إلى أين نحن ذاهبون؟
كيف يقرأ المثقف الواقع في الأوقات الاستثنائية؟ سؤال مفتوح، ما لم نقصد واقعاً بعينه. ولكن كيف يمكن للقراءة أن تكون مبصرة؟ هل يطرح المثقف الأسئلة ويجيب عنها بنفسه، أم يطرح الأسئلة ويستقطب إجابات عنها؟ أتفكر في هذه المسألة، واقلب السؤال فيها انطلاقاً من المثال التونسي، وفي أعقاب عشرية كاملة من المخاض العربي لأجل الديمقراطية. ليست الصورة الراهنة في تونس سهلة القراءة والتحليل بالمعنيين الفكري والاجتماعي فهي قبل كلّ شيء صورة تفتقد إلى الوضوح. فما نعيشه جميعا منذ السّنة الماضية خصوصاً على وقع جائحة كورونا زاد الطّين بلّة، بالرّغم من حملات التّلقيح المكثّفة التي وقعت في الآونة الأخيرة، كما أنّ الظّروف السّياسيّة التي انخرطت فيها الدّولة التّونسيّة منذ قرارات 25 يوليو/تموز الماضي، وإن عبّرت عن إرادة شعبيّة حقيقيّة وعن ردّ عملي على المسخرة السّياسيّة للحكومة الأخيرة وخاصّة لرئاستها ولمجلس نوّاب الشّعب المجمّد، فإنّها شَهْرًا بعد اتّخاذها لم تأت بالقرارات والتّسميات المرجوّة، ممّا جعل العديد من الملاحظين والمتابعين للشّأن العامّ يُعبّرون عن مخاوفهم وانزعاجهم، والتونسيون على أهبة عودة مدرسيّة وجامعيّة، وليست الأزمة السّياسيّة إلاّ تعكيرا واضحا للأزمة الاقتصاديّة.
مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها بين مساندي قرارات الرّئيس قيس سعيّد ومعارضيها: إلى أين نحن ذاهبون؟ هل يملكُ الرّئيس ومن ساندوا قراراته يوم 25 يوليو 2021 نظرة شموليّة للوضع العامّ في البلاد وخارجها بعد عقد من التمرد على الموات السياسي؟ لماذا لم يُعلن رئيس الجمهوريّة، مثلاً، عن اسم رئيس الحكومة الجديد وإن كان له الحقّ في التّمديد لشهر آخر، فلماذا لم يُحدّد تاريخا واضحا وملموسا لهذا الموعد، علما وأنّ أصواتا معارضة وأخرى كانت مساندة له بدأت تتحدّث عن “انقلاب” و”تفرّد بالسّلطة” و”دكتاتوريّة ناشئة”؟
إلى جانب هذه الأسئلة التي في ظاهرها تطرح مشاكل سياسيّة يوميّة، تكمنُ تساؤلات أعمق تخصّ الدّستور التّونسي الجديد (يناير 2014)، الذي اعتبره أحد الدّعاة الإسلاميّين “أفضل دستور أُخرجَ للنّاس”، ربّما لأنّه بهذه الطّريقة الهجينة التي تحدّ من سلطة رئيس الجمهوريّة، سيتمكّن الإسلاميّون من الحكم عن طريق ضمان الأغلبيّة في مجلس نوّاب الشّعب. ومن هذا المنطلق، يُمكننا الشكّ في هذا الدّستور الذي، بدل أن يُكتب في اثني عشر شهرا، تواصل قرابة الثّلاثين، كما كلّف البلاد باهظا من خلال انتخابات المجلس التأسيسيّ (أكتوبر 2011)، وهذا ما مكّن التّرويكا (المتكوّنة من حركة النّهضة الإسلاميّة وحليفتيها الوصوليّتين المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتّل الدّيمقراطي من أجل العمل والحرّيّات) من حكم البلاد وإغراقها في التّعيينات والتّعويضات بعنوان الولاءات. وكانت هذه الفترة عامرة بالانتهاكات والغزوات والاغتيالات ولعلّ أشهرها سحل لطفي نقّض في تطاوين في أكتوبر 2012 واغتيال كلّ من المناضلين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي في 6 فبراير و25 يوليو 2013، علاوة على التّسفير المُمنهج للشّباب التّونسيّ لتكوين ما صار يسمّى بداعش.
