ممثلو الدراما السوريون ومنهج ستانسلافسكي
يعتقد البعض أن نجاح الدراما السورية متعلق فقط بجودة النص والإخراج أو ربما بكياسة اللهجة السورية وعذوبتها، قليلون فقط يتوقفون ويلتفتون إلى مهارة الممثل السوري وتمكّنه من أدواته التي هي بشكل أو بآخر سبب في نجاح الدراما السورية وانتشارها. وفي جردة سريعة لرواد الدراما السورية سنكتشف أن أصولهم جميعا مسرحية سواء كخريجين من المعهد العالي للفنون المسرحية أو من المسرح الجامعي وأن معظمهم قد تتلمذ على يد نفس الأستاذ أو على يد تلامذته، فمن هو ذلك الأستاذ وما هو ذلك المنهج الذي كان السبب في نجاحهم. حين أفتتح المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق في العام 1977 كان من أوائل الأساتذة الذين أشرفوا عليه الأستاذ فواز الساجر الملقب أبو ستانسلافسكي (1948 – 1988)، والذي كان بدوره أحد طلاب يوري زافانسكي تلميذ ستانسلافسكي وصاحب أهم مدرسة مسرحية عالمية وأحد وجوه المسرح السوفييتي.
كان الساجر عائدا حينها بإجازة في الإخراج من الاتحاد السوفييتي وقام بالتعاون مع الأستاذ أسعد فضة المجاز من القاهرة لتخريج الدفعة الأولى من طلاب المعهد التي ضمت 26 ممثلا هم اليوم رواد الدراما السورية من أمثال جمال سليمان وأيمن زيدان وفايز قزق وغيرهم.
لاحقا وربما بشكل متزامن إلى حد ما وصلت إلى المعهد دفعة من الخريجين بعضهم مجاز في التمثيل والبعض الآخر في الإخراج وكلهم تقريبا قادم من دول المعسكر الاشتراكي بلغاريا والاتحاد السوفييتي، نذكر منهم وليد قوتلي وحسن عويتي ونائلة الأطرش وجواد الأسدي ومانويل جيجي وغيرهم، مما يعني أن جيلاً كاملاً من أساتذة المعهد الأوائل كان قد تأسس أيضا على منهج ستانسلافسكي الذي ظل لسنوات المنافس للكثير للمناهج الأوروبية التي ظهرت بعده سواء في المانيا وفرنسا.
فمن هو ستانسلافسكي ولماذا الحديث عنه مهم حتى بومنا هذا؟
استحوذ رواد المسرح في الاتحاد السوفييتي السابق وخاصة ستانسلافسكي في منهجيه (التمثيل والإخراج) على اهتمام معاهد المسارح العربية والأجنبية، كما تأثرت به مؤسسات فنية في كل من أوروبا وأميركا وخصصت بعض المعاهد جزءا من تدريسها لتقنيات منهجه وطريقة تطويرها وخاصة في مجال “ستوديو الممثل” خصوصا في أميركا على يد كل من “إيليا كازان” و “لي ستراسبورغ” إلى جانب العديد من الفرق المسرحية في العالم.
وكان كونستاتين ستانسلافسكي (1863 – 1938) قد ترك لنا إرثا عظيماً حول تجربته الشخصية في إعداد الممثل، ففي كتابه “إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية” الذي ترجمه شريف شاكر وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حاول تدوين ملاحظاته الشخصية حول معهد الدراما الذي تخيله وسجل تلك الملاحظات على شكل دفتر مذكرات نظمه الطالب نازفانوف، واحتوى الكتاب على مجموعة كبيرة من الملاحظات التي يجب أن يتحلى بها الممثل ليصبح جاهزاً لعروض الخشبة.
وكان الساجر خلال فترة تدريسه للسنوات الأربع الأولى في المعهد يقوم بمجموعة من التدريبات مع طلبته مطبقا منهج ستانسلافسكي، واكتشف أهمية ذلك المنهج في تطوير المدرسة المسرحية العربية فقام لاحقا بالحصول على درجة الدكتوراه في “منهج ستانسلافسكي وتطوير المدرسة المسرحية العربية”، ورغم أن ذلك المنهج لم يعتمد كمادة تدريسية بشكل رسمي في المعهد، إلا أنه كان ينتقل من أستاذ إلى آخر بالتأثير والاقتناع من خلال التجربة العملية.
لم يكتف الساجر بكونه أستاذا في المعهد العالي للفنون المسرحية، بل كان أيضا صاحب الأيادي البيضاء على بعض النجوم الذين تعاون معهم من مسرح الجامعة، أمثال الفنانين رشيد عساف سلوم حداد عباس النوري بسام كوسا وغيرهم، بمعنى أن الجيل الأول من روّاد المسرح وبالتالي الدراما قد تتلمذوا على يديه وفق منهاج إعداد الممثل الخاص بستانسلافسكي.
