الإنسان الذري
يشهد العصر الرقمي الذي نحياه، إقبالا متعاظما على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أنها باتت تجتذب إليها مختلف الشرائح والأعمار، وسط ولع شديد و”مَرَضي” بتطبيقاتها وخدماتها، وحضورا دائما وممتدا في الزمن يستنزف الكثير من الوقت والجهد، أو ما يسميه جان بورديار بالحضورية، حيث استحلنا بسبب هذه البيئة إلى ما يشبه كائنات اتصالية نعيش حياة متصلة غير منقطعة، حتى باتت الأجهزة الذكية امتدادا لهوياتنا وذواتنا، نمارس من خلالها وبها كل الطقوس المستنسخة عن الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، لكن بشكل افتراضي ضمن واقع آخر مفرط، و”لحظة أبدية” قادت الإنسان إلى التخلي عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما، لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه، فمستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي لم يعد يهمهم سوى عيش اللحظة الافتراضية والانغماس فيها، في إطار قطيعة مع الماضي والمستقبل، تغذيها قيم الحداثة وما بعدها، والتي سنامها قطع حبل الوصال مع القديم وتقديس الجديد، في تضاد مع ما يسميه المؤرخ الأميركي والناقد الاجتماعي كريستوفر لاش بالاستمرارية التاريخية التي لا تنفصل.
يعتبر الكثيرون بأن هذه المواقع هي منتوج حداثي بامتياز، تجاوز تجسيد فكرة الاتصال بشكل مختلف، لينضاف إلى اقتصاد السوق وتعميم نظام القيمة المتبادلة، لذلك فقد انْوَلد ما يسميه جيل ليبوفتسكي في كتابه “عصر الفردانية” (ترجمة عاطف إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، لبنان)، بالإنسان الذري، هذا الإنسان الذي باتت غايته الأسمى تتمثل في البحث عن مصلحته الشخصية والتطلع الدائم لاكتساب المال والرفاهية والخصوصية والكثير من المتع، وهذا التنامي في النزعة المادية التي غذتها مواقع التواصل الاجتماعي، أدت إلى انقلاب في علاقات الإنسان بالجماعة التي تؤطره وانقلاب النظام الاجتماعي التقليدي برمته، فالإنسان حسب ليبوفتسكي أصبح ينظر إلى نفسه في استقلال عن الآخرين ويغرق نفسه في البعد الخصوصي ضمن فردية جديدة، ويرفض الخضوع للقواعد المتوارثة عن الأجداد الخارجة عن إرادته الخاصة، ولا يعترف إلا ببقائه ومصلحته الخاصة كقانون أساسي.
إن مواقع التواصل الاجتماعي غذت كل هذه التوليفة المرفوقة بضجيج صاخب، مدفوعة في ذلك بفكر يحتفي ويقدس “ميثولوجيا التقنية” التي غزت الحياة الإنسانية وحملت معها الكثير من المباهج والمنافع والتسهيلات للإنسان، وذللت أمامه الكثير من الصعوبات التي لم يكن ليتخطاها لولا المنجز التقني، في جو اجتماعي جارف يشجع على كثرة استخدام هذه الوسائل وتطبيقاتها التي تتجدد باستمرار ودون توقف، لكن بالمقابل فقد لاح سؤال آخر بما يشبه صيحة استنفار، تنذر بالتأثيرات السلبية وبما قد تفعله التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي بنا، لاسيما في الشقين الثقافي والاجتماعي، فتمددها واتساعها واختراقها لنمط عيشنا وتفاعلاتنا الاجتماعية وثقافتنا العصرية الحديثة، صار شبيها بالفخ كما يسميه زيغمونت باومان، فنحن اليوم في قبضته وبين شدقيه، يصطاد عواطفنا وبقايانا الهشة، ونحن رغم ذلك منتشين وفي قمة السعادة بهذا الوقوع الكارثي.
لقد كسفت فكرة التواصل وحرارة العلاقات الاجتماعية في ظل الثورة الرقمية، والعلاقات الحقيقية استبدلت بالافتراضية مع فقر في التواصل وأسلوب متراخ وسطحي تنعدم فيه لياقات الحديث وصيغ وآداب الحوار واللمسة الإنسانية، بل إنها مفارقة غريبة، فلم تقد هذه الثورة بإنجازاتها الكثيرة كما كان مأمولا، إلى تجدد الإنسانية وتطورها وإلى بلورة المزيد من القيم التي تحتفي بروح الأخوة والصداقة والكرامة، بل أعلنت عن ميلاد فرد فائق يتحرك ضد نفسه وضد المجموع ضمن ممكنات واقع فائق أيضا، فهذا الإنسان أصبح مزيدا ومدعما بالافتراضي والبدائل الاصطناعية، مُفرغا من الداخل في ظل فقدان ثقل المعنى، مجردا من عيش اللحظة بكل مشاعره، وأضحى يكتفي بتقييدها وتصويرها وتأريخها تأريخا مفرطا دون أي إحساس بها، فتواصلنا الاجتماعي كما يراه باومان أضحى يأخذ صورة “المونولوج” على أن يكون حوارا فعالا مثمرا، وفي هذه الأفضية الرقمية لا يوجد مكان لتغييب الأنا أو مواراتها، ما يحكم الأشياء بالضرورة هو منطق الحضور والظهور والإفصاح، لا منطق