شهرزاد التي لم تصمت
ربما سأصرف حديثي عن شهرزاد التي أمتعت شهريار، وشدته إليها بعذوبة حكيها، فصارت حكاياتها بلسما خلّصه من اعتلاله النفسي، بطاقاتها الناعمة العالمة التي عطلت جبروت سلطته، وتوجت الحكي بسلطة ضاهت قوة السلطة وفاقتها، فالكلمات قادرة على التغيير حينما تنسج بمهارة فائقة، ويتقن صاحبُها لغةَ الليل. لأنصرف به إلى شهرزاد التي رحلت إلى الغرب، وتجاوزت الحدود دون أدنى مناوشات (1)، إنها فاطمة المرنيسي التي وعت منذ نعومة أظافرها حدود الحدود، إذ لم تكن في بيئتها فاصلة بين جنس وآخر فقط، أي بين عالم المرأة والرجل، بل كانت منطقا سائدا يشي بالكثير من التصوّرات الفكرية والعقدية، إنه مفهوم الحدود الفاصلة بين الجنس، أو الجندر كما نتبين محدداته من الفضاء التدويني (2) المستهدف بالدراسة “الحدود المقدسة، لقد ولدت في خضم هذه البلبلة” (3) ، ففي تصورها منذ خُلقت الأرض كان هناك من الدوافع ما يكفي لفصل النساء عن الرجال، فيغدو هاجس المرأة الأوحد خرق الحدود والتخلص منها، لأن ذلك بمثابة الخلاص من سجن صوره متعددة. ومن وجهة أخرى فهي أحيانا تحمي الضعفاء، لأن “إيذاء امرأة هو خرق لحدود الله المقدسة، وإيذاء الضعفاء هو خروج على القانون” (4)، فكانت المسوّغات لتعليم ثقافة الحدود، لما تعنيه في جوهرها من طاعة.
هذا ما حاولت شهرزاد العصر تغييره عن شهرزاد الحكاية أو شهرزاد الليالي، التي جرّدها الغرب من ذكائها، ومما يجعلها سيدة الحكي والعجيب، بمجرد عبورها الحدود، ومن ثم أخضعها لأهواء المخيال وفانطازيا السينما.
تصفيف وصفي
حينما نتملّى سِفر شهرزاد ترحل إلى الغرب، تطالعنا عناوين مفعمة بالجمال والدلالة، تزرع فينا هوسا يغري بتفتيت مكوّناتها، وسبر مضامينها، فمنذ حكاية الفصل الأول، المرأة التي تلبس كسوة الريش، والغرب والشرق هل من علاقة بين الحريمين؟ ويا لسعادة الغربيين بحريمهم، وقمة الذكاء، وشهرزاد تزور الغرب، والذكاء أم الجمال، وحريم جاك لا صراع ولا مقاومة، وهارون الرشيد الخليفة الأنيق، والمجالس تقليد عريق في المتعة، وفي حريم رسام فرنسي شهير أنجر، والأميرة شيرين تبحث عن الحب، والأميرة نورجهان تصطاد النمور، وحريم النساء المغربيات.
نلاحظ تنوعا في العتبات يحيل إلى عمق الدلالة فيها، وإلى مقصدية الكونية التي تجعل الظاهرة عامة وممتدة على رقعة المعمور، فتتجاوز الرؤية حدود حضارة معينة لتتسم بالشمولية، رصدا للتصورات المؤسِّسة لظاهرة الحريم، إذ إلى أي حد يتسع ويتقلص نطاق حضور المرأة في الذهنية العربية والغربية؟ وما تجليات ذلك في الواقع؟ وهل هناك من حدود؟ وما مداها؟ وماذا تعني المساواة بين الجنسين في التصوّرين؟ وهل نحن إزاء ظواهر واقعية وموضوعية؟ أم نحن بصدد ضرب من الخيال والأهواء؟ وما تمثلات المرأة في المخيالين العربي والغربي؟ هذه الإشكاليات يمثلها انتقاءُ نموذج خاص مثلت شهرزاد بديلته القيمية بحمولاتها الفارقة بين الحضارتين.