في مقدمة رسالته في الدكتوراه يستشهد الساجر بكنييل التي ترى في منهج ستانسلافسكي “ليس مجرد نظرية علمية لفن التمثيل تكشف أمامنا القوانين الموضوعية للكلام المسرحي فحسب، بل هو أيضا نظام جوهرة أن الكلام المسرحي هو الفعل الرئيسي، لذا فهو يخلق سلسلة منسجمة من الأساليب والمهارات التربوية التي تجعل الممثل يمتلك بوعي كلمة الكاتب فيجعلها فعالة ومؤثرة وموجهه لهدف أو غاية وممتلئة بالحياة”(كنييل, أو. كلمة في إبداع الممثل، الطبعة الثالثة، موسكو: 1970، ص 9).
فالساجر كان يرى أن الاهتمام الرئيسي في معاهدنا المسرحية العربية “كان ينصبّ على المقررات النظرية ( تاريخ المسرح، والكتابة المسرحية، وعلم الجمال، وعلم النفس، واللغات الأجنبية وما شابه ذلك) وذلك على حساب المقررات المتخصصة المتعلقة بإعداد الممثل جسديا (الحركات المسرحية ، والرقص، والإيماء والمبارزة)، في حين أن الدروس المتعلقة بفن التمثيل والكلام المسرحي تزاح إلى المرتبة الثانية من حيث الساعات المخصصة لها، أضف إلى ذلك أن هذه المادة الرئيسية تقسم في معظم الأحيان على عدد من المدرسين يتناوبون لتدريسها للطلاب في فترات زمنية معينة، الأمر الذي يؤثر سلباً في إعداد الفنان الذي لا يتلقى أساساً منهجاً موحداً”(الساجر، فواز، ستانسلافسكي والمسرح العربي، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1964، ص117).
كما أن الممثل في المسرح العربي عموماً يواجه مشكلة أساسية وحقيقية ترتبط بمسألة الازدواجية اللغوية الناجمة عن الاختلاف بين اللغة الأدبية لغة النص وبين اللهجات المحلية، الأمر الذي يضع بينه وبين اللغة حاجزا نفسيا وخاصة حين الرغبة بالتعبير فتعجز لغته عن التعبير عنه وتعيق بشكل كبير عملية إعداده كممثل وتؤثر سلباً على إبداعاته المسرحية، لذلك يرى الساجر أن الحل لهذه القضية أو العقدة يكمن في استخدام منهج ستانسلافسكي الذي يهتم بالتواصل والتكييف.
ولحل تلك النقطة بالذات استخدام الساجر طريقة التحليل بالأفعال في الظروف المحلية، ووجد أنه عليه أن يرتبط ارتباطا تنظيميا أكثر عمقا والتصاقا بتدريس مقرر اللغة العربية (قواعد النحو والمعاني وقواعد اللفظ)، لأن معرفة اللغة معرفة جيدة يشكل عنصر أساسي في إبداع الممثل، “يجب أن يعرف الممثل لغته معرفة تامة، فما نفع المعاناة إذا كان التعبير عنها سيتم بلفة رديئة على المنصة” (ستانيسلافسكي ك. س. المؤلفات في ثماني مجلدات، موسكو، إيسكوستفو، 1954 – 1966).
وكان الساجر كما ذكرنا سابقاً، قد استشهد في رسالته بمجموعه من التدريبات التي كان يجريها على طلبته في كل عام دراسي بدءاً من السنة الأولى، فيجعل المتدرب يتماهى مع اللغة مهما كان شكلها أدبياً أو شعرياً أو عامياً، بحيث تصبح الشخصية جزءاً منه، وهو التدريب بالذات الذي جعل الممثلين السوريين ينجحون في أداء الأدوار التاريخية بشكل كبير.
