"صمت الفتيات" وكلامهن
إن أحد المطالب البارزة للنسويات الغربيات تتمثل في العمل على المستوى اللغوي لإلغاء الهيمنة الذكورية. ومن بين أهم هذه المطالب تغيير الضمير الشخصي الذكري “هو” الممثل لغوياً للرجال والنساء معاً واستبداله بضمير آخر مغاير يتضمن الجنسين معاً دون أن يكون مذكراً بالدرجة الأولى. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا المطلب غير ذي أهمية، أو يبدو كأنه تبجح فارغ، لكن في العمق الأمر أكبر من مجرد صيغ لغوية، إنه تعبيرٌ عن موقفٍ ثقافي عامٍ بالأحرى. ذلك أن الضمير “هو” الدال على الذكر من جهة، والدال على الرجال والنساء معاً من جهة أخرى بُني على أساس المُعتقد القائل بأن الرجل هو الأصل والمرأة هي الفرع، فله ما للأصل ولها ما للفرع. يُعرف بما يكون ويملك وتُعرف بما ينقُصها عن الأصل.
هذه الصيغة اللغوية غير البريئة إذاً تبتلع المرأة، لا كضمير إنما كوجود، مما يعني أن استخدامه للتعبير عن الجنسين يُلغي تلقائياً وجهة نظر المرأة في العالم لتصبح تجربة الرجل معياراً لما يخص كلا الجنسين.
الموقف الذي سنتوقف عنده هو إذاً: وجهة نظر العالم. ماذا تعني؟ وما الذي يتغير بتغيّرها؟
إن سؤال وجهة نظر العالم هو سؤال الحقيقة. هل هناك حقيقة؟ وإن وجدت من يمثلها من يمكنه أن يدلّنا عليها؟ الجواب يأتي مستعجلاً دائماً حتى قبل أن نُمعن التفكير: مَن يملك السُّلطة يملك الحقيقة، ووجهة نظره عن العالم هي التي يؤخذ بها. وأثر هذا الجواب واضحٌ تماماً، ففي كل مجال من مجالات الحياة يُعتبر رأي الرجل معياراً بينما تسقط المرأة باعتبارها فرعاً من الأصل، والأصل هو ما يحدد وليس الفرع سواء في الحياة الاجتماعية والسياسية وفي الحب والجنس والفنون وحتى الطب. المعيار هو “الذات”، أما الآخر فهو “الموضوع”، أي المَنظور، أي الذي يتبع “الذات” في كل شيء، أي اللامعيار.
“الذات” بكل اختصار هي الكائن العاقل المُفكّر الذي يدرس أو يلاحظ “الموضوع”، فهو المُنطلق إذاً. أما “الموضوع” فهو الموجود الذي تتعرفه “الذات”، وتتعامل معه ليس على أساس الندية ولكن على أساس أنه شيء يمكن أن تقيّمه وتصنّفه وتدرسه. فالسيد على سبيل المثال “ذات”، بينما العبد “موضوع”، المخبري هو “الذات” بينما الشيء الذي يفحصه “موضوع”، الذكر هو المعيار و”الذات” أما المرأة فهي “الموضوع”.
وجهة نظر العالم التي تحدثنا عنها هي ما يخص المعيار، الرجل، وقد استفادت الأنظمة الذكورية جداً من ذلك لجعل وجهة نظر الرجل للعالم الممثل الوحيد له ومنها كل القيم والقوانين والأفكار أتت لتعلي جهة الذكر وتدنّي جهة الأنثى. هل يعني أن المرأة لا تملك وجهة نظر عالم خاصة بها؟ لا يعني ذلك أبداً، فالمرأة تملك، ككائن عاقل، وجهة نظرها الخاصة، لكن لكونها لا تُتخذ كمعيار فإن وجهة نظرها تتم تنحيتها وتفريغها من قيمتها وتسخيفها ووضعها على الرف كوجهة نظر لا تفي بالغرض ولا يتوجب بالتالي أخذها بالجدية المطلوبة. وهذا التهميش حدث منذ سقوط الربة الأنثى ليحل محلها الرب مع الديانات الذكورية التي رسخت منظورها السلطوي بتهميش الجانب الآخر.