إنها قضايا عميقة تحرّكها منظومة فكرية، لها خصوصياتها المتغيرة من زاوية حضارية إلى أخرى، وفي حقيقتها تنبع من تصور معين للسلطة باعتبارها آلية للمساواة، كل طرف له رؤيته الخاصة لها، وتقييمه لحدودها ومكتسباتها، مع ما لهذه المعادلة من انعكاس مباشر على وضعية المرأة عبر مختلف العصور.
هذه القضايا وغيرها عالجتها متخصصة في علم الاجتماع، طوّفت في البلاد وبالعباد، متملكة عُدّة علمية أهّلتها لتناول هذه المداخل الحضارية التي تطبع منجزها العلمي الغني بظواهره وإحالاته، ويمثل كتاب “شهرزاد ترحل إلى الغرب” عينة من هذا المجموع المفعم، وقد صدر عن خلفية معرفية ممزوجة بألوان الواقع. لأن فاطمة المرنيسي لم تعتكف في زاوية منعزلة عن مجتمعها، بل خبرت قضايا بلادها، وأنصتت إلى نبض شوارعها، وحاراتها، وأحيائها، وبيوتها، وحوانيتها، ولم تكتف بذلك، مستلهمة حكمة السندباد التي لم تستو بالشكل المطلوب إلا حينما قرر تجاوز حدود موطنه، لتغدو التجربة ذات عمق وامتداد، فاختارت لهذا السفر علامة دلالية قصوى، لها وزنها في المخيال العربي، ولها تمثلاتها عند الإنسان الغربي، إنها المرأة العربية التي غدت رمزا ينضح بالمعنى في شخصية شهرزاد، فهل هي ذات ذكاء وحكمة؟ أم هي صاحبة الجسد والجمال تقدح بهما ليالي الأنس والغرام؟ تلك الشخصية التي أذابت العبارات وأحالتها سحرا حلالا يشفي، وفي أوقات أخرى يجدي.
رَحلتْ شهرزاد إلى الغرب تحت أنظار المرنيسي التي أعادت تصحيح الكثير من التصورات عنها، في ضوء إلمامها بالتراث الفكري العربي، دون إهمال المستجد الحضاري، ومن خلال التحليل الفلسفي الذي يستقرئ الظواهر الاجتماعية برؤية تراعي تراكم الذهنية العربية وما اختزلته عبر مرور السنين، وهي نظره تكاملية لا تقصي الآخر، بل تصغي إلى هواجسه وتجعله المقابل الطبيعي الذي تستأنس به، لصياغة مقاربات متجددة، تتيح لنا فهم الظواهر بشكل موضوعي، لا ينتصر لهذا الطرف على حساب الآخر، ومقياسها تصحيح التناقضات الثقافية الموجودة بين الأمم، محاوِلة مد جسور التواصل التي تقرب الهوة، وترأب الصدع. إذ لا وزن لأحكام القيمة التي يصدرها هذا الطرف في حق غيره، إن لم تقم على أساس علمي، ومدرَك موضوعي، تفضي إلى مواقف مسنودة بالبينة والحجة، بدل الادعاءات الفارغة التي يفرزها المخيال الجماعي الذي يدرِك أشياء ويغفل أخرى، كما تظهره جملة من التصورات، والإفرازات الفنية، من رسوم ولوحات، تسوّق للمرأة العربية وهي في حريمها، كما تمثلها شهرزاد سعيدة ومرتاحة، وعلى استعداد دائم لتلبية حاجات الرجل الجنسية، وقضاء نزواته، وكأنها خلقت لذلك فقط. وهي نظرة مغلوطة مبالغ فيها طَعَّمتها استيهامات الرجل الغربي، وخيالاته الموهومة التي حقق بها أحيانا مكتسبات اقتصادية “إن المرح الغريب الذي تثيره لفظة الحريم في الغربيين، يدعو إلى احتمال خلاف كبير بين نظرتهم إلى الحريم ونظرتنا إليه” (5)، إذ يمثل عندهم مرتع لهو ومجون، يجنح فيه الرجل إلى ممارسة رغباته في اطمئنان كبير إلى غنيمته من النساء التي لا ينازعه فيها أحد. هي صورة نمطية ناقضها مبدعو الحضارة العربية الإسلامية ومفكّروها، إذ بدا إنتاجهم أكثر واقعية بتصويرهم النساء على قدر كبير من الوعي، لا تنسحب عليهم بالمطلق هذه الادعاءات المغرضة التي تحط من الكرامة الإنسانية، وحتى إن كانت في بعض الأزمنة