كما ركز الساجر على فن الإلقاء، مشيراً إلى أن إعداد الممثل قبل ستانسلافسكي لم يكن ليعطي هذا الفن أهميته، فثمة الكثير من المخرجين العرب يتبعون الأسلوب التقليدي في إعداد النص، وتوجيه الممثلين في بروفات الطاولة نحو لغة صوتية محددة للعرض، بينما البعض الآخر يفعل العكس ويعطي وقتاً أو جزءاً كبيراً من الوقت لتحفيظ النص والتدريب على النطق، كما كان يفعل على سبيل المثال المخرج السوري محمد سعيد جوخدار، وهذه الطريقة بدورها تؤثر كما يقول الساجر على أفكار الشخصية المصورة في النص، وعلى عواطفها وأهدافها، وبدلاً من أن يشتغل الممثل في مسألة “الفعل بالكلمة” يشتغل في الخطابة، وإلقاء النص إلقاءً شكلياً “الأمر الذي بدوره يقتل خيال الممثل، ويمنعه من الفهم، وبالتالي تحقيق الانسجام الحقيقي”(شعراوي- يا، من مفكرة المسرح العربي، القاهرة: مطبوعات الجديد، 1972، ص72)، ولذلك فإن تطبيق منهج ستانسلافكسي عبر التحليل بالأفعال، أي تحليل المسرحية والدور بالأفعال، يساعد في المعالجة العضوية لنص الكاتب حيث يهتم الممثل منذ البداية اهتماماً كبيراً بالأفكار والأفعال التي في الدور، ولا يكتفي بحفظ النص وإنما يندمج كلياً بالعرض، ويقدمه دون تكلف، وهذا يبدو جلياً في أداء الممثلين السوريين لدرجة تصبح الشخصية جزءاً من كيانهم.
واعتبر الساجر أسلوب تحليل المسرحية والدور بالأفعال مواصلة طبيعية لمبادئ “الواقع الموضوعي” للإبداع المسرحي وقوانينه، وتطويرا لجميع عناصر نظامه، ويمكن من خلالها تجاوز كل الجوانب السلبية في الأسلوب القديم للتدريب، وفي مقدمتها عطالة الممثل وسلبيته أثناء التدريب (مرحلة بروفات الطاولة) بسبب هيمنه المخرج عليه، وإعطائه التوجيهات والتعليمات التي تقيد الاستقلالية الإبداعية، أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة المركبة متعددة الجوانب، التي صاغها ستانسلافكسي، تقوم على أساس الربط الوثيق بين عواطف الممثل وأفعاله، بين عقله وقلبه، بين روحه وجسده، منذ الدقائق الأولى في إعداد الدور.
أما النقطة الثالثة التي اعتمدها الساجر في إعداد الممثل فتعلقت بالارتجال، فعن طريق ارتجال الأفعال والكلام يندمج الممثل في جوّ الدور إلى حد يشعر معه أنه أدرك العالم الجديد الذي يتطلب معه البحث عن وسائله التعبيرية في ذاته وإخراجها، مؤكداً على أن الارتجال يجب أن يتم أثناء البروفات، وليس خلال العرض كما يعتقد البعض، ويحدد أحداث المسرحية وغايتها والعلاقات بين الشخصيات وطبيعة الصدام القائم بينها، وخط فعل كل شخصية، ثم يجري الارتجال على أساس السلوك ومنطق التفكير المدروسين، وهذا بالضبط ما طبقه الدكتور جواد الأسدي في عروضه المسرحية، وخاصةً التي قدمها مع طلبة المعهد في دمشق وأساتذتهم لاحقاً. يقول الأسدي “إعداد الممثل لستانسلافسكي هو مصدر من المصادر الراسخة في يوميات بروفاتي، لكن كنت دوماً أحفر داخل بنية تعاليمه للوصول إلى إشارات وعلامات حداثية في بناء عمل الممثل، فعلى سيبيل المثال أكرّس تلك الخلطة السحرية بين ستانسلافسكي وبين الروح الجيكوفية التي تقوم على الأداء الفلسفي النفسي في عمل الممثل، وفي نفس الوقت أتبع إحساسي في إدارة وإعادة معالجة التمثيل وروح الممثل”(الجيكوفية بحسب الدكتور جواد الأسدي: هي التمثيل الماورائي، والأداء البارد المحمول على نار ترتقي وترتفع تدريجياً للوصول إلى ذروات التمثيل الحار، وهذا الشكل من التمثيل هو عكس التمثيل البروبوغاندي المعلن والصريح الذي تكرسه مدرسة المعاناة الستانسلافسكية. ورد ذلك في حوار أجريته مع جواد الأسدي عبر الماسنجر بتاريخ 15/9/2021).
ويتيح تنفيذ المشاهد بكلمات مرتجلة، كما يرى الساجر، إمكانية أن يغوص الممثل كليةً في عالم الفعل، فيبلغ جميع عناصر الإحساس الفيزيائي الداخلي بالذات، وهو ما يجعل الاهتمام الأساسي منصباً باستمرار على فهم أفكار الكاتب، والدخول الى جوهرها الفعّال ومنطق تطورها، وهكذا يقدم الممثل مشهداً تلو الآخر، ويغوص تدريجياً في جو أفكار الشخصية، ويمتلك منطق سلوكها، ويتفهم البواعث التي تجعل الشخصية تنطق بهذه الكلمات، وبتلك الطريقة يقترب الممثل من صيغه التعبير التي اختارها كاتب المسرحية، يقول ستانسلافسكي “لدرجة تغدو كلمات الدور الغربية ضروريةً، قريبةً، حميميةً، وكأنها كلماتي الخاصة، وهي من تلقاء نفسها تطالب بنطقها”( شعراوي يا، المرجع السابق، ص83)، فعلى سبيل المثال لو كانت المسرحية مكتوبةً بلغة شعرية أو بلغة عربية فصحى وصعبه بعد الارتجال لن يكون هناك فارق كبير بين لغة الممثلين ولغة شخصيات الكاتب، وتظهر هذه النقطة جليةً في التلون الذي يملكه أغلب الممثلين السوريين، وفي قدرتهم على الانتقال من دور إلى آخر بكل سلاسة ورعونة، تيم حسن وقصيّ خولي نموذجاً.