تطرح رواية “صمت الفتيات” للكاتبة البريطانية بات باركر فكرة وجهة نظر المرأة من خلال إحدى أهم الكلاسيكيات: “حرب طروادة”، لتنسج منها هذه المرة الرِواية الأنثوية لهذه الحرب. فمن خلال بطلة الرواية “بريزيس” أميرة “ليرنيوس” المحتلة وأسيرة وعبدة في سرير “أخيل” تقدم الرواية قصة طروادة لا كما يراها الرجال قصة بطولة وفخر وعناد رجولي وحب وغيرة، بل قصة إقصاء وجنون وظلم في حق نساء طروادة اللواتي تحوّلن، سيدات وخادمات، إلى محظيات في أسرّة ملوك الإغريق.
ما المختلف في حكاية “بريزيس” لحرب طروادة؟ هل هناك حقيقة أخرى للحرب؟ المختلف هو وجهة نظر المرأة للعالم، إنها وجهة نظر رافضة تماماً للمظهر الذي يغطي به الرجال ضعفهم بالعنف (المؤدي للحرب) إلى الدرجة التي يغدو فيها العنف قيمة في حد ذاتها. فأخيل “العظيم، أخيل المتقد، أخيل الإلهي” ليس بحسب “بريزيس” أكثر من “جزّار”. وحين تكون الأولوية للجزار وما يراه الجزار فكل المعارك الأخرى هي هباء “هم وحدهم المحاربون، بخوذهم ودروعهم وسيوفهم ورماحهم، ويبدو أنهم لا يرون معاركنا – أو يفضلون ألا يروها – ربما لو أدركوا أننا لسنا تلك المخلوقات الرقيقة التي يتخيلونها لتعكر سلامهم الذهني!”.
في كتابها “عاشق الشيطان” ترى روبن مورغان، القيادية في الحركة النسائية الدولية، أن الحضارة القائمة على السيادة البطريركية هي في أساسها حضارة عنف، ولا مناص ولا خلاص ما دامت الوسيلة الوحيدة لردع العنف في تلكم الحضارة هي العنف أو كما تطلق عليها نظرية “التسمم النهائي الحاد بالتستوستيرون”. ففي سبيل القضاء على العنف يلجأ الرجال للعنف، بحيث يصبح العنف الحقيقة الوحيدة للكوكب دون أن يتساءل المؤمنون به كيف وصلنا إلى هنا ومتى؟ وتقول نقلاً عن بيرت آس “إن الدولة البطريركية هي دولة إما تعيد بناء نفسها بعد الحرب، أو أنها في حالة حرب حالياً، أو أنها تستعد لخوض الحرب”.
إلى جانب النظرة الناقدة للعالم الشامخ مظهراً والمتفسّخ جوهراً للرجال، فإن رواية “بريزيس” تُظهر الوجه الآخر غير المنظور لعالم النساء. فإذا كان عالمهم عالماً مهدماً من الخارج بفعل حرب الرجال، فهو متناغم ومتكاتف ومتضافر من الداخل. الرواية عامرة بالجانب الإنساني في النساء وفي مساندتهن لبعضهن البعض “وبصمت أحاطتني ‘هيكاميد’ بذراعيها، أتذكر دائماً انها بكت عليّ حينما لم أستطع البكاء على نفسي” تقول بطلة رواية باركر.