المحصورة تاريخيا، فهي نتاج خلل مؤقت في المنظومة الفكرية لا سجية راسخة فيها، إذ المرأة لها حرمتها، وفاعليتُها، وأدوارها التي تضطلع بها في البناء على جميع المستويات:” فالواقع أن الحضارة الإسلامية على خلاف ما يدعيه الغربيون، تتوفر على نتاج غني في إنتاج الصور” (6)، هذا ما تروّج له المرنيسي عن الدور الحضاري البناء الذي قامت به شهرزاد، بوضعها حدا لمأساة مليئة بالدم والكراهية نتيجة الحرب الضروس بين الرجل والمرأة، بفضل عبقريّتها، وشخصيتها الجريئة، وتملّكها ناصية الحكي، لتنسج مثالا تواصليا لا ينبغي الاجتزاء منه بشكل مبيّت خدمة لأغراض معينة، أو نتيجة أفكار مهووسة تنبني على الخيال والاستيهام، لأنه بالفعل دور المرأة على مر التاريخ. ما جعل الكاتبة مصممة على استثمار سفرها للقاء الآخر، وبلورة ترحالها لتغيير الصور النمطية التي تتأسس على واقع مغلوط. وحتى إن عانى الرجل/شهريار من الخيانة التي لحقت به، فذلك نتيجة بنية فكرية ظالمة، مثلها نظام الحريم، بحواجزه وتراتبيته التي هدرت حق المرأة، وجعلت الرجل يتحكم فيها، وينصاع مصيرها لتوجيهاته، حتى أن واقعة الخيانة المأساوية كان أحد طرفيها الرجل/العبد، ما يعني عدم تحمل المرأة المسؤولية لوحدها، وضرورة إعادة النظر في البنية الفكرية التي أنتجت نظاما من القوانين، ما كان له أن ينتج سوى المأساة تلو المأساة، وإلا فإن للمرأة صورها الناصعة في التاريخ العربي الإسلامي، والأمثلة على ذلك كثيرة يتعذر عدها هنا لاقتضاء السياق. مع ما يتطلبه هذا من استراتيجية محكمة وجريئة لتغيير المشهد، لذا فإن “شهرزاد لا تذهب إلى الموت بسذاجة، بل إن لها استراتيجيتها، ولها خطتها المضبوطة” (7)، انبنت على معرفة واسعة، وقدرة على التشويق، وشد الانتباه، والهدوء الاستراتيجي الذي يؤدي إلى التحكم في الأوضاع، وتغيير دفة الأحداث حسب المجريات الطارئة، إنها شهرزاد الحقيقية التي شوّه الغرب صورتها، تملكت ثقافة واسعة، وتلقت التعليم الذي كانت تستفيد منه الأميرات “أساتذتها هم الكتب، والبالغ عددها ألفا، حيث درست الطب، والشعر، والتاريخ، وأقوال الحكماء والملوك” (8)، إضافة إلى معرفتها بالحكايات وطريقة روايتها، لاسيما بِطَلَّتها الباهرة التي تغري بالاستماع، إنها فاعلية السرد التي تَعِد بالمتعة ثم تؤجلها إلى وقت معلوم، فتنجح شهرزاد بذكاء، وشجاعة، وقدرة فكرية أن تكون مخططة استراتيجية بامتياز، ما يتعارض بشكل صارخ مع صورتها المغلوطة في الغرب، حينما “جُرّدت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود إلى الغرب، إذ ما إن وطئت قدماها أرضه حتى جردتها الجمارك الأوروبية من جواز سفرها” (9)، وانحصر اهتمامهم في التركيز على مشاهد العري، والغرام، وزينة الجسد التي قدمتها الليالي، في حين هي سيدة العجائب كما نعتها بذلك إدجار ألن بو (10) . هذا التباين الفكري الحضاري في حقيقته، مفترق يحيل على الاختلاف، وفي الآن ذاته يشجع على تبني ملكة الحوار التي بإمكانها استيعاب الآخر، وتوجيهه لقبول حججنا لاسيما إن كانت موضوعية، وقامت على البينة والعقلانية، وهو السبيل الأنجع لتغيير تفاصيل نظرته عنا، والتي ربما استوت في حين من الوقت على حجج ناقصة، أو نوازع ذاتية، تحتاج الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى اجتراح مفاعلات الفكر والتواصل.