عن ذلك يقول الأسدي، الذي عمل سنوات مع طلاب المعهد في سوريا “الممثلون السوريون موهوبون في تحويل الجانب النظري إلى تطبيقات عبر الشخصيات التي يلعبونها، لديهم ثقافة وشغف، وهذا يعتبر أمراً له أهمية مفصلية” (الاسدي، المرجع السابق).
كما يرى الساجر أن فكرة الارتجال تمنح الممثل القدرة للدخول في الشخصية من خلال ما وراء النص، لا من خلال القراءة الحرفية، لدرجة “يصبح همه الأساسي وباعثه الرئيسي هو ماذا أفعل في الدور، هنا، اليوم، الآن، لا، ماذا أقول على لسان الشخصية، كما يحدث في بروفات الطاولة التقليدية”( شعراوي- يا، المرجع السابق، ص87).
أما آخر نقطة ركز عليها الساجر في منهج ستانسلافكسي فهي المعايشة التي ترجمت في مرات عدة عن الروسية بالمعاناة، والتي يرى الساجر أنها من أهم عيوب الممثل العربي “لأنها تركز فقط على تصوير عواطف الشخصية ومشاعرها الداخلية فقط، وتضخّم جانبها النفسي بحجة الكشف عن حياة النفس البشرية، لدرجة يصلون إلى حد تدمير الوحدة الدياليكتيكية بين ما هو نفسي وما هو فيزيائي في إبداع الممثل”(المرجع السابق، ص 90).
انتهج معظم أساتذة المعهد، الذين تتلمذوا على يد الساجر، نهجة في إعداد الممثل المرتكز على ستانسلافسكي، ولكن كل بحسب فهمه وإدراكه لأهمية ذلك المنهج من وجهة نظره، ويعتبر فايز قزق واحداً من أهم الأساتذة المستمرين حتى يومنا الحالي في تخريج الدفعات، والذي كان منذ العام 1994 مهتما باختبار مفاهيم نظرية ستانسلافسكي لتطوير التوجيه مع طلاب المعهد، وعجنها العجينة الذاتية، وليس فقط مجرد نقلها نظرياً من كتاب ستانسلافسكي إلى طالب عبر وسيط هو المدرب، يقول قزق “كنت أرى أن المدرب يجب أن تكون له بصمته ومعرفته وقدرته على فهم ما يمكن أن يكون أبعد من ستانسلافسكي، الذي توفي في 1935، فالعالم تغير وبطبيعة الحال النظريات تغيرت وتطوّرت، كما أنه وأثناء وجودي في المعهد قمت بتدريب الطلبة على “مختبر الارتجال” الذي لم يكن من مقررات المعهد، وذلك عبر مسرحية “النو”، ومنذ ذلك العرض وحتى اليوم قدمت ما يقارب ثمانية مشاريع تخرّج بنفس الطريقة، كان أحدثها مشروع تخرج بعنوان “شارة” الذي أعتُبر أول مشروع تخرّج يعتمد على الارتجال.
وقزق، على سبيل المثال، لا يعتبر منهج ستانسلافسكي مقدساً، رغم أنه يتحدث عنه مطولاً مع طلبته، ويحثهم على قراءته، والاطلاع على نظرياته كخزين لتأسيس القاعدة الأساسية التي يمكن من خلالها الانتقال إلى قواعد أخرى، ولكن أكثر ما يهمه أثناء التدريب هو البحث عن جوهر الإنسان في الطالب والانطلاق من خزين الطالب، بدلاً من أن يكون كأستاذ مجرد جسر ومعبر لنظريات الآخرين فهو يخشى احتلال الآخر لنا وجدانياً ونظرياً.
بعد كل ما سبق يتضح لنا أن إعداد الممثل في سوريا، الذي بدأ مع مؤسس المعهد فواز الساجر والمستمر حتى يومنا الحالي، والقائم في جزء كبير منه على منهج ستانسلافسكي، هو أساس نجاح الممثل السوري وتميزه.