الفارق بين ما يراه الرجال والنساء في أمرٍ مّا هو أن المرأة ترى في الأمر سطحه وعمقه، وهكذا ترى “بريزيس” عنف “أخيل” اللامحدود في السطح وترى في العمق خلف رجولته، طفلاً توقف عن النمو في عمر السبع سنوات حين ماتت أمه تاركة إياه لجفاء يصحبه العمر كله. تبرير غياب العاطفة بغياب الأم، في شخصية “أخيل” بالتحديد، هي نظرة أنثوية تتفهّم الجفاء وتحتويه كنتيجة لغياب الحب الأولي وللقسوة التي يكبر عليها الرجال مضطرون ما إن يقوون على حمل السلاح. فتقول الراوية في وصف أخيل “لم يكن رجلاً البتة بل طفلاً غضوباً”. وحين يسلبه “أجاممنون” “بريزيس” عُنوة تسيل الدموع على وجنتيه ولكن، وهنا إشارة إلى أن الرجال أنفسهم ضحايا للقسوة التي يتسببون بها، كانت هذه دموعٌ لم ينتبه لها “أخيل”. ولعدم الانتباه هنا رمزية فاضحة تتضمن طمر ما يعتبره الرجال هشاشة مشينة “ما كان ليقرّ بوجوده بما يكفي حتى كي يمسحه”.
من الواضح أن الروائية تضع صورة المرأة آنذاك ضمن قالبها التاريخي، فهي شيء، ملكية رجل، سواء أحبها أو استعبدها أو باعها أو سباها أو قدمها أضحية وفداء لندرٍ ندره “الشرف والشجاعة والولاء والسمعة، تم تقاذُف كل تلك الكلمات الكبيرة، لكن بالنسبة إليّ لم يكن سوى كلمة واحدة، كلمة واحدة صغيرة جداً: شيء، إنها شيء لا يخصه”. حتى “هيلانة”، الأميرة الإغريقية التي قامت حرب طروادة من الأساس لاسترجاعها، لا تنتمي لعالم الإنسان، بل للأشياء. ولذا تقوم حرب طروادة كلها لاستعادة هذا “الشيء”.
هل “هيلانة” هي حقاً “شيء”؟ موضوع؟ ومن وجهة نظر مَن؟ بالتأكيد من منظور الرجل، أما لو عكسنا جهة المنظور، وهذا ما تحاوله الرواية، فلن نرى من “هيلانة” إلا ذاتاً ثائرة تتمرد على قيدها بطريقتها الخاصة. فهي أيضاً تنسج روايتها للأحداث، وهي رواية لا يلتفت إليها الرجال لأنهم منهمكون في “الشيء”، ولنقل في الحرب التي قامت من أجل استحقاق “الشيء”. ولعل أصدق تعبير عن فراغ الحرب هو ما أوردته الروائية في عتبة روايتها نقلاً من فيليب روث “أجاممنون ملك الرجال، وأخيل العظيم، وعلام عساه يكون نزاع هاتين الروحين العنيفتين القديرتين؟ الأمر البديهي كما في شجارات الحانات، إنهما يتنازعان على امرأة، بل فتاة بالأحرى، فتاة سُلبت من أبيها، فتاة اختُطفت في حرب”.
في رواية باركر، “هيلانة” تنسج وتزخرف على الأنسجة، ترسم لوحات تغطي جدران كاملة لمشاهد من معارك عديدة تروي قصة الحرب كاملة لكن في اللوحات المزخرفة تلك لا وجود لهيلانة وهذه رمزية واضحة، فهي بحق غير موجودة بالنسبة إلى الرّواية الذكورية، هي شيء يتم الاتفاق عليه، يقدمه أحدهم لغيره أو يشنون الحرب من أجلها لكن لا أحد يكلف نفسه عناء سؤال رأيها عما تحب وترغب “أظن أن لوحات القماش المزخرفة كانت طريقةً للمقاومة بدءاً من تلك اللحظة، أعلم أنها لم تكن موجودة فيها، أعلم أنها جعلت نفسها خفية عن عمد، لكنها بطريقة أخرى – وربما الطريقة الوحيدة التي تهم – كانت حاضرة في كل قطبة”.