معالم الجندر
أيمكن للمرأة أن تلبس كسوة لها أجنحة من ريش؟ (11) وهل بمقدورها أن تملك أجنحة تنمو، تستعملها كي تحلق عاليا حينما تريد، ولو بشكل من الأشكال؟
إشكاليات ملغزة راودت فاطمة المرنيسي كلما همَّت تنتظر إقلاع طائرتها، أو كانت في الميناء تترقب موعد إبحار باخرتها، شعور غريب يستوطن المرأة وهي تهم بمغادرة أرض الوطن، وربما هو رهاب مزدوج، يتشكل من الخوف العادي من السفر الذي يعاني منه البعض ذكورا وإناثا، ورهاب من نوع خاص يعتري المرأة بمجرد التفكير في تخطي حدود موطنها، لاسيما إن كانت ممّن عانى من عَنَت الحدود، فامتلاك أجنحة لوحدها لا يكفي لتحمل هذه المشاعر المتضاربة، ولكنها حتمية السفر لاكتساب مهارات أخرى تتطلبها الشخصية، وتمنحها مؤهلات عملية للتعرف على الآخر والتفاعل معه، حكمته التي يتيحها التنقل من فضاء إلى فضاء، هي في عمقها رفض للضيق المحدود، وانفتاح على الخارج الرحب الممدود، ثورة لها ملامحها الخاصة على منطق الحريم، وكما جاء في قاموس المعجم الوسيط، الحريم هو ما حُرِّم فلا ينتهك، وحريم الدار ما أضيف إليها من حقوق ومرافق وما دخَل في الدار مما يغلق عليه بابها، فحَرُمَ بحرمتها، هذا المفهوم لا يخضع لرؤية لغوية أو اصطلاحية في فكر فاطمة المرنيسي، بل تناولته باعتباره بنية فكرية متجذّرة، من خلاله ينقسم المجتمع إلى قسمين، واحد خاص بالرجال، والآخر للنساء، هذا المنطق المزدوج يستمد مشروعيته من مراحل تاريخية، ومن بنى فكرية معينة، أسّست معالمه في حضارتنا، بيد أنه يثير الريبة عند الآخر، فتجد الرجل الغربي يبتسم حينما ينطق بكلمة حريم، فيا ترى ما سبب تلك الابتسامة، أيمكن للمرء أن يبتسم حين يذكر كلمة السجن، هنا تتضارب القيم، وتصبح المفاهيم حمّالةَ رؤى فكرية تواقة إلى التحديد والتوجيه، فالحريم في بيئة المرنيسي هو مؤسسة قاسية تشوه النساء، وتحرمهن من أبسط حقوقهن، وذلك بالتحرك بحرية، والتمتع بأرض الله الواسعة، إنه من الأسرار الذي يترتب على الإفشاء به عواقب وخيمة، هذا السر تبدأ تداعياته بطرح السؤال الآتي “لماذا شيد أجدادنا في رأيك قصورا حول حدائق مسيجة بأسوار كي يسجنوا النساء؟ وحدهم الرجال يعانون من ضعف لا علاج له، والمقتنعون بأن للنساء أجنحة” (12).
إذن، لو تبين الرجل الغربي ما تثويه كلمة الحريم من أسرار، ربما لنطقها بوضعية مختلفة، ولكان تحكم قليلا في ابتسامته “لقد ولدتِ حقا في حريم؟ ذلك ما كانوا يرددونه وهم ينظرون إلي بمزيج من القلق والاندهاش” (13)، هي صورة يبلورها مخيالهم الجمعي، وهذا في حد ذاته تحد حقيقي يحض الكاتبة على تبين منابع الثقافة التي تغذي هذا التصور المشترك، ويمنحها مبررا آخر لتقوية أجنحتها حتى لا تكون متكسرة، لأنها الرافعة الناجعة لامتلاك معرفة تخلص من الجهل والخوف، وتبدد الهواجس لتحيلها إلى دوافع لاستنبات محددات فكرية جديدة غير مغلوطة.
