مجتمع متقدم بلا معارضة
يعتقد معظم رواد مدرسة فرانكفورت أن المجتمع الصناعي المتقدم قد استطاع “أن يكسب كثيراً من الأرض التي كان على الحرية الجديدة أن تزدهر عليها. لقد امتلك هذا المجتمع أبعاد الوعي والطبيعة التي لم تتلوث في الماضي إلا نسبياً. لقد صاغ بدائل تاريخية في صورته، وليّن من التناقض الذي أصبح يتحمله بهذه الصورة. وخلال هذا الغزو الديمقراطي – الشمولي للإنسان والطبيعة، أمكن غزو المسافة الذاتية والموضوعية المتاحة لعالم الحرية” (هربرت ماركيوز: فلسفة النفي (دراسات في النظرية النقدية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1971، ص 11).
سعى المجتمع الصناعي المتقدم جاهداً بكل قواه، لتفريغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال، لا تجد أيّ عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد المجتمع من ذوي الحس السليم. حيث يبدو أن كل شيء عقلاني ولا يشوبه أيّ تناقض أو خلل.
ويشرح هربرت ماركيوز سبب هذه السيطرة أن طاقات المجتمع المعاصر (الفكرية والمادية) الحالية أعظم بكثير مما كانت عليه في السابق، وهذا معناه أن هيمنة المجتمع على الفرد أكثر بكثير من السنوات الماضية، لقدرة هذا المجتمع على استخدام التكنولوجيا وترشيدها في سبيل السيطرة على أفراده من خلال تحسين مستوى معيشتهم وجعلهم أسيرين لها بكل ممارستهم اليومية. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص 26).
قدم المجتمع الصناعي المتقدم لأفراده مبررات منطقية للقضاء على كل أشكاله النقد، من خلال التقدم التقني الذي يرسخ دعائم كاملة من السيطرة والتنسيق، فالنظام يقوم بدوره بتوجيه التقدم من خلال خلق أشكال للحياة والسلطة التي تبدو وكأنها منسجمة مع نظام القوى المعارضة، حيث يتم إبطال كل محاولة للاحتجاج باسم الآفاق المستقبلية أو باسم تحرر الإنسان. لذا يصبح المجتمع المعاصر قادراً على الصمود دون أيّ تبدل اجتماعي، أي دون التحول بالمعنى الكيفي الذي يؤدي إلى قيام مؤسسات تختلف اختلافاً جوهرياً عن الحالية تساعد على قيام طراز جديد للحياة الاجتماعية. مما يضع عراقيل حقيقية أمام عملية التغيير الاجتماعي. (المرجع السابق نفسه، ص 28).
ولأن الرأسمالية المتقدمة، قد استطاعت اليوم أن تجدد نفسها من خلال تطوير نظام وأسلوب الاستغلال، فلم يعد الاستغلال والسيطرة يرتبطان على نحو ما كان عليه في الماضي (أي الشعور بالمعاناة)، لأن مثل هذا الشعور يمكن تعويضه الآن عن طريق مستوى الرفاهية الذي لم يسبق له مثيل. (Herbert Marcuse: An Essay on Liberation, Beacon Press, Boston, 1969, p.(13) ..).
فعلى سبيل المثال، تستخدم الأنظمة الرأسمالية مقدارا مقننا من التسامح الذي يتطلّبه النظام الديمقراطي مع القوى المعارضة، الذي يؤدي إلى تورط هذه القوى في اللعبة البرلمانية، وبهذا تصبح المعارضة مندمجة داخل منظومة المجتمع القائم، وبالتالي يجردها تماماً من سلاحها الوحيد، ألا وهو القدرة على رفض النظام القائم. وبنفس هذا السياق يساعد هذا التسامح أيضاً على الترويج لسائر البرامج الإصلاحية السلمية التي تتوهم إمكانية الوصول إلى تغيرات جذرية دون اللجوء إلى العنف الثوري، لذا نجد أن هذا التسامح الحذر الذي تمنحه المجتمعات الرأسمالية، يصبح أداة ناجحة لتحديد القوى الراديكالية المعارضة للنظام، فالشعب يتسامح مع الحكومة، والحكومة تتسامح مع المعارضة داخل إطار شمولي يتخذ من الديمقراطية ستاراً لممارساته القمعية. (Herbert Marcuse: A Critique of pure Tolerance, Beacon Press, Boston, 1965, p.(83)).
والدليل على ذلك، أن النظم السياسية الراهنة التي تتخذ الشكل الديمقراطي، فإن هذا لا يؤخر ولا يقدم شيئاً لموقفها الأساسي، فما الديمقراطية إلا واجهة تحكم من ورائها صفوة ما لحساب مصالح معينة، أو ما هي في الحقيقة إلا نوع من الطغيان الذي يرتدي الرداء الديمقراطي من خلال الأغلبية. وما الالتزام بالقرار الديمقراطي إلا نوع من الالتزام الزائف، ذلك أن الالتزام الحقيقي لا يمكن أن ينبع من إرادة تم تخريبها والسيطرة عليها. (أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة: نصار عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص 31-32).
