في متاهةِ أبي العلاء
قبل أن يخصّص عبدالفتاح كيليطو كتاب “أبوالعلاء المعري أو متاهات القول” (دار توبقال، الدار البيضاء، 2000) لهذا الشاعر العربي الذي عاش بين القرن العاشر والقرن الحادي عشر الميلاديين، أفرد مكانة كبيرة للأديب الجاحظ من القرن التاسع الميلادي في كتاب آخر عنونه بـ”الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية”، (ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، دار التنوير للطباعة والنشر ببيروت والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، الطبعة الأولى 1985). كما جاءت روايته المنشورة حديثا بعنوان “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” (منشورات المتوسط، إيطاليا، 2021) لتحتفي بأبي حيان التوحيدي، أبرزِ كُتاب وفلاسفة القرن العاشر الميلادي..
لكن ما الفائدة من قراءة القدماء؟ سؤال سبَقنا إليه الكاتب عبدالفتاح كيليطو في كتابه “في جوّ من الندم الفكري” (منشورات المتوسط، إيطاليا، 2020)، وخصصّ للجواب عنه فصلا عنونه “لهذا نقرأ الأدب الكلاسيكي” (نفسه، ص.59)، موضّحا الواجب قراءته من الأدب العربي ومؤلفاته الأساسية التي لا غنى عنها والتي لا يجوز للأديب المبتدئ أن يتجاهلها؛ لأنه بالاطلاع عليها يطوّر معرفته باللغة وبالأدب وبفن الكتابة، وبالتقصير في قراءتها يغدو أديبا ناقصا.
في الفصل نفسه من الكتاب سالف الذكر، يحكي لنا كيليطو قصة لقائه بالأدب العربي في المدرسة، وهو ما يسميه لقاءً مع اللغة العربية، وأول خطوة في حقل الأدب.
لقد تلقى كيليطو، وعمره عشرُ سنوات أو إحدى عشرة سنة، أبياتا شعرية مبهرة لأبي العلاء المعري من ديوانه “سَقْطِ الزَّنْد”، وجُلها أبيات مُختارات قدّمها المعلمون للتلاميذ كمثال يُحتذى به، دالةً على فخر وسمو الشاعر المعري القائل معتدا بنفسه: “وقد سار ذكري في البلاد، فمن لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل”.
والقائل أيضا:
“وإني وإن كنت الأخير زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائل”.
وكما أتى المعري في زمانه بفن شعري أصيل وجديد، سابقا أسلافه بمعنًى ما، فكيليطو يرى “من واجبنا أن نعتني بمن سبقونا، بأسلافنا… أكبر احترام لهم ألا ننساهم وأن نستمر في الحديث إليهم” (في جو من الندم الفكري، م. س، ص 65).
بعد هذه التوطئة الموجزة، نعود إلى كتاب “أبوالعلاء المعري أو متاهات القول”. يفسر عبد الفتاح كيليطو عنوانَ هذا المؤلَّف في كتاب “كيليطو موضع حوارات” لأمينة عاشور، قائلا “إن القراءة للمعري عبارة عن سير في متاهة، فلا خيط يهدينا في تقصّي أعماله المتعرّجة، المليئة دروبا مغلقة، وانعراجات مفاجئة، ومسارات مضللة. لا أبواب للخروج: فما إن نتوهم أننا اهتدينا إلى الطريق، حتى نجد أنفسنا في طريق أخرى تسير في اتجاه معاكس، وتؤدي بنا بعيدا. وهكذا، نظل ندور في حلقة مفرغة في مواجهة كثير من العراقيل. في بعض الأحيان، يخلف لدينا المعري الانطباع بأنه يضل هو أيضا الطريق، على غرار القارئ” (أمينة عاشور، كيليطو موضع حوارات، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ص 57، دار توبقال، 2017).
يراود قارئ المعري، حسب كيليطو، انطباع بمتابعة تقلبات فكر منفتح على جميع الافتراضات؛ فهو شاعر في توتر دائم، وصراع مستمر بين منزعين متناقضين هما الرغبة في الكلام والرغبة في الصمت.. لا نجد عند المعري حنينا إلى ماضيه، ولا توقا إلى آتٍ محتمل، هو شخص ضرير، نباتيُّ الطعام، مائل إلى كره البشر، مترفّع عن التكريمات، رافض للعطايا والهدايا والصلات، يعيش منزويا في بيته، منعزلا عن العالم، منطويا على نفسه، يكره إنجاب الأطفال ولا يغفر لوالديه جناية ولادته.