لقد كانت الهوة سحيقة بين مفهوم الحريم الذي يمثل بيئة معينة نشأت فيها شريحة واسعة من المجتمع، وبين مفهومه الذي انتقل إلى الغرب، إذ افتقد الكثير من المحددات، وارتبط بأخرى، وإلا لمَا كان لهم أن يعربوا عن ابتساماتهم التي تخفي جملة من الاستيهامات، لذلك “هاتفت كريستيان، ناشرتي في فرنسا، مستنجدة بها لتفسر لي لغز تلك الابتسامات، طبعا إنهم يبتسمون لأن الحريم بالنسبة إليهم يرتبط بالجنس والإباحية، ولا علاقة له بحريم الشرق البتة (14).
لو طرحنا جانبا هذا الاختلاف، الذي تغذيه معايير ثقافية مختلفة، ورجعنا بمفهوم الحريم عندنا إلى بنيته الفكرية العميقة، لوجدناه ينأى عن السلطة الذكورية في المجتمعات العربية والإسلامية، بتجاوز مرتكز الجنس، أي المحددات الجسمية والفيزيولوجية التي تميز الذكر عن الأنثى، أو الرجل عن المرأة، إلى مفهوم الجندر (15)، الذي ارتبط بالعلوم الإنسانية بصفة عامة، وبعلم الاجتماع على الخصوص الذي يمثل مجال اشتغال فاطمة المرنيسي، ممثلا محورا أساسيا للدراسات النسائية في مختلف مجالات الحياة سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، ونفسيا، وتعليميا، وأدبيا.. بل وصل الأمر إلى جعله محددا لتناول فضاءات العمل، ووسائل التواصل والاتصال، والعامل الفعلي من هذه الدراسات هو الهبة التحررية التي قادتها الحركات النسائية لتغيير منظور ثقافي ظل سائدا لأمد طويل، بتحليل المحددات الشخصية الذكورية والأنثوية التي من خلالها تم ترسيخ أنماط سلوكية مثلت تجاوزا جنوسيا عانى منه هذا الطرف عن ذاك، لذا كان التحدي في تكسير حاجز الصمت، وتجريب فاعلية المواجهة، كما فعَّلتها شهرزاد بتحريك طاقات حكيها للتغلب على هواجسها وتغيير مصيرها، ومصير ثلة كبيرة من بنات جنسها.
فالوعي أولا بانحسار البدائل، لمحدودية حركية الإنسان المسلوبة حريته، والإرادة القوية ثانيا لتكسير القيود، هما الاختيار الأمثل كي يحلق المرء عاليا، غير آبه بالمجازفة، وبالثمن الذي يتطلبه التغيير. وثمة بداية مراجعة الأدوار الاجتماعية والسلوكيات النابعة من قيم لم يعد لها المكتسب التأثيري، لأنها بالأساس تنبني على التفاضل الذي لم يعد مقبولا، فالجندر “لا يشير ببساطة إلى الذكر والأنثى، بل إلى العلاقة بينهما” (16) ، لتأتي فكرة تغيير المنظومة الفكرية كلما تعرض أحد أطراف المعادلة إلى ظلم معين، سواء في نطاقنا الحضاري، أم خارجه، فلا يمكن قبول الاستيلاب الذي عانت منه المرأة بأي شكل كان، لاسيما نتيجة تصورات هضمت حقوقها فعليا أو ذهنيا، فلن تكون أبدا الطرف الأضعف، بل بها تتوازن المعادلة.
هكذا، فالوعي بأن نضع هذه العلاقة في إطارها الموضوعي السليم، هو الرهان الذي تناولت به الكاتبة مفهوم الحريم، باعتباره إفرازا لمنظومة فكرية مختلة، ورهانا عالجت به قضية الجندر، بمعزل عن التصورات الواقعية المتجاوزة، وعن تلك الخيالية الوهمية، فبخصوص الأولى تعتبر الحريم تركيبة طبيعية أملتها الظروف التاريخية والثقافية، أما الخيالية ارتبطت بجملة من المحركات الاستيهامية كرستها فئة معينة لاسيما في المجتمعات الغربية، حققت لها مكتسبات كبيرة، أبرزها اقتصادية مادية. وعطفا على ما سبق رحلت شهرزاد عصرها إلى الغرب.