هذا ما دعا ماركيوز إلى توضيح مدى التزييف الذي أصاحب مفهوم النقد في هذا المجتمع من خلال إقامة المقارنة بين نقد المجتمع الصناعي في مرحلة تكوينه، وبين وضعه الراهن للدلالة على الوضع الذي ترد إليه. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر على سبيل المثال كان النقد يمارس عمله بصورة جلية متوسطاً بين النظرية والممارسة، بين القيم والوقائع، بين الحاجات والأهداف. فالبرجوازية والبروليتاريا كطبقتين كبيرتين متعارضتين في المجتمع قد وعتا الدور التاريخي للنظرية وراحتا تستخدمانه في عملهما السياسي. أما في الوضع الحالي نجد أن البرجوازية والبروليتاريا على الرغم من أنهما الطبقتان الرئيستيان في العالم الرأسمالي، إلا أن العالم قد شوه بنيتهما ووظيفتهما إلى حد عدم القدرة على النظر إليهما كعامل للتحول التاريخي. ففي القطاعات من المجتمع المعاصر توجد مصلحة قوية لتوحيد خصوم الأمس بهدف الحفاظ على مؤسسات المجتمع الصناعي المتقدم من جهة وتدعيمها من جهة أخرى. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص 29).
إن البنية الطبقة للمجتمع الصناعي والصراع الطبقي بين الطبقات، كما صوّرها ماركس لم تعد تعتبر قسمات هامة للمجتمعات الغربية الحديثة، لأن هذه المجتمعات سعت لتوحيد الخصمين السابقين في المجالات الأكثر تقدماً للمجتمع المعاصر، لأن من مصلحتها الإبقاء على مقاليد السيطرة والهيمنة التي تستحوذها باسم التقدم والارتقاء (توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا، بنغازي، 2004، ص 76). أي أن الطبقة المعارضة، والمتمثلة بالطبقة العاملة لم تعد موجودة لأنه تم استيعابها واسترضاؤها، ليس من خلال الاستهلاك فقط، وإنما أيضاً من خلال عملية الإنتاج المرشدة ذاتها. (المرجع السابق نفسه، ص 82).
ونتيجةً لغياب عوامل التغير الاجتماعي في هذا المجتمع تم القضاء على أيّ محاولة بناءة للنقد مما أدى به إلى تقوقعه في مجال التجريد فقط. الأمر الذي أدى إلى تحطيم حقيقي للأرض المشتركة بين النظرية والممارسة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة. إذا كانت عوامل التحول غائبة (أي التغيير الاجتماعي)، فهل هذا نقد حاد للنظرية؟
يشرح ماركيوز هذا الطرح من خلال إصراره على أن التحليل النقدي، المواجه لوقائع متناقضة على أرض الواقع الاجتماعي، ما يزال يعتبر أن التغير الاجتماعي ضروريّ وملحاً أكثر من أي وقت من الأوقات، فهو ضروري للمجتمع برمته أي لكل عضو من أعضائه، بسبب أن الإنتاجية الصناعية ووسائل التدمير (الموجهة لحماية المجتمع من الأخطار الخارجية) تنمو بوتيرة واحدة، مما جعل البشرية مهددة بدمار شامل، والفكر والأمل والخوف رهن بإدارة السلطات القائمة، فهذا الوضع يعتبر ناتجا عن عقلانية المجتمع المعاصر التي توجه تقدمه وتطوره، إلا أن هذه العقلانية تبدو في مبدئها لا عقلانية. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص 30).
فإذا كان أفراد المجتمع يقبلون أن يكون مجتمعهم على هذا الحال خال من أي حركة نقدية، فهذا الوضع لا يزيد من عقلانية المجتمع ولا تقلل من قابليته للنقد. لأن التمييز بين الوعي الحقيقي والزائف، لم يفقد شيئاً من دلالته. لكن هذا التمييز بحاجة إلى الإثبات والبرهان. وعلى كل إنسان أن يكتشفه وأن يبحث عن الطرق التي ستقوده من الوعي الزائف إلى الوعي الحقيقي. والإنسان لا يستطيع فعل ذلك إلا إذا شعر بالحاجة إلى تبديل نمط حياته، أي إلى نفي الإيجابي الذي يؤدي إلى الرفض. فسعى المجتمع الصناعي بكل ما يملك من قوة إلى قمع هذه الحاجة، بتناسب مطرد مع قدرته على إنتاج الخيرات وتوزيعها، ومع قدرته على استخدام الإنجازات العلمية التي تم التوصل إليها في مجال الطبيعة في غزو الإنسان من خلالها. (المرجع السابق نفسه، ص 30).