فهل ينوي الرّئيس قيس سعيّد، وهو أستاذ القانون الدّستوري بالجامعة التّونسيّة، اقتراح تعديل للدّستور؟ وكيف سيتمّ ذلك؟ هل الاستفتاء الشّعبي (الطريق الأمثل عادة لصعود الزعماء الشعبويين) حلّ لهذا المأزق الدّستوريّ في غياب محكمة دستوريّة ما انفكّ الملاحظون السّياسيّون والمثقّفون وفصائل من المجتمع المدني وصولا إلى الشّارع التّونسيّ يدعون إلى تأسيسها في أقرب الآجال؟
نحن إذن أمام كمّ هائل من الأسئلة التي نحتاج إلى أن يُجيب عنها أولاً الرّئيس الشّرعيّ والمُنتخب، وهو صاحب أغلبيّة انتخابيّة لم تشهد البلاد لها مثيلا في خضمّ النّظام الانتخابيّ الحاليّ وليد ثورة الكرامة والحرّية. لكن، وربّما ليس هو بالاستدراك، شعار الرّئيس منذ أيّام حَمْلَتِهِ الانتخابيّة سنة 2019 إلى اليوم يتمثّلُ في عبارة: “الشّعب يُريد”، وهي بقطع النّظر عن شعريّتها (مطلع قصيدة “إرادة الحياة لأبي القاسم الشّابيّ)، تعبير قديم جاء في عبارة لاتينيّة تستمدّ أصولها من القرن الثّامن ميلادي، وهي تقول “Vox populi, vox Dei” ممّا يُمكنُ ترجمته بأنّ صوت الشّعب هو صوت الله، أي أنّ إرادة الشّعب تفرض نفسها بمثابة الإرادة الإلهيّة. وفي بداية القرن السّادس عشر، كتب مكيافيلّي كتابا مهمّا تحت عنوان “مقالة حول العشريّة الأولى لحكم تيت ليف”، يُفسّرُ فيه هذه العبارة قائلا “أمّا بالنّسبة إلى الحكمة والثّبات، فأنا أؤكّد أنّ الشّعب أكثر حكمة وأقلّ تقلّبًا وأكثر استقامة من الأمير. وليس من غير سبب أنّ صوت الشّعب هو صوت الله. نحن نرى، في الواقع، أنّ الرّأي العام ينتج مثل هذه التّأثيرات الرائعة في تنبّؤاته بحيث يبدو أن قوّة خفيّة تجعله يتنبّأ بالخير والشرّ على حدّ سواء. أما الحكم الذي يصدره الشّعب في الأمور، فمن النّادر أن يستمع إلى خطيبين يدافعان عن أراء متعارضة، ولكن لهما موهبة متساوية، دون أن يعتنق فجأة الأفضل، وبالتّالي فهو يُثبتُ قدرته على تمييز الحقيقة عندما يسمعها.”
لنقل ذلك بسرعة، لاحظ كلّ التّونسيّين، وغيرهم من الشّعوب الّذين يستمتعون بانتخابات في دورتين، كيف أنّ قيس سعيّد كان أكثر إقناعا من منافسه نبيل القروي. هذا من باب المقارنة والتّاريخ وإعطاء المثال بعد استماعنا إلى صوت نيكّولو مكيافيلّي، فصاحب كتاب “الأمير” يخطّ هنا أسس الدّيمقراطيّة الحديثة الّتي تتأسّس على حكم أو إرادة الشّعب، كما يدعو بطريقة ضاربة في الحداثة وذلك منذ القرن السّادس عشر إلى تعليم الشّعب وتثقيفه كي يتمكّن من الانتخاب ومن احترام قواعد الدّيمقراطيّة. من هذا المنطلق، لا يَسْتَنِدُ إذن الرّئيس قيس سعيّد إلى شعار فضفاض لا معنى له، بل أبدى من خلال قرارات مساء 25 يوليو فهما عميقا للتّحرّكات الشّعبيّة يوم عيد الجمهوريّة ولعب دوره كرئيس لمؤسّسة الجمهوريّة بخلع الوزير الأوّل وهو في نفس الوقت المكلّف بوزارة الدّاخليّة، كما جمّد مجلس نوّاب الشّعب الذي ما عاد يُمثّلُ إلاّ عُصْبَةً من النّاس الّذين لا يُمثّلون إلاّ أنفسهم وأحزابهم ولوبيّاتهم ومصالحهم الضيّقة.
