر الواحد فقط، بل في إطار الوطن العربي كله حيث من الضرورة أن يجري التعاون بين كل الحركات السياسية والثقافية الوطنية لتعميم ذكرى إحياء الرموز الوطنية، بحيث يحتفل المصري بذكرى ميسلون واستشهاد العظمة، كما يحتفل السوري بذكرى استشهاد عبدالمنعم رياض، كما يحتفل الأردني بذكرى استشهاد عمر المختار.. إلخ.
قلنا إن الثقافة الوطنية هي بالضرورة ثقافة الدفاع عن استقلال الوطن، ولا معنى للاستقلال إلا على أساس الحرية، حرية أبناء الوطن وبالتالي فإن الثقافة الوطنية هي بالضرورة ثقافة تدافع عن حرية المواطن والمجتمع الديمقراطي الذي يخلق نظامه السياسي المعبر عن جماع إرادته الحرة.
من هنا فإن الثقافة الوطنية هي ثقافة تقاوم كل أشكال الاستبداد والاضطهاد، في عموم الوطن العربي ككل. بدءاً من الاستبداد السياسي مروراً بالاستبداد الثقافي، وانتهاءً بالاضطهاد الطبقي.
وهذه هي السمة الثالثة للثقافة الوطنية، فالوطن ليس مجرد إقامة في بقعة جغرافية محددة، إنه جماع العلاقات التي يعيشها الإنسان في مكان جغرافي محدد والتي تولد لديه شعور الانتماء والاحتفاظ بهذا الانتماء والإحساس بكرامة الانتماء.
إذاً لا انفصال بين الحرية والكرامة، والتناقض هو بين الكرامة والاضطهاد ولا يحصل الاغتراب بين الإنسان ووطنه إلا حين تصبح الحياة مستحيلة في وطن لا يؤمّن الكرامة والأمن والحرية والخبز لبنيه. إن وطن يؤمن كل ما سبق هو فقط الذي يخلق الدافع للكفاح من أجله.
من هنا فإن الثقافة الوطنية ذات جانب سياسي – أخلاقي – قيمي أنها لا تنطلق من الإنسان المجرد، بل من الإنسان بكل تعينه الثري وطموحه الانساني . إن مفهوم الالتزام الذي ضاع في معمعان البحث عن الشكل، والذي يتنكر له ومع الأسف الذين كانوا حتى وقت قريب من دعاة الواقعية الاشتراكية، هو مفهوم أساسي من مفاهيم الثقافة الوطنية. علينا أن نغنيه أكثر فأكثر.
ترى ألا يمكن أن يكون المبدع ملتزماً، ومحققاً بنفس الوقت لمطلب الخلق الفني البعيد عن المباشرة والسطحية؟
لقد علق جورج لوكاتش على شهرة طاغور (وما أدراك ما طاغور) قائلاً « ثمة أسباب وجيهة حدت بالبرجوازية الإنكليزية إلى مكافأة السيد طاغور ولإغداقها بإكليل المجد والذهب عليه: يعني تكافئ عميلها الفكري في صراعها ضد حركة التحرر الهندية. فشذرات الحكمة الهندية القديمة ومذهب الرضوخ أمام سائر الآلام وإدانة اللجوء إلى العنف، وعلى الأخص فيما يتعلق بحركة التحرر كل ذلك له مدلول يميز للغاية وعملي للغاية. بالنسبة لإنكلترا، وكلما عظم شأن طاغور وذاع صيته ازداد هجاؤه للنضال التحرير في وطنه تأثير أو فعالية».
بمعزل عن صحة رأي لوكاتش بطاغور، فإن قيمة نظرية من النظريات أو تصور من تصورات العالم تتكشف على وجه التحديد من خلال ما يراد قوله لأهل العصر الذين يتألمون ويفعلون. أما الحكمة بحد ذاتها والحكمة في المجال الفارغ للنظرية الخالصة أو في مجال الصالون الأنيق المفصول عن العالم فهي حمة زائفة.
إن مفهوم الثقافة الوطنية يحيل مباشرة إلى ظاهرة المثقف الملتزم بالمعنى السارتري للكلمة بإعادة إنتاج تلك القيم التي تؤسس للكفاح الإنساني في سبيل الكرامة والحرية والمساواة أنها ليست صفات جاهزة للأدب كما حلا لأحدهم أن يقول. بل هي الأشكال المتعينة للمعاناة الإنسانية والتي تظهر بألف لون ولون فنجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وغيرهم وغيرهم وهم يجعلون من نتاجهم الفني أداة وعي أرقى بالعالم بالناس فهم بهذا المعنى ملتزمون.
وما الظاهرة الرحبانية إلا نموذج فذ لوحدة المضمون والشكل المبدع حيث مارسوا التأثير على سمو الذوق الفني الموسيقي والغنائي من جهة وبارتباط بالحياة من جهة ثانية فهم في هذه الحالة مظهر أصيل من مظاهر الثقافة الوطنية وفي تعينها الغنائي الموسيقي. وما حضور الكواكبي الراهن إلا دليل على ما نقول.
إن الثقافة الوطنية ليست تلك المنغلقة على ذاتها إنها الوارثة لكل ما هو إنساني وعظيم في تاريخ الثقافة العالمية وهي السمة الرابعة لها . إنها لا ترفض الآخر بدواعي التمايز القومي، بل على الضد من ذلك.
إن حبنا لفولتير وفيخته وماركس وغرامشي ودستويفسكي وتشيخوف وماركيز بكل ما ينطوي إبداعهم من جانب إنساني يتجاوز حدود المكان والزمان هو جزء أصيل من أيّ ثقافة وطنية تواجه مهمات وطنية – قومية. فواضح أن الثقافة الوطنية تستقبل وبكل ثقة كل تجارب الشعوب المضطهدة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لتدرجها في خطابها المتنوع بوصفهم «أبطالاً عالميين» إن صح التعبير وفي تجاربهم إثراء لتجارب الآخرين.
بقي أن أقول الثقافة الوطنية وهي تسعى إلى تغيير العالم فإنها بالضرورة ثقافة نقدية، نقدية تجاه نفسها من أجل تجديد نفسها دائماً ونقدية تجاه كل مظاهر الخراب والتخريب للمجتمع وللإنسان أي أنها لا تتحرر إلا في حقل الممارسة والتاريخ كصيرورة.
إن النقد هنا ليس مطلوباً لذاته وليس وسيلة عدمية تجاه العالم والأفكار، بل هو المساهمة الإيجابية في صناعة العالم.
إذاً الثقافة الوطنية ليست ثقافة أيديولوجية تقوم على المدح والذم والفن الهابط وأغاني تمجيد الدكتاتور والاحتفاظ بثقافة ماضوية لم تعد قادرة على أن تجيب عن أسئلة الحاجات الجديدة. الثقافة الوطنية هي التي تنتجها نخبة الوطن في كل مجالات الحياة بوصفها نخبة حرّة أولاً وثانياً وثالثاً. الثقافة التي تخلق الذهنية الجديدة والنظرة إلى العالم في سيرورته نحو الحرية.
كل شكل إبداعي مبتكر وأصيل وعميق الحضور في التجليات المختلفة لحياة الناس في المجتمعات المختلفة في العالم هو ملمح من ملامح “الثقافة الوطنية” التي هي بالضرورة سجادة كونية نسّاجها كل من يعيش على كوكب الأرض.