الإنسان والعادة
“خير عادة ألا تكون لك عادة “..عبارة قرأتها منذ عقود خلت أثارت اليوم في ذهني عدة تساؤلات. فإذا كانت العادة سلوكا مكتسبا يتميز بالآلية والتكرار لأفعال اكتسبها الإنسان أو هي نتائج أفعال متكررة حتى تصبح شيئا من كيان الشخصية، ويجد بعضنا صعوبة في تركها ألا يكون الإنسان في هذه الحالة سجين هذا السلوك؟ وتكون العادة بذلك سلوكا سلبيا يقيّد إرادة الإنسان في التغيير ويمنعه من أن يطرق أبوابا أخرى متنوعة ويجوب آفاقا مختلفة أكثر أهمية ووساعة وحرية؟ وهل سنفقد شيئا في الحياة إن عشناها بغير هذا الفيسبوك أو الواتساب أو..؟
لكن في المقابل لو تخيلنا حياة الإنسان دون عادة لوجدناها سلسلة من التفكير المستمر والممل في الأمور التافهة والبسيطة وهذا ما ذهب إليه جان جاك روسو الذي اعتبر العادة بمثابة السجن الذي يصنعه الإنسان لنفسه حين يتعود على سلوكات معينة حيث لا يستطيع التخلص منها وبالتالي تقف حاجزا أمام كل تجديد أو تغيير وتضعف بذلك إرادة الإنسان حتى تنتهي تماما هذه الإرادة بفعل تحكم العادة في سلوكه فلا يستطيع التخلص منها وقد ذهب دوركايم إلى اعتبار العادة أمرا سلبيا إذ تعرقل كل إبداع وكل تجديد بل هي جمود وتقوقع ناهيك عن أن هناك عادات سيئة لا يستطيع معظم الناس الإفلات منها مثل التدخين والخمر والمخدرات والقمار وغيرها من السلوكات التي تتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية. بل لقد ذمّ القرآن الكريم المتمسكين بعاداتهم الوثنية التي وجدوا عليها أسلافهم لكنه أبقى على بعض ما تعوّد عليه العرب كعيدَيِ الفطر والأضحى بعد تطهيرهما وتخليتهما من شوائب الوثنية وتحليتهما بالقيم الدينية الإيجابية، ومن جهة أخرى ما أقبح أيضا أن تُعوّد الناس على أمور إنْ تركْتَها غضبوا منك وأنكروا عليك.
وفي المقابل يرى آخرون بأن العادة لها دور أساس في حياة الإنسان ناظرين إليها نظرة إيجابية تقوم على اعتبار أن العادة هي المحرك الأساس لسلوك الإنسان وتكيفه مع متطلبات الواقع حيث يرى أرسطو أن العادة أداة في يد الإنسان تساعده على القيام بكل الإعمال بسهولة إلى درجة أنه شبّه العادة بالغريزة حين اعتبرها طبيعة ثانية بالإضافة إلى أن العادة تساعد على الاختصار في الجهد والوقت الذي تستغرقه بعض الأعمال، ومن هنا يجدر بنا أن نتساءل: أليست المداومة على القراءة والكتابة الفنون والرياضة وغيرها من الأعمال المحمودة من العادات الإيجابية النافعة؟
وهل الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي عادة سلبية أم إيجابية؟ أليس التخلي عن جدارك الأزرق لبعض الوقت من أجل التفرغ لما هو أوْلى؟ حسب ترتيب الأولويات؟ الجواب يكمن في صدر بيت أبي الطيب المتنبي حين قال: لكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا
جلّنا يعلم نظرية في علم الاجتماع تقول “الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته”، أي أنه يحب العيش في جماعات ومجتمع وسط عادات وتقاليد وموروث ثقافي، لم نسمع يوما أن شخصا مفردا أقام حضارة ما، ولكن جماعات من الناس هي من تشيّد الحضارات ونتجت عنها ثقافتها وعاداتها الخاصة بها، منها ما هي عادات إيجابية ومنها ماهي عادات سلبية.
فماهي العادات والتقاليد؟ كنا نتساءل من صغرنا عن أشياء وأفعال أصبحت عادات لا نفارقها ولا تفارقنا فكيف أصبحت بعض الأفعال عادات..؟
يقال إن أي شيء تفعله أكثر من ثلاث مرات يصبح عادة، والعادة هي الشيء المألوف الذي يفعله الإنسان دون تفكير ولا يشعر بضيق أو تعب.