إذن، ما يقوم به الرّئيس قيس سعيّد يُمثّلُ انخراطا عميقا في ثقافة تاريخيّة وسياسيّة وفكريّة لا يُمْكِنُ أن تجعل منه دكتاتورا جديدا. مع أن الطريق نفسها التي سلكها قيس اليوم سلكها قبله زعماء تحولوا إلى دكتاتوريين. ما يعصم تونس من هذا المآل، هو أولاً مجتمع مدني أقرب إلى النضج، من علاماته أن المرأة حققت فيه موقعاً يكاد يكون مساويا تماما للرجل، وثانياً وجود الإرث البورقيبي الليبرالي الذي يسمح بزعيم قويّ، لكنه منصت لإرادات الفئات والقوى الاجتماعية المختلفة، ثالثاً، أن التاريخ الاجتماعي الذي أهّل تونس لأن تكون قاطرة الربيع العربي، لا يسمح بمثل هكذا مغامرة فاشلة سلفا: ولادة دكتاتور جديد. هذا رأينا الشّخصيّ الّذي اتّخذناه بعد استقراء وتفكير عميق. لكن، ولضمان سلامة هذا الرّأي، يَجِبُ أن نُواصل السّؤال والتّساؤل فكريّا وسياسيّا وميدانيّا صُحبة وقُبالة وحول وحيال قيس سعيّد من القوى المجتمعية، لضمان احترام القوانين والحريّات واستقلاليّة السّلطات. فلم تعد تونس قابلة للدّكتاتوريّة وما فعله الرّئيس يوم 25 يوليو هو دحض لنظام دينيّ تغلغل في البلاد منذ عشر سنوات، أي منذ وصول الإسلاميّين إلى الحكم في المجلس التّأسيسيّ وتَرَؤُّسِهِمْ الحكومة ووزارة الدّاخليّة والعدل والخارجيّة في نفس الوقت، مُعْتَمِدِينَ على الفساد الماليّ والإداريّ والقضائيّ على حدّ السّواء. وقد بدا واضحا أنهم كانوا يتطلعون إلى تأسيس دكتاتورية دينية مقنّعة تهيمن على البلاد.
ما قام به قيس سعيّد “ثورة وسط الثّورة” على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي ريجيس ديبريه، فما تعيشه تونس منذ فترة من فساد ماليّ وسياسيّ تحت راية رئيس الحكومة المتخلّي والمجلس المجمّد بعيد كلّ البعد عن مطالب الثّورة وعن شعار الجمهورية الجديدة الّذي جاء كما يلي في دستور 2014: “حريّة، كرامة، عدالة، نظام”. هو إذن تصحيح لمسار، لكنّ الرّئيس التونسي مُطَالَبٌ بالإجابة على الأسئلة والتّساؤلات المطروحة آنفاً، كما أن التونسيين مُطالبون بالتزام الحذر من خلال تحريك الشّارع تعبيرا عن إرادة الشّعب المتكوّن من كافّة الفئات رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، شغّالين وعاطلين عن العمل، مُتحزّبين ومستقلّين، جميعا تحت راية واحدة اسمها تونس، حفاظا على أمنها الدّاخلي والخارجيّ، وعلى استقلاليّتها الاقتصاديّة والسّياسيّة.