القارة السابعة حسب الشيخ جعفر
ما بين “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب (نشرت في مجلة الآداب عام 1954) وبين “القارة السابعة” لحسب الشيخ جعفر لم تقع معجزة شعرية كبيرة في العراق. نُشرت “القارة السابعة في كتاب شعري حمل عنوان “الطائر الخشبي” أصدرته وزارة الثقافة والإعلام العراقية في طبعة أنيقة عام 1972.
حسب الشيج جعفر كان على علاقة شعرية عميقة بالسياب. فهو ينتمي إلى المرحلة المبكرة من العقد الستين. تميزت تلك المرحلة بميل الكثير من شعرائها الشباب إلى التأثر بشعر السياب الذي مثل النموذج الحداثوي الأعلى في تلك المرحلة لا من جهة تحرره من المعايير الشعرية التقليدية فحسب بل وأيضا من جهة انفتاحه على التجارب الشعرية العالمية.
في كتابه الشعري الأول كان حسب سيابيا بموهبة توحي برغبة في بناء عمارة شعرية خاصة مستلهَمة مفرداتُها من عالم السياب. كان صوت حسب الشعري أقوى من أن يكون مجرد صدى لصوت السياب.
“آه مَن يطرق باب الريح آه
مَن يبيع الماء في عز المطر؟
مر صيف آخر والتهم الموقد أوراق السفر
فاركب الجذع المقيم
أيها النورس في مقهى المدينة
أيها النخل الذي يحمل في الجذر حنينه
وانثر الملح على الجرح القديم.
(من قصيدة نخلة الله).
ذلك ما لا يصح قوله على كتابه الشعري الثاني “الطائر الخشبي”. كل شيء كان مختلفا. عمارة الصور والأفكار والأشياء والأفكار بكل تقنياتها كانت مستقلة تماما. ذلك شاعر آخر تجتمع فيه كل المتناقضات. فهو هادئ وعنيف، حميمي ونافر، غنائي وصارم، واضح وغامض غير أن عنصرا واحدا ظل يربطه بالسياب. ذلك العنصر هو السرد. في شكله الشعري الجديد أسر حسب الطابع السردي كما لو أنه خصيصة شعرية.
على مستوى شكلي فإن قصيدة “القارة السابعة” قد عصفت بصريا بقرائها بطابعها المدور، أي استمرار البيت الشعري بإيقاعه من غير التوقف عند قافية إلا في حدود ضيقة. تقرأ شعرا كُتب بالطريقة التي يُكتب من خلالها النثر “السطر المستمر”. أقصد الشكل الذي يظهر على الصفحة. ذلك جزء أساس من النزهة. كان السوري خليل الخوري قد سبق حسب الشيخ جعفر إلى التدوير، غير أنه حافظ على شكل القصيدة الحديثة. ما فعله حسب كان حدثا استثنائيا يُحسب له من جهة طول النَفَس. ومن جهة أخرى فقد ساهم الشكل النثري في تشجيع الشاعر على الاستجابة لرغبته في أن يروي. كانت تلك القصيدة أشبه باليوميات التي تطمح إلى أن تكون رواية. حتى في السرد الشعري نجا حسب من فخ السياب. كانت طريقته في السرد مختلفة من جهة استجابتها لتأثير رواية اللاوعي أو الحوار الداخلي كما جاء عند الأميركي وليم فوكنر في روايته “الصخب والعنف” والإنكليزية فرجينيا وولف في معظم أعمالها.
“قلتُ افهمي الموقف. ما الفائدة الآن من البكاء؟ انتظري أيتها الحمقاء. هل ينكسر الحب كما تنكسر الزجاجة الزرقاء؟ هل يذوب في أصابعي كقبضة بيضاء من أول ثلج؟ لملمت بلا اهتمام خفها وثوبها وارتحلت عجلى وأبقت حسرة تخفق في الغرفة كالطير، وفي الحدائق المهجورة الشتاء يقعي الآن. تلتف على الأعمدة الريح، وفي الشوارع البنات يزهرن وينفتحن كالجوري وأصفرت يدي في يدها. قلتُ: صباح الخير زينا. انتظري. وانفلتت وردية ملتفة بالثلج والفراء”.
(من قصيدة القارة السابعة)
ما صرت على يقين منه أن حسب الشيخ جعفر كتب قارته السابعة متأثرا بمارسيل بروست في بحثه عن الزمن الضائع. هناك إشارات كثيرة واضحة في القصيدة تحيلنا إلى جمل أساسية وردت في سباعية بروست.
مزج حسب بين الأزمنة بأسلوب التداعي. كان مشروعه الشعري أقوى من أن ينحني أمام رغباته النثرية. ولكنّ جملا نثرية كثيرة تسللت إلى قصائده من غير أن تُفسد طعمها الشعري. واحدة من عناصر عبقريته تكمن في ذلك المزيج من الشعر والنثر. أتاح التداخل بين الأزمنة لحسب أن يكون موجودا في غير مكان. في الهور وفي شوارع موسكو في الوقت نفسه. في المعبد بين الكاهنات السومريات وفي المرقص بين الشقراوات الروسيات. في سنوات لاحقة سيكتب حسب مذكراته ويومياته. الأهم أنه كتب رواية. لم أقرأها. ربما تكون رواية فاشلة غير أن كاتبها كان أفضل من استعمل السرد في الشعر.
أكمل حسب الشيخ جعفر دورته الشعرية من خلال ثلاثة كتب “الطائر الخشبي”، “زيارة السيدة السومرية”، “عبر الحائط في المرآة”. ما الذي كتبه حسب بعد ذلك؟ لا أعتقد أنه كان في حاجة إلى أن يكتب شيئا آخر ليكون أيقونة الشعر العربي التي لم يتمّ اكتشافها بعد بالرغم من أن جائزة سلطان عويس قد التفتت إليه ذات مرة. ولكن حسب الشيخ جعفر يليق به شيء آخر. أن نقرأه.