البيئة الرقمية وتزييف الوعي!
يمارس عصر ما بعد الحقيقة (post-truth) الذي نحياه اليوم ونعاني بحدة من إرهاصاته، تشويشا مكثفا على عقل الفرد والعقل الجمعي على السواء بفعل التدفق الهائل والمستمر بلا انقطاع للمعلومات و الأخبار والصور والفيديوهات التي يصعب فرزها وتمييز المزيفة منها عن الحقيقية، أو الصادقة عن الكاذبة، نظرا للطرق والتقنيات المبتكرة التي تصاغ بها، والآليات والمسالك السريعة التي تتبع في نشرها وتدويرها بشكل يفوق الوصف، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت بيئة خصبة لتناسل مثل هذه المعلومات والأخبار، حيث تشير إحدى الدراسات المتخصصة بأن الأخبار الحقيقية تتطلب، في المتوسط، مقدارا من الوقت يناهز ستة أضعاف الوقت الذي تستغرقه الأخبار الزائفة لتصل إلى 1500 شخص، وهو فارق كبير جدا يعطينا لمحة عن سرعة الانتشار المذهلة للأخبار الزائفة، بشكل يوحي بأنها تخضع في ذلك لديناميكية فيروسية سريعة، خصوصا على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي التي باتت بيئة خصبة لانتشار الأخبار المزيفة التي تأتي على عدة حوامل، سواء في شكل مناشير أو صور أو فيديوهات، لكن تبقى الصورة والفيديو بمثابة القوة الضاربة في أيّ عملية تضليل أو نشر إشاعة ما، فالصورة والفيديو يحتلان اليوم الصدارة في عمليات التأثير، ولهما سطوة وسلطة كبيرة جدا على المتلقين، وجاذبية وفتنة تعمل على إعادة تشكيل فهم وإدراك الناس لعديد القضايا التي تواجههم، سواء بالسلب والإيجاب تبعا لأيديولوجية الفاعلين الذين يتحكمون في تقنيات صناعة الصورة وآليات التلاعب بها وأهدافهم.
يخبرنا تاريخ وسائل الاتصال أن صناعة الدعاية أو الإشاعة، كانت دائما تستفيد مما يجايلها من وسائل الاتصال، فقد بدأت شفهية قبل أن يعرف الإنسان الكتابة، وباختراع الطباعة وظهور الصحافة انتقلت إلى مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه من خلالها، وهكذا كان الأمر مع بزوغ نجم الراديو الذي عرفت هذه الصناعة أزهى أيامها من خلاله، قبل أن يأتي التلفزيون وتواكبه بكل حماس، لكن اليوم، و مع الطفرة الحاصلة في التقنية وصناعة المحتوى، فقد تعملقت صناعة الكذب هذه واشتدت قوتها وقدرتها على تدمير الحقائق وصناعتها بشكل يفوق كل تصور، متوسلة بالخوارزميات والذكاء الاصطناعي، كآخر ما جادت به قريحة العقل البشري من تقنيات كانت إلى الأمس القريب لا تخرج عن نطاق الخيال العلمي، إلى الحد الذي بات ممكنا فيه، من خلال تقنية الزيف العميق (Deep Fake)، القيام بصناعة الكذب والزيف من الطراز عالي الجودة، الذي يتطابق مع الحقيقي ولا يمكن الفصل بينهما بسهولة إلا من طرف الخبراء، فقد بات ممكنا بث مقطع فيديو لك وأنت لم تشارك في تصويره أو تحريره، في أماكن ومواقف لم تعشها مطلقا، تتكلم فيها وتتحرك وتقول وتفعل أشياء لم تقم بها، لكن التقنية والبرمجيات الذكية، دمجت صورك وتلاعبت بها و صنعت فيديو مزيف يبدو فعلا حقيقيا، لكن هذه التقنية تأخذ منحى خطيرا عندما يتعلق الأمر بالرؤساء و رموز الدول والشخصيات الشهيرة، التي تجد نفسها تصرّح بأقوال وتقوم بحركات “حقيقية” بالنسبة إلى الرأي العام، الذي يتلقاها على منصات التواصل الاجتماعي ويصدقها وينجرف وراءها، أو استخدامها في أعمال إجرامية وابتزاز وتلاعب سياسي، خصوصا إذا تم تسهيل الحصول على هذه التقنية وإتاحتها للاستخدام العام، بما يؤدي إلى التلاعب بالرأي العام ووسائل الإعلام، والتحكم فيه لأغراض تخريبية أو شريرة، بشكل يجعلنا نفقد الثقة فيما نشاهده ونسمعه ونقرأه، أو بتصديق الأخبار الكاذبة التي يتم تصنيعها بشكل لا يمكننا تمييزها عن الحقيقية في ظل انفجار المحتوى المزيف.