العادة تكوّنت من أفعال مستمرة لشي ما أو حدث ما، ويزخر مجتمعنا العربي بكامل أقطاره بالعديد من العادات والتقاليد منها ما هو غريب، ومنها ما هو طبيعي ومنها ما هو مناف للدين، ومشكلتنا في المجتمع العربي يقدّسون العادات والتقاليد.
العادات هي موروث ثقافي اجتماعي يحاول المجتمع المحافظة عليها وعدم المساس بها. وهناك فرق جوهري بين العادة والفطرة؛ فالعادة هي شيء مكتسب نتيجة استمرارية ممارسة الأفعال نفسها حتى أصبحت عفوية ولا إرادية، وهناك دافع يدفعنا لممارستها. أما الفطرة هي شيء خارج عن إرادتنا شيء جُبلنا عليه مثل الغريزة الجنسية عند البشر، وغريزة ميلنا للجنس الآخر، وغريزة الأكل والشرب.
العادات هي نتائج أفعال متكرّرة حتى تصبح شيئا من كيان الشخصية، ويجد بعضنا صعوبة في ترك بعض العادات وبعض العادات عادات مجتمعية تربّينا عليها وتستمد قوتها من خوف المجتمع كله من التغيير، وينظرون إلى أي شخص يرفض بعض عادات المجتمع أنه غريب وغير طبيعي.
لذلك يحاول الآباء زراعة العادات والتقاليد في أولادهم وكأنها جزء لا يتجزأ من هويتهم وشخصيتهم حتى يكبروا وهم متأقلمون معها لا ينفرون منها، فالمجتمع الشرقي من شدة اهتمامه بالعادات لا يرى الاختلاف والتنوع ميزة بل يراها خلافا ومشاكل.
نلاحظ في الوطن العربي تنوع عادات وثقافات، شيء جميل ورائع ولكن ثقافة “القولبة وإن كل الناس لازم يكونوا مثلنا” مسيطرة على أفكار المجتمع.
إن المجتمع الذي يرفض الاختلاف والتنوع يحاول عمل نسخ متطابقة من أفراده مجتمع ضعيف وغير متماسك. إن الاختلاف سنة الله في الكون وهو أساسي في استخلاف الله للإنسان في الأرض.
ويعيش الإنسان بين هذا وذاك لا يجرؤ على تغيير شيء من عادات مجتمعة بل إن البعض يوصلها لدرجة التقديس، وبعض العادات قد تكون عائقا أمام التفكير والطموح.
كلنا نتذكر طفولتنا وكثرة طموحنا وأسئلتنا المتكررة والتي اعتبرها آباؤنا أنها سخافة وعندما كبرنا وحملنا عادات مجتمعنا “وأصبح هذا عيبا، وهذا ما يصلح تسأل كذه، وإيش بيقولوا الناس علينا”، تخلينا عن فكرة التفكير والأسئلة، عندما سئل آينشتاين كيف وصل إلى كل هذا قال: ببساطة تخيلت فترة الطفولة وحاولت أن أضع الأسئلة نفسها الآن.
كما أن المجتمع يقدّس عاداته فهو يمقت وينكر أيّ شخص يحاول الخروج عن عاداته والتفكير بعيد عن عاداته وتقاليده، “التفكير خارج الصندوق” هو من حوّل أشخاصا عاديين إلى علماء ومشاهير ومتميزين هو من جاء بأينشتاين وأديسون وستيف جوبز وغيرهم.
الخروج عن عادات المجتمع ليس سهلا؛ بل يتطلب عزيمة قوية وإرادة لأن الشخص سوف يلاقي معارضة قوية من المجتمع، لأن المجتمع يميل إلى الاستقرار بما هو عليه ويخاف التغيير وعواقب التغيير.
ليست كل عادات المجتمع عادات سيئة فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بعث في قوم وصفوا أنهم في جاهلية فقال “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فقد كانوا يحملون عادات مجتمعية أخلاقية منها نصرة الضعيف وإغاثة الملهوف وغيرها، وهناك عادات مجتمعية إيجابية مثل عادة القراءة وعادة ممارسة الرياضة وعادة صلة الأرحام والعادة هنا قد تكون نوعين إما عادة روتين أو عادة وعي.
الروتين هو تلك الأفعال التي نفعلها بشكل مستمر ومكرر لدرجة تتشابه عندنا الأيام، فكل يوم نسخة متطابقة عن قبلها لدرجة الملل، الوعي هنا هو إدراك ما نفعله باستمرار وفوائد ما نفعله، الوعي يزيل الرتابة ويصنع التجديد والتجديد يزيد النشاط والإنتاجية للفرد.
لنكن أحرارا في اختياراتنا وفق ما يجدي ولا نجعل من أنفسنا عبيدا وأسرى لعاداتنا.