من خلال هذا العرض السريع لقدرة الإنجازات العلمية في السيطرة على المجتمع الصناعي وجعله مجتمعا بلا معارضة، نجد أن النظرية النقدية فقدت كل السيطرة على أن تبرر عقلانياً ضرورة تجاوز هذا المجتمع. وهذه نتيجة طبيعية لأن الفراغ قد أصاب بنية النظرية بالذات، وكما نعلم أن تطور المقولات النظرية في عصر مّا يأتي كرد فعل تتلاحم فيه حاجة الرفض والنقض والهدم مع قوى اجتماعية حقيقة وفعالة، لذا نجد أن المجتمع الصناعي الحديث سعى لإفراغ المجتمع من كل عناصر القوى الاجتماعية الرافضة لسياساته وتوجهاته من خلال التقدم والتطور الذي بلغه بأساليب عقلانية.
يدلل ماركيوز على هذا الوضع من خلال الرجوع إلى الماضي لرصد وضع المقولات النظرية في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، ليبين كيف كانت هذه المقولات النظرية في جوهرها مفاهيم سالبة ومعارضة تحدد التناقضات الحية للمجتمع الأوروبي. فمقولة “المجتمع” بالذات تعبّر عن الصراع الحاد بين الدائرة الاجتماعية والدائرة السياسية، وتشير إلى المجتمع بوصفه نقيضا للدولة. وهذا الأمر ينطبق على مقولات كثيرة في هذا المجتمع مثل: الفرد، الأسرة، الطبقة. (المرجع السابق نفسه، ص 30 – 31). أما المجتمع الصناعي المتقدم فقد سعى لتجريد هذه المقولة من أيّ محتوى نقدي لتصبح مصطلحات وصفية، عاملية، مخيبة للأمل. من خلال ما يلي. (المرجع السابق نفسه، ص 32).
أ- رفض كل فكرة تحاول النظر إلى جهاز الإنتاج والتوزيع التقني (التكنولوجيا) في المجتمع الصناعي على أنه مجرد حشد جمعي من الأدوات التي يمكن عزلها عن مقتضياتها الاجتماعية والسياسية. وتسويقه على أنه نظام يحدد قبلياً ما ينبغي له أن ينتجه بالإضافة إلى ذلك وسائل صيانته وتوسيع سلطته. بمعنى أن الأهداف والمصالح المحددة لتسلط التكنولوجيا لا يتم دسّها على هذا المفهوم من بعيد ومن الخارج، إنما تكمن في تصميم بناء الجهاز التقني. (Herbert Marcuse: Industrialization and capitalism, Boston, Beacon Press,1968, P.(179)).
ب- ميل جهاز الإنتاج في المجتمع الصناعي المتقدم إلى أن يصبح كلياً، بمعنى أنه يحدد لأفراد المجتمع الصبوات والحاجات الفردية في الوقت نفسه الذي يحدد فيه النشاطات والمواقف والقابليات التي تستلزمها الحياة الاجتماعية.
وهكذا لم تعد هناك أيّ معارضة بين الحياة الخاصة والحياة العامة، بين الحاجات الفردية والحاجات الاجتماعية. فالتقنية تفسح المجال لتأسيس أشكال من الرقابة والتلاحم الاجتماعي أكثر نعومة وفاعلية في آن واحد.
ويمكن بذلك وصف المجتمع الصناعي المتقدم باعتباره عالماً تكنولوجياً وعالماً سياسياً أيضاً، فهو المرحلة الأخيرة من مشروع تاريخي نوعي في سبيله إلى التحقيق والإنجاز، ويعني ماركيوز بذلك أن تجربة الطبيعة وتحويلها وتنظيمها باعتبارها مجرد دعائم للسيطرة. فالمشروع كلما تطور كيّف وحدد عالم الكلام والعمل، عالم الثقافة على الصعيد المادي وعلى الصعيد الفكري. فعن طريق التكنولوجيا تلتغم الثقافة والسياسية والاقتصاد في نظام كلي الحضور يفترس أو ينبذ كل الحلول البديلة، لأن هذا النظام يمتلك إنتاجية وطاقة متعاظمتان تقودان المجتمع إلى الاستقرار وتحسبان التقدم التقني في مخطط السيطرة، وبهذا غدت العقلانية التكنولوجية عقلانية سياسية بامتياز. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص 33). فالأنظمة الليبرالية الراهنة ما هي في جوهرها إلا أنظمة شمولية من نوع جديد وإن زعم أنصارها غير ذلك، فالفرد في ظلّها يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات الإنتاجية لا يستطيع الفكاك منها. (أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص 23).
بذلك يكون المجتمع الصناعي قد أحكم إغلاق كل أبواب النقد الاجتماعي التي يمكن أن يتعرض لها للمحافظة على السوية التي يراه أنها مناسبة لتطوره والتقدم بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى حتى لو كان هذا على حساب حرية الفرد والمجتمع، أي “مجتمع بلا معارضة”.