وتنتشر الأخبار الزائفة (Fake News) على شبكة الإنترنت، بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع من الأخبار الحقيقية، سواء عن طريق المستخدمين أو البوتات (روبوتات الإنترنت)، بحسب دراسة أجراها باحثون من جامعة (MIT) الأميركية، في الفترة الممتدة بين سنتي 2016 و2017، حيث تم من خلالها معالجة 126000 خبر بين زائف وحقيقي، جرى التغريد بها من طرف3 ملايين شخص على موقع “تويتر” لأكثر من 4.5 مليون مرة.
ويزداد اتساع الفجوة في سرعة الانتشار بين الأخبار الزائفة والحقيقية، بشكل كبير حينما يتعلق الأمر بالأخبار السياسية، التي تتفوق في الانتشار عن تلك المتعلقة بقضايا الإرهاب أو الكوارث الطبيعة أو الأخبار العلمية أو المالية مثلا، وهي فجوة بحسب الكثير من الباحثين يصنعها أساسا مستخدمو الإنترنت وليس البرمجيات، إلا أنه في الجهة المقابلة، تلعب الخوارزميات دورا فعالا في وضع أولويات المشاهدة والتصفح وترتيبها، وإرسال رسائل عن طريق البوتات للمستخدمين، تحوي أخبارا كاذبة أو معلومات زائفة، وهذا الميل لنشر الأخبار الكاذبة يمكن أن يأتي انطلاقا من معيار الجدة وقدرتها على مفاجأة القراء بصورة أكبر من الأخبار الحقيقية.
وتبعا لهذا الطوفان الرقمي الأهوج، فقد صرنا مثل ورقة تتقاذفها ريح الزيف والكذب والخداع، فتتلاعب بنا تارة يمينا وتارة أخرى يسارا، واستسلمنا لثقافة استهلاكية جاهزة، أورثتنا سهولة عجيبة على الانقياد لأيّ فكرة أو خبر أو معلومة، دون إبداء أيّ مساءلة أو بحث وتدقيق، بعدما استمرأنا الكسل العقلي على حساب إعمال العقل وتوظيف ملكاته النقدية والتحليلية في البحث عن الحقيقة واستخلاصها، وهي العملية التي تعتبر للكثيرين مجهدة وليست بالمغرية أمام سطوة الجاهز والفوري والمؤثر.
إن عصر ما بعد الحقيقة آخذ في التوسع والتمدد بشكل مخيف جدا، بفعل الطفرة التي تعرفها التقنيات والخوارزميات ذات الذكاء الاصطناعي الرهيب، القادر على الزج بنا في واقع كله اصطناع وزيف، والتلاعب بنا وتضليلنا وسوقنا كقطيع منظم، ما لم نفتح أعيننا وعقولنا، ونرسي أسس تربية إعلامية ويقظة تقنية، تمكننا على الأقل، من التقليل من حجم الخداع الذي نتعرض له، وتلافي بعض المضاعفات الاستراتيجية للمعلومات والأخبار المزيفة، التي تنهال علينا من كل حدب وصوب كالسهام المسمومة، لتدمي المجتمعات والشعوب التي لا تحلل ولا تناقش، فتتحكم فيها وتوجهها كيفما تشاء، وتسوق الأمم غير العقلانية ولا العملانية إلى حتوفها بلا أي مقاومة.
الحقيقة وجدت لنبحث عنها لا أن نتلقاها من فاعلين لا نعرفهم، لذلك فإن التحلي بمبدأ الشك والمقدرة على التحليل والتفكير النقدي أثناء تلقي المعلومات والحقائق المعروضة في البيئة الرقمية، وعدم تصديق ما يعرض إلا بعد غربلته ومقارنته بمصادر أخرى مع التحلي ببعض المعرفة التقنية، بات أكثر من ضرورة في عصر ما بعد الحقيقة الذي تجذر في هذه البيئة بشكل لا يوصف، حيث بات الاصطناع بتعبير جان بودريار يحجب الواقع، ويستمد قوته من تخريب النظرة السوية للواقع، فيتم التلاعب بوعي المتلقي وإقناعه عبر قوة الميديا والتقنية برؤية الطرف المتحكم في الآلة المعلوماتية، والذي بالضرورة لن يكون رحيما بالمستخدمين ولا بالدول.