الزانية في يومها الأخير
«1»
في اليوم الخامس من الفضيحة، وبعدما توتر الرجال قبل النساء وصار من المستحيل الإمساك برأس الخيط، وبالرغم من رياح السموم التي أغرقت القرية بالغبار والحر الشديد، كان القرار الأخير المرتبك وغير المريح لعيدان الصّبّي وزوجته، بعد ليلة الخرزتين السوداوين، هو الرحيل السريع ولو كان في عز ظهيرةٍ تخنق الأنفاس وتقشّر الوجوه، كهذه الظهيرة الصفراء التي أخرجتهما من الدار إلى مصيرٍ آخر في قرية أخرى، حريصَيْن قدر الإمكان على أن يتجنبا ملاقاة الجيران والأهالي الذين قبض عليهم؛ في هذا الوقت؛ غبارٌ صحراوي هبّ من الغرب في سوْراتٍ متتالية مترافقاً مع رياح السموم الحارّة، ونبتت شمسٌ عمودية ملتهبة جعلت من القرية مقبرة مهجورة تحت الهجير ونفخ الغبار الأصفر. وهو ما أقنع الرجل وامرأته أن يستغلا هذا الوقت للتسلل من دون أن يعترضهما أو يؤخّرهما أحد، لكن قبل أن يسلّما على المختار ويأتمنانه على الدار التي بقي فيها الكثير من الأغراض والأفرشة والحاجات الأخرى التي لم يستطيعا حملها على ظهر الحمار الهزيل، مثلما يأتمنه عيدان على دكّانه الصغير. ويبرر له رحيله – الذي تمنّاه في سره – أن يكون رحيلاً مؤقتاً حتى تستتب الأمور ويتضح الخيط الأسود من الخيط الأبيض.
همهم بضيق ووجهه يتعرق:
– الشيخ حنطة غير موجود في القرية هذه الأيام كما أظن.
ردّت المرأة بتبرّم:
– الشيخ مشغول بأملاكه وخيوله ونسوانه التركيات.
ثم أردفت بعد صمتٍ سمعت فيه وقْع خطواتهما المسرعة:
– المختار رجلٌ خَيّر وهو وجه القرية.. الشيوخ والسراكيل لا يعرفون الفقراء.
– الشيخ حنطة يرماز أصلي.
على ظهرِ حمارٍ هزيل وضعت المرأة بعض العفش: أفرشة خفيفة ملونة غطّت حاجياتٍ مطبخية مدحوسة في گونية تمّن، ومستلزمات دكان الحِدادة الصغي: المنفاخ اليدوي السميك من جلد الجاموس المدبوغ، ومطرقة الحديد ذات الرأس المربع، بينما حرص عيدان على أن يدسّ الزناد الفضي التركي ذا الفتيلة الخشنة في جيب دشداشته الجانبي، الزناد الذي أهداه له جلال الدين بيك ذات مرة عندما عمل له فالة بسبعة رؤوس على غير العادة وضعها ديكوراً في ديوانيته العريضة؛ وهو في طريقه مع امرأته؛ إلى دار المختار قبل أن يتركا القرية نهائياً في ظهيرة منسوجة من الأتربة والرمال الخشنة، فيما بدا بستان الشيخ كبيراً بنخيله المتراصفة وأشجاره المتطاولة كأعمدة لأشباح تصارع الظهيرة بريحها الحارقة. وهو ما لفت أنظارهما عندما أخذا ينظران إليه مثل كابوس جاثم على صدر القرية بعدما عاث فيه حسين الناطور، وبالغَ كثيراً بإشهار الفوطة البيضاء والتلويح بها لليوم الخامس على التوالي. ولا يعرف إنسان في القرية كيف ستنتهي مهلة القائم مقام الأبرص جلال الدين بيك بعد يومين فقط، حينما تعقدت القصة وركب العناد رأس الناطو، ممتثلاً لسلطة البيك الذي تقف وراءه الحكومة والمتصرف والباشا الكبير وربما الباب العالي في إسطنبول، لحجج وجد الأهالي أن بعضها غير ظاهر من الفضيحة حتى الآن. فيما بقي المستور والغامض لا يجهر به أحد ولا يجرؤ الكثيرون على القول به، مادام جلال الدين بيك يدفع الناطو – ابن الغريبة – الى واجهة القرية، فيما ابتعد الشاهبندر الشيخ حنطة عن القرية في هذه الأيام ولم يظهر ولا مرة واحدة. وقيل إنه يتفقد أملاكه الكثيرة حتى مهران داخل الحدود الإيرانية على ظهر العروسة التي لا يفارقها في حله وترحاله المتعدد.