تركيب
حبذا إذن، لو كانت الكثيرات مثلها، قلبها مع التراث (17) ، وعينها على الحداثة، فاطمة المرنيسي شهرزاد زمانها، كفاءاتها جعلتها إضافة نوعية أثثت عوالم الإنسانية، بقيمها التي تنتصر للكائن البشري، دونما اهتمام بجنسه، أو نوعه، أو لونه.
متحصنة من مفعول التعصب، وفاعلة بقيمها وفكرها، توجه ناصية الحوار، وتمدّه جسرا تواصليا يجمع الحضارات، ويوحد المجتمعات، وهي على بينة من أمرها، وجسر بلجيكا (18) أكبر شاهد على ما نقول، إنه الوعي الذي يَعِد بالكرامة الإنسانية وهي قاب قوسين أو أدنى أن تنتهك.
فغدَت الإنسانية معها صوتا من أصوات الحياة، تلبّي حينما تعد، وتعد على أمل تلبية طموح متسع وعميق، آثرت النضال بقوة كي ترسمه مشروعا مشتركا يتعالى على الحدود، في أفق الاستواء على حكايتين متجددتين، واحدة تنير عالم المرأة، والأخرى تضيء كون الرجل وتستحثه السير على مهل.
الهوامش:
(1) أحلام النساء الحريم، حكايات طفولة في الحريم، فاطمة المرنيسي، ت: ميساء سري، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1/ 1997، ص: 12.
(2) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ت: فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك.
(3) أحلام النساء الحريم، حكايات طفولة في الحريم، فاطمة المرنيسي، ص: 12.
(4) أحلام النساء الحريم، ص: 14.
(5) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ص: 23.
(6) المصدر نفسه، ص: 27.
(7) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ص: 65.
(8) العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة، عبد الفتاح كيليطو، حمالو الحكاية، الأعمال، دار توبقال للنشر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1/ 2015، ج4/ ص:16.
(9) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ص: 80.
(10) المصدر نفسه، ص: 81.
(11) نسبة إلى حكاية المرأة التي تلبس كسوة من ريش، وحورتها الياسمين جدة الكاتبة، وهي في الأصل حكاية الحسن البصري، كما وردت في متن الليالي.
(12) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ص: 16.
(13) المصدر نفسه، ص: 22.
(14) شهرزاد ترحل إلى الغرب، فاطمة المرنيسي، ص: 24.
(15) ” بدا مصطلح الجندر في مرحلته الحديثة في أمريكا، لكن الكلمة تنحدر من أصل لاتيني Genus، ومن لفظة Gendre الفرنسية القديمة، أما معناها فيدل على النمط، والمقولة، والصنف، والجنس، والنوع، والفصل بين الذكورة والأنوثة، بيد أن المرادف الحقيقي لكلمة Gendreهو النوع الاجتماعي، أو الدور الاجتماعي، ويعني هذا أن الجندر هو في مختلف اشتقاقاته اللغوية على المدلول اللساني والنحوي في أثناء تصريف المذكر والمؤنث masculine et féminine… ولكن مع بروز تيار الحداثة انتقل مفهوم الجنس إلى مفهوم النوع، فاستخدم في حقل السوسيولوجيا لأول مرة في السبعينات من القرن الماضي”. من مقال: مفهوم الجندر، دراسة في معناه ودلالاته، وجذوره وتياراته الفكرية، خضر إ حيدر، مجلة الاستغراب، دورية فكرية محكمة تعنى بدراسة الغرب وفهمه معرفيا ونقديا، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، ع16، س 4، 2019، ص: 284.
(16) الدليل المرجعي: المصطلحات والمفاهيم الأساسية، وتمارين تدريبية حول الجندر، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، مجلس البحوث والتبادل الدولي IREX، عمان، الأردن، 2020، ص : 15.
(17) مثلا في: الحريم السياسي، النبي والنساء، فاطمة المرنيسي، ت: المحامي عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق.
(18) أطلقت السلطات البلجيكية اسم فاطمة المرنيسي على جسر من جسورها الحيوية، يربط مدينة بروكسيل بمولينبيك.