يقول كيليطو في فصل “الفستق” من كتاب “أبوالعلاء المعري أو متاهات القول”، “طيلة حياته لعب المعري بفستقة، ظل يقلبها ويديرها بين أصابعه متسائلا هل تتضمن ثمرة أم لا؟” (عبد الفتاح كيليطو، أبوالعلاء المعري أو متاهات القول، ضمن حمّالو الحكاية، الأعمال الكاملة، الجزء الرابع، ص.103، دار توبقال للنشر 2015).
لقد عُرفت بلدة المعرة بجودة فستقها؛ لكن ابنها المعري لم يكن يرى فيه إلا فاكهة للتسلية، لعبة تافهة وأملا خادعا، من يكسر فستقة لا يدري هل هي فارغة أو ملآنة، ومنذ سقطت الفستقة بين يديه وهو في شك وارتياب.
في فصل “جنون الشك” من الكتاب نفسه، يتساءل كيليطو: ما هو يا ترى اعتقاد أبي العلاء؟ متعقبا سرَّه المتماهي مع حقيقتِه التي يرفُض الكشف عنها (نفسه، ص 119).
يقول المعري (973 م – 1057 م) في ديوانه اللزوميات: ولدَيّ سرّ ليس يمكن ذكره يخفى على البصراء وهو نهار.
كتابات المعري معقدة وقابلة لتخريجات وتأويلات عديدة، وهي كتابات يصعب على قارئها أن يتبين من الكلام الوارد فيها ما يؤكد أو ينفي مزاعم خصومه وتهمهم وأحكامهم؛ فهم ما فتئوا يحْمِلون كلام المعري على غير المعنى الذي قصده مهما احترس من سوء فهمهم له، وما انفكوا يتحاملون عليه برميه بالزندقة والإلحاد وسوء العقيدة ولتحقيق غايتهم عمدوا إلى وسيلتين هما: الانتحال والتأويل المتعسّف للكلام.
يطلعنا كيليطو على جملة من متاهات القول عند المعري، الشاعر الذي يجد الكلام خطيرا قد يؤدي إلى الحتف؛ فهو يتكون من عبارات مجازية مبنية على الغموض والإبهام، لأن الإفصاح عنده لا يعني بالضرورة الوضوح والشفافية، كما أن اللسان أرعن لا يقبل النصح ولا يستسيغه، حرب ضروس مع ما تجوز كتابته وما لا ينبغي قوله، وهو ما يحول دون فطنة المتلقي إلى صحة تعبير القول عن اعتقاد القائل، وصعوبة إدراك المسافة الموجودة بين ما يصدر عن اللسان وما يعتمل في الطَوية.
إن المعري صاحب الهواجس والأقوال الجريئة والملتبسة يُرى أحيانا مؤمنا يُبطن إيمانه ويُظهر كفره، وأحيانا أخرى يُحوِّل الخطاب إلى لغز يتعذر فكه؛ ما يجعل “نظرية المعري في القول تؤدي في نهاية الأمر إلى التحفظ من كل خطاب، سواء أأنبأ عن اعتقاد صحيح أم عن اعتقاد فاسد” (أبوالعلاء المعري أو متاهات القول، م. س، ص141).
لقد كتب المعري “رسالة الغفران”، واصفا في هذا الكتاب مشاهد من الجنة والنار، مستحضرا الآخرة والمصير بعد الموت ونوع المآل، فردوس أم جحيم، يختلف مأوى الشعراء تبعا لبراعتهم في الشعر أو خلاصا يتم ببيت شعري واحد.
في ما يتصل بـ”رسالة الغفران” نقرأ لكيليطو من كتابه “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”، “إن رسالة الغفران قد أصبحت مثيرة للفضول منذ أن اعتبرت أحد المصادر المحتملة لـ”الكوميديا الإلهية”… إننا نقرأ للمعري وأعيننا على “دانتي”، نبحث عن دانتي في كتاب المعري… ليس بعيدا عن الصواب كل البعد القول بأن المعري قد تأثر بدانتي، حتى وإن كان قد عاش أربعة قرون قبله… إن دانتي قد خدم الرسالة، وأتاح لها فرصة الوجود بأن جعلها مرئية. والأدب الذي لا يستدين أو الذي لم يعد يفعل ذلك أدب محكوم عليه بالموت” (أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية، ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، صدرت ضمن جدل اللغات، الأعمال، الجزء الأول، ص.197، دار توبقال للنشر 2015).