– الدنيا تغيرت.. صارت غير دنيا.
تمتمت المرأة وهي تحمي رأسها من شمس الظهيرة بشيلة سوداء.
تهدج صوته:
– هذا غضب الله علينا. يصبح البشر شياطين كلما كانت لديهم قوة.
كان بيت المختار متداخلاً بين البيوت القصبية والأكواخ الطينية، ولا يميزه شيء عنها سوى أنه مختار القرية منذ وقت طويل، عبرت عليه أجيال متعاقبة ما يزال بعضها حياً حتى ساعة الفوطة – الفضيحة التي يقودها حسين الناطور.. ابن الغريبة.
«2»
البارحة كان الليل طويلاً على غير العادة.
طالعَ فيه نجوماً لامعة تنظر إليه كالعيون الفضية، وكواكبَ كثيرةً تتحرك وتغيّر مواقعها في السماء على مدار الظلام، فتغيّر شكل الليل أمامه. بل حتى شكل السماء الغاطسة في عتمة بعيدة ، فاكتنفه الأرق وتصبب العرق من جسده وهو يُحرّك خرزتيه السوداوين؛ أنثى وذكر؛ في الطاسة النحاسية قبل أن تنكشف ساعات النحس الآتية، عاكفاً على قراءتها بصبر، متتبعاً لألأة بنات نعش السبع في قِبلتهنّ المعتادة وتشكيلتهنّ المنسرحة التي يعرفها، فأخذ يتأمل خرزتيه المظلمتين وهما تتقافزان في حوض الطاسة بحركة جذْب غير معتادة؛ صعوداً على حافّة الطاسة ونزولاً منها؛ متأملاً وراصداً حركتيهما في ميلانهما عن اتجاه بنات نعش في كل مرة يوجههما إلى تلك اللمعة الفضية. كما لو ضاقت عليهما مساحة الطاسة الصغيرة. حتى تهدآن وهما تبتعدان عن ذلك الاتجاه الواضح لعينيه. فتنطفئان في قعر الطاسة متقابلتين كأنهما تهمسان لبعضهما شيئاً.
لا يعرف تماماً أيّ نجمة فرّت من جذب الخرزات، ولا أيّ واحدة اكتفت بظهور مؤقت وغابت في لجّة السماء سارحة كما لو انفرط العقد السباعي لتلك البنات الفضيات المرابطات في السماء. غير أنه عزم إلى ما بعد منتصف الليل، واستنزل خدّام الخرزتين بطريقة مجهدة، متصبب العرق كمن يغطس في نهر القرية حتى ابتلال دشداشته، فمسكت جسده ارتعاشات متتالية. خضّته كثيراً. وتهدّل لسانه بالتمتمات الغريبة وهو يمضي في معاينة خرزتيه اللتين عاودتا القفز في طاسة النحاس مثل كائنين صغيرين محاصرين، تاركتين انفعالات صوتية غير واضحة اختلطت بصريف الطاسة واهتزازاتها المتسارعة، لكنه، وبقلق، أخبر زوجته قبل الفجر بالضبط، من دون أن يُتمم التعزيم، بأنّ عليهما الرحيل لما تبقى من مهلة الناطور التي توعّد بها الأهالي المفجوعين بقصة الفوطة وصاحبتها المتخفية في أحد بيوت القرية.
