الصورة
لم يكن الأمر مألوفا تماما، لكنه أصبح بالنسبة إليه واقعا يوميا يصطدم به كلما دخل شقته الجديدة، كان يبحث عن أيّ وسيلة يؤجل بها دخولها.. نفس الصورة التي يتفاداها باستمرار تنطبع على كل جوانبها، حتى عندما كان يلقي محاضرته اليومية بالجامعة، تراءت له وهو في قاعة المحاضرات صورته ذاتها تتهادى ببطء كالشبح فوق رؤوس الطلبة، تمالك نفسه للحظة وغص بريقه قبل أن يجاهد لإكمال محاضرته. أرعبته فكرة أن تتبعه الصورة أيضا إلى هناك وأن تلازمه أينما حل، حاول تجاهلها تماما، وأتى حركات بثها توتره: يغض بصره تارة، ويفتح المرجع الذي أمامه تارة أخرى على إحدى الصفحات ويحمله ليقرأ قولة ما، صارفا بذلك انتباهه عما يشغل ذهنه، تتعلق به الأنظار للحظة، لكن عينيه اتسعتا دهشا وهو يرقب صورته بكامل بدلته الرسمية، يتقدم بخطى واثقة فوق الرؤوس ويجلس قربه بهدوء. بدا له أكثر ألفة وهو قريب منه، لكن الموقف أثار فزعه وظل مرتبكا للحظة في مكانه، قبل أن ينهض منسحبا من القاعة، متعللا بموعد اجتماع هام بإدارة الكلية.
كانت الأيام الأولى لاقتنائه الشقة الجديدة الأكثر رعبا بالنسبة إليه، فما أن يدخل المنزل حتى تتراءى صورته منعكسة على الجدران، بقامته المديدة ونظرته الجامدة، يتراجع خطوة، خطوتين.. بل يعود أحيانا من حيث أتى ويغلق الباب وراءه ويعود مجددا في وقت لاحق ليجد الصورة ذاتها، كأنها لم تبرح مكانها للحظة. كانت تراقبه من كل زاوية في البيت، حتى عندما يدخل الحمّام تتطلع إليه وهي تقلده في حركاته، لا تخفف من مراقبتها له إلا عندما يأوي إلى فراشه، حيث تغير الصورة خطتها: تحضر فجأة لتتجول ببطء في خياله للحظات ثم تخبو وتختفي حتى تظهر مجددا في أحلامه. بعد أسبوعين من سكناه، كان قد تعلم طقسا جديدا يواجه به صورته: يفتح الباب ثم يغمض عينيه ببطء ويلج شقته بخطى واثقة.. يعد ست خطوات التي تفصل الباب الخارجي عن غرفته، ثم يخلع سترته دون أن يتحرك من مكانه ويلقيها على المشجب المعلق قرب باب الغرفة، يعد خطوتين أخريين للأمام ويضع أغراضه على الطاولة الصغيرة قرب السرير. وهكذا كان ينجز كل أعماله خارج البيت، ولا يدخله إلا ليأوي إلى فراشه بعد أن يتبع طقسه الذي أصبح جزءا من حياته. في مرات قلائل يخطئ في جزء صغير من “الطقس” فيفسد كل شيء.. يدخل إحدى المرات البيت متوترا لا تحضر في ذهنه إلا صورة الطالب الذي نعته أمام الجميع بالـ”نرجسي” و”المتكبر”، ثم وصفه بأنه مريض نفسي. لقد أثارته تلك النظرات غير البريئة والمنحازة من بقية الطلبة يتابعون الموقف، وكأنهم يقولون إنك فعلا كذلك: نرجسي، متكبر، بل مريض نفسي. واجه الموقف بابتسامة هادئة مستهزئة من الجميع وأكمل محاضرته بلامبالاة حقيقية، لكنه حين يستحضر ذلك الآن يشعر ببعض الغضب يجتاحه. توقف فجأة: تحسس الجدار قربه، لم تمتد يده إلى شيء. لقد أخطأ في العدّ حتما. قد يكون فعلا في غرفته، عدّ خطوتين إلى الأمام.. لكن اصطدم بحائط أمامه، وقف يائسا وهو يفكر أنه لا بد أن يفعل ذلك، فتح عينيه ببطء فوجد نفسه في المطبخ.. تبا.. خرج بسرعة واتجه صوب غرفته التي لم ير محتوياتها منذ مدة. خلع ملابسه ووضع أغراضه ولم ينتبه إلى أن عينيه ظلتا مفتوحتين إلا حين تراءت له الصورة مجددا على الحائط. كان “هو” ينظر إليه نفس النظرة الساخرة. أسرع بغلق عينيه، لكن هيهات، فقد ارتسمت الصورة في ذهنه وأرّقته تلك الليلة طويلا.
أيعقل أن تكون كل هذه أوهاما يخلقها خياله المتعب؟ أيمكن حقا أن يكون مريضا نفسيا كما وصفه الطالب؟ ثم ماذا يعني أن تكون مريضا نفسيا؟ أن تلاحقك صورتك كالظل في منزلك؟ ألا يحدث ذلك مع الآخرين أيضا؟ قد يكون الكل مريضا نفسيا.. كيف يعقل ألا يرى الجميع نسخا لهم تقلدهم وهم ينجزون أعمالهم وتلاحقهم أينما كانوا، ورغم كل ذلك لم أعتد تماما أن تلازمني هذه الصورة، وإلا فلماذا لجأت إلى إغماض عيني كلما ولجت المنزل. ربما لهذا السبب أصبحت تلازمني حتى خارج المنزل. أتمنى أن أدمر صاحب هذه الصورة اللعينة.
كان جالسا في شرفة منزله ذاك الصباح الباكر، حين نهض ببطء وكان ذهنه قد انبثق فجأة عن فكرة ما. سار بخطوات وئيدة نحو الباب الخارجي، أغلقه خلفه ثم سار صاعدا السلالم قاصدا سطح البناية.
في اليوم الموالي، الشرطة كشفت شيئا ما في شقة الأستاذ الجامعي: كانت مغطّاة بالكامل بالمرايا الواسعة، الجدران، السقف، الأرضية، حيث يمكنك رؤية انعكاس صورتك في كل مكان فيها.