“بريزيس” في المقابل تفعل عكس ما فعلته “هيلانة”، فهي لا تجعل نفسها خفية عن عمد، إنما تخرج من ركام السنين والحروب، تخرج من كل الكتب التي تناولت طروادة ولم تذكرها، لتقول: أنا هنا، هنا لأكتب قصتي، قصة النساء المنسية، المغيّبة، وجهة نظرنا في العالم، وهذا الأمل يشع في كل موقف تدعمه عين الكاميرا الموجهة أبداً نحو “بريزيس” وما تراه “بريزيس”. في السطر الأخير من الرواية نقرأ “لذا أدير ظهري لجثوة القبر، وأتركه يقودني إلى السفن، ذات مرة – ليست منذ وقت طويل – حاولتُ أن أخرج من قصة ‘أخيل’ وفشلت، والآن يمكن لقصتي الخاصة أن تبدأ”.
تبدأ قصة “بيريزيس” إذاً ونقرأها بقلم بات باركر، امرأة تنتمي للنساء اللواتي ذهبن بعيداً في نسف الهيمنة الذكورية، للنساء اللواتي رفضن “هو” كمُعبّر غير بريء عن الذكر والأنثى. فرغم البعد الزمني بين المرأتين، الكاتبة والراوية، إلا أن المغزى واحد: كتابة وجهة نظر المرأة فيما تراه. وهذه قضية محورية في الرواية على مستوى الحكاية نفسها وعلى المستوى التقني حيث تلوذ الرواية بصوت أنثى. فمن خلال الكتابة ستخرج “بريزيس”، والمرأة عامةً، من صفة “الموضوع” لتكون “ذاتاً” أقدر على الاستدلال على التحيزات الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية ضدها. ترى الناقدة جوليا كريستيفا أن المرأة يمكنها من خلال الكتابة ومجالات الإبداع الأخرى أن تدعم عملية التواصل والاتصال مع العالم الذي فُرضت عليه طويلاً أيديولوجيا ذكورية أحادية ضيقة. وكهدم لأيّ بنية فكرية راسخة سيكون الطريق طويلاً أمام النساء، بداية بالاستهزاء من كتاباتهن، وهذا ما حدث بالفعل، ثم محاربتهن وتهميش نتاجهن، وصولاً إلى اليوم الذي تتمكّن فيه النساء في فرض رؤيتهن وإبداعهن دون موافقة أو ختم المؤسسة الذكورية.
في “صمت الفتيات” لا تقدم “بريزيس” (ومن خلفها بات باركر) وجهة نظر المرأة في الحرب، لكن تخرج، من خلال سرد الرواية من منظورها، من هوية الضحية الجمعية. إنها شاهدة على التاريخ المكتوب بالدم والدم المراق برعونة طفلٍ نرجسي مدلل. وما تكتبه “بريزيس” (ومن خلفها باركر) ليس إدانة للعالم الذي “أُسيئت صياغته” على يد الذكور، بل محاولة لجعل العالم الآخر، الخاضع للهيمنة الذكورية، عالماً قائماً بذاته وبحاجة ماسة ليُرى كما هو، عالماً له صياغته المختلفة للروايات والأفكار والأحداث.
إن السرد الأنثوي يمكنه أن يسرد حكاية المرأة بطريقة مختلفة عما اعتادت عليه أسماعنا، حتى بالنسبة إلى أكثر البديهيات المتعلقة بالمرأة، برغباتها، بطريقتها في كشف العالم، في تناول الموضوعات وصوغ الأولويات يمكن لكتابة المرأة أن تصدم الرأي والمنظور العام الذي تعرّف المرأة طويلاً من خلال كتابات الرجل ووجهات نظره عنها.
ما تفعله “بيريزيس” تفعله بات باركر أيضاً: إحداث قطيعة مع العالم الذي ظل حبيس الرؤية الذكورية وموقفه الثقافي. فتصبح فجأة تعابير من قبيل البطولة، الفحولة، القوة، كلمات فارغة تخبئ خلفها، مُستغلين ومستبدين. هذه القطيعة التي تُحدثها الكتابة الأنثوية لهي ضرورة لإحلال الصوتين محل الصوت الواحد، صوت المرأة وصوت الرجل معاً. وبدقة أكبر، لكسر صمت الفتيات وإعطائهن صوتاً يؤمنُ بالقولِ… فيقول.