قال بقلق:
– لا يوجد ما يشجّع على البقاء يا خاتون.. الخدّام يقولون هاجِرْ.. الدنيا ليست أماناً هذي الأيام.. الخرزات مو مرتاحة.
أكثر من مرة ردد أمامها بأنّ الأيام المقبلة لا تبشّر بخير، بقناعته التي وجدها وتأكد منها في يوم المرآة المثلومة التي رأى فيها الصبي – ابن الحفّافة خديجة – شكل الفاعلة. وهو ما ظل يتردد في خاطر المرأة، فهي العارفة بعلومه وسحره العلوي والسفلي الذي لا يُخطئ كثيراً، وحتى يوم شهدت رؤية الصبي في التنكة والمرآة، وضحّت بواحدة من دجاجاتها البيّاضة إلى جارتها الحفّافة، كانت على يقين أنه قد سرق صورة الزانية من عيني الصبي المتعرق الطامع بحمامة صادها له عيدان، ولم تخفِ قلقها وخوفها مما سيحدث فيما تبقى من الأيام القليلة في رهان القائم مقام والناطور على كشف الفاعلة التي دوّخت فعلتُها أيامَ القرية وجعلتِ الرؤوس تتناطح فيما بينها.
لوحة: جاسم محمد الفضل
«3»
وجدا المختار يغالب الحر والغبار، مفرّع الرأس بصلعةٍ سمراء تلطخها بقعٌ قهوائية صغيرة غامقة ومتفرقة كالندوب، ودخلت عيناه الطامستان في محجريهما على وجهٍ سبعيني ملتحٍ مطعوج يوحي بالملل والضجر والاختناق والقرف.
اعتذر عيدان؛ هو يقبض على لحيته البيضاء التي يخالطها اصفرار كثير، من أنّ الوقت غير مناسب في مثل هذا الجو المترب الخانق، لكنه تعلّل:
– البركة فيك يا مختار فأنت تعرفنا منذ سنوات. ونحن من أهل الديرة.
ثم عالج ارتباكه الواضح:
– والحي يتلاقى مع الحي إذا شاء الله تعالى.
– إلى وين؟
– إلى أمّ الطيور.. الرزق وين ما كان يا مختار. مرة هنا ومرة هناك.
لم يكن الوقتُ مناسباً كما كان عيدان يفكر لحظتها وهو يكمش لحيته المتربة ويغالب موجات الريح الحارة التي تشفط وجهه المتعكر؛ شاعراً بالخجل من المختار، لكنّ العبور إلى قرية أمّ الطيور هاجس سيطر عليه للفرار تحسباً لما سيحدث، لاسيما وأن سماء الليل الذي يطالعه كل ليلة باللمعان المتحرك المريب، وحركة بنات نعش غير المألوفة رسّخت فيه فعل الفرار من تصرفات الناطور العنيد الذي يهين القرية ورجالها ونساءها بشعور المنتصر. فشجعته امرأته التي تخشى عواقب الأمور، أن يغادرا القرية وقتاً قد يقصر أو يطول، كما لو شمّت رائحة بارود ورصاص ودماء. ولعل المختار فهم ما يدور برأسيهما، فاكتفى بلحظة القبول التي لا بد منها، وهو يرى تل العفش الصغير فوق ظهر الحمار الهزيل وامرأة الرجل التي نادراً ما يراها. وهي الآن أمامه تلهج بفضائله وطيبته كونه عمود القرية وخيمتها وليس الشيخ حنطة.. قالتها صراحة من دون أن تتردد.
ربت على كتف عيدان:
– مصحوبين بألف سلامة.. هذي ديرتكم وقريتكم متى ما ترجعون هلا بيكم.
صافحه شادّاً على يده بإيحاء الموافقة على هجرة القرية، غير أنّ عيدان – ولا تزال كفه بكف المختار – قال بتردد:
– تركت داري بأمانتكم يا مختار.
هز المختار رأسه.