الخفاء والتخلي، وكنتيجة لذلك، فقد أحكم المخيال الفيسبوكي المرغوب فيه سيطرته على وعينا، وصار الإدمان على مواقع مثل فيسبوك إدمانا رقميا يقذف بالمزيد من “الدوبامين” والنشوة فينا كلما تزايد عدد المتابعين وتكاثرت أيقونات الإعجاب وتوالت الإشعارات المختلفة، الأمر الذي خلق المزيد من الأمراض النفسية في حالة عدم بلوغ المطلوب أو المرغوب، فهذه الوسائل كما يراها جان كلود لارشيه في مقالة له، أصبحت استبدادية، أي أنها أصبحت لا غنى عنها ومفروضة على الإنسان لدرجة أنه عاجز عن القيام بأي مهام دون اللجوء إليها، فهناك انغلاق تدريجي للإنسان المعاصر في هذا الفضاء إلى الحد الذي يمكن أن نعتبره أسيرا باستعماله الإرادي لهذه الوسائل، التي تدعوه لإظهار نفسه باستمرار، محاولا تقديم أليق صورة ليراها الآخرون، وهذا هو التجلي الأكبر لنزعات الإنسان الحديث، حيث مملكة أهوائه ونزواته، وإلغاء صريح للحياة الخاصة لأن كل شيء معروض، حتى ما تعلق بالحياة الحميمية بإظهارها بشكل غير مضبوط وغير أخلاقي، ولا مجال فيها للحياة الشخصية العميقة ولا للخصوصية، فقد قادت إغراءات مواقع التواصل الاجتماعي إلى بزوغ إنسان غير متسامح وغير صبور يريد تلبية حاجاته بسرعة في عالم دون انتظارات ولا صبر، فهو بحسب رؤية لارشيه منهك على الدوام ومنطو على ذاته وجهازه في شكل عبادة لهذا النظام التواصلي المتواصل، مما أفرز تدهورا مريعا للحياة الاجتماعية وتآكلا متزايدا للعلاقات الشخصية وانحسارا لرقعة التواصل بين الأفراد والعائلات حتى داخل العائلة الواحدة، فالجميع موجودون في مكان واحد لكنهم في نفس الوقت يعيشون في عوالم مختلفة، محبوسون في فقاعات متعددة لها خصوصياتها ومجالاتها واهتماماتها المختلفة، أي في شكل جديد ربما من التوحد، مع ما يرافق هذا الاستعمال المفرط من أمراض نفسية واجتماعية كثيرة باتت تقض حياتنا العامة وتهددها من أساساتها بشكل غير مسبوق، أثبتها العديد من الدراسات التي أجريت حول الموضوع.
لقد أفرز هذا النزوع نحو الإفصاح عن الذات، ظهور نماذج من المؤثرين المهوسين بالمتابعات واللايكات، الذين نصبوا أنفسهم أبطالا أيقونيين مسنودين بشعبية زائفة، وشهرة عرضية وثقافة ضحلة تركز على صور السيلفي و الدعابة والاستهتار والسخرية و كل أشكال التفاهة، التي يبدو أن جمهور مواقع التواصل الافتراضي يفضلونها أكثر من أيّ شيء آخر، بعدما ساوت مواقع التواصل الاجتماعي بين الجميع، لطابعها الأفقي وقدرتها على إلغاء أي حدود أو اعتبارات أو هرمية، وهذا يبرزه بصورة جلية الفارق في عدد المشاهدات والمتابعات لصفحات علماء ومفكرين ومثقفين وخبراء، يقدمون محتوى ثقافي نخبوي أو أفكارا جادة بعيدة عن الابتذال، التي لا تبلغ مقدار ما تبلغه صفحات أخرى لأشخاص يقدمون محتوى سطحيا وتافها لا يحمل أيّ قيمة، فالناس اليوم، وخاصة الشباب منهم، كما ترى إلزا غودار في كتابها “أنا أسيلفي أنا موجود” (ترجمة سعيد بن كراد، المركز الثقافي للكتاب، المغرب) يبحثون عن أنماط للتواصل تكون سريعة وبسيطة، وهذا ما يفسر الاستعمال المفرط للصور والفيديوهات، فلقد أصبحت الصورة كما تقول، استعجالا إلى درجة أن مضمونها أصبح ثانويا، ضمن لغة جديدة يطلق عليها الخطاب عن طريق الصورة، ومضمون هذه اللغة، للأسف، يتميز بالهشاشة وتعتبر مصدرا للتشويش، فهي بسيطة ولا يمكن أن تقيم حوارا عميقا وفضلا عن ذلك لا غاية منها، وبهذا المنطق الذي فرضه الواقع الافتراضي على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، فقد انقلبت النماذج والقدوات رأسا على عقب، فلم تعد النخبة هي ما يشكل المرجعية والمثال الذي يحتذى به، بل انتقل ذلك إلى الحمقى وأراذل القوم.
إننا اليوم نواجه هجوما ممنهجا على منظومتنا الاجتماعية والثقافية، بفعل استخدامنا اللاعقلاني للتقنية من جهة، وبفعل مقصود أيضا وخفي، من طرف الملاك الكبار لهذه التقنية وحراس السرديات الكبرى في العالم، لذلك من نافلة القول، التأكيد على أنه يجدر بنا أمام تغول مواقع التواصل الاجتماعي وتغلغلها المخيف في أدق تفاصيل حياتنا، بكل ارتداداتها العنيفة على ثقافتنا وواقعنا الاجتماعي وعلاقاتنا البينية الحقيقية، أن نعيد النظر في استخدامها المفرط و مراعاة حجم الوقت الذي نخصصه لها، والعودة إلى ذلك الزمن الجميل الذي يحفل بالحميمية والدفء والقيم والثقافة الحقيقية غير المبتذلة.