أكمل عيدان بصوت فيه حشرجة الغياب:
– ودكاني مقفول بثلاثة أقفال حتى يسهّل الله أمرنا بالرجوع إلى القرية.
«4»
تحررا من عبء التوديع شاعرَيْن بالارتياح النسبي، فسارعا بين الدروب الترابية يقودان الحمار الهزيل. متخذَيْن أكثر من دربٍ صغير يقودهما إلى دروبٍ أخرى، وهما يسحقان شجيرات الأشواك والعاقول والطرطيع والحَلفاء، بعيداً عن البستان الكبير المغلّف بالغبار الصاعد والأكواخ والصرائف المتقاربة المتشابهة التي حطّت عليها حرارة مباشرة، ليتفاديا مواجهة بعض الأهالي الذين سيسألون عن سبب الرحيل من القرية في مثل هذا اليوم، ويتجنّبان القيل والقال وما آلت إليه المشكلة التي تسبب بها الناطور السّبيعي حسين، فالأسبوع سينتهي والقرية في مدّ وجزر من أمرها، والناس دائخة يميناً وشمالاً وهي تنتظر مهلة اليوم السابع بخوف.
كانت امرأته متعرقة وقد شدّت نصف عباءتها على وسطها ولفّت وجهها بشيلة سوداء، وهي تسحق دروب الطرطيع الساخنة وشجيراتها الشوكية، وقد أبعدتهما قليلاً عن القرية، ورأت بستان الشيخ يتوارى في سحائب الغبار وسَوْرات السراب.
– نبتعد عن مشاكلهم حتى يفرجها الله.
أوضح الرجل وهو يمسح العرق من على جبهته ولحيته المصفرّة النازلة حتى صدره المشعر:
– الناطور ورّط الناس وورّط نفسه في هذه المصيبة.
ثم أكمل وهو يبصق:
– راح يكون الخاسر الوحيد في هذي المشكلة.
عادت المرأة تسأل:
– تعتقد غيرنا راح يترك القرية؟
– الناس تعبت من المشاكل البايخة.
تساءلت وهي تحث الحمار على السي:
– أنت متأكد أن ابن الحفّافة شاف الزانية بالمرايه؟
أكد الرجل بشكل يقيني:
– أي.. بس ما فهم..!
حاولت أن تستنطقه مرة أخرى بإلحاح:
– وكيف سيعرف الناطور الزانية بعد ما ينتهي الأسبوع؟
رد عيدان على مضض وهو ينظر الى السماء المغبرّة:
– الله وحده يعرف.
لوحة: جاسم محمد الفضل
«5»
لم يكد المختار يغفو في القيلولة الصفراء حتى أخبره ولده، بتردد وحذر، بأن السائس عبدالعزيز قد هرب من إسطبل جلال الدين بيك ومعه عشر أفراس صقلاوية أصيلة، سالكاً طريق البرية. ربما إلى ولاية البصرة، ومن ثم إلى سنجق الإحساء التي شبّ فيه وتعلم أصول تربية الخيول وتطعيمها وتطبيبها بين شيوخها وأكابرها، وأن القائم مقام المُستثار، الذي فوجئ بالخديعة والخيانة، أرسل في أثره فصيلاً من الخيّالة والدرك لمطاردته.
فزّ المختار متوتراً وهو يبعد الذباب عن وجهه، وبصعوبة فتح عينيه، مستغفراً الله بأنفاس تختنق محدقاً بوجه ولده.
– في القهوة يقولون هذا.
انسحب الولد، ونهض نصف المختار الأعلى وهو يهش الذباب والغبار من على وجهه وقد ازداد عصبيةً، وبدا لزوجته، التي تصب الماء على رأسها بين لحظة ولحظة، وكأنه فزّ من كابوس وهو يتمتم:
– الله يلعنك يا ناطور. الله يلعنك يا قائم مقام. الله يلعنك يا شيخ حنطة. الله يلعنكم دنيا وآخرة.