تراثنا المستبد
لا يكاد المستبد يحكمنا فقط، بل هو يقيم في ذاكرتنا، ويرقد في لاوعينا. ويحفل تراثنا العربي بالكثير من المقولات والحكايات التي تكتب سيرة الاستبداد العربي عبر التاريخ. يستوقفنا في هذا الصدد العمل “الجبار” الذي قام به الكاتب العراقي الراحل هادي العلوي، في كتابه الأخير “المستطرف الجديد”. لاحظوا أن ذهني قد انصرف إلى كلمة “جبار”، لوصف هذا العمل، وهي عبارة تؤكد حضور المستبد و”المتجبر” و”الجبروت”، حتى في تعبيراتنا اليومية.
يتقاطع “المستطرف الجديد” مع كتاب قديم لشهاب الدين الأبشيهي، وهو “المستطرف من كل فن مستظرف”. مثلما يتقاطع معه في بعض الفصول التي أورد فيها الأبشيهي قصص الملوك والوزراء والولاة والقضاة العرب.
كانت القراءة السياسية للتراث العربي في تجربة المفكر والمناضل الشيوعي العراقي حاضرة في كتاب “المستطرف الجديد”. وقد غدت طبائع الاستبداد معيار الاختيار في هذا الكتاب، إضافة إلى السخرية من الأنظمة والحكام، باعتبارها مدخلا نقديا في هذه المختارات. ويشدد هادي العلوي على هذا الوعي النقدي الموجه لاختياراته، حين يؤكد “أما معيار الانتقاء فقد سعيت إلى جعله انتقاديا”. وهذا ما لخصته مقدمة الطبعة الأولى، وعنوانها “نصوص تراثية منتقاة بمعيار نقدي معاصر”. وذلك بالنظر إلى “ما يفرضه التراث من امتدادات معاصرة”، كما جاء في مقدمة الطبعة الثانية. أو بالنظر إلى ما تفرضه علاقتنا بالتراث، وأهمية “جعله معاصرا لنا”، كما نادى بذلك الراحل محمد عابد الجابري.
الاختيارات، أو الأنطولوجيا، كما عرفتها حركة التأليف الإنساني، لم تكن تسلم من خلفيات صاحبها وذائقته وتصوراته ومواقفه الخاصة. ولذلك، كانت الإضافة التي يقدمها هادي العلوي ترتبط بالطابع السياسي للنصوص المختارة، والعمق النقدي الذي تتميز به هذه النصوص، وهي تحاول أن تقدم لنا أصول الاستبداد والحكم في التاريخ السياسي العربي.
الفرد والأمير
يمتد الكتاب على مدى 576 صفحة، وهو ينفتح على خمسة أبواب موضوعاتية: باب في السياسة ونحوها، وباب في مواد علمية فلسفية، وباب في مسائل أخلاقية، وآخر في الحب والمرأة، وأخير في المنوعات.
أما السياسي فيحظى عند صاحب هذه الاختيارات بأولويتين، أولوية التقديم، حيث يتصدر باب السياسة هذا الكتاب، وأولوية الاهتمام، حيث استغرق باب السياسة أغلب صفحات الكتاب. وأكثر من ذلك، لم تخل الاختيارات، في الأبواب الأخرى، من خلفية ورؤية سياسيتين لقضايا الأخلاق والفلسفة والمرأة. كما ضم الكتاب مجموعة من الرسائل التراثية النادرة.
في فقرة بعنوان “تشريع الاستبداد”، ينقل العلوي عن ابن الأثير كلمة لعبدالملك بن مروان، يقول فيها “ألا وإني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”. وينقل عن الطبري قول ابنه الوليد “أيها الناس! من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه. ومن سكت مات بدائه”. فهكذا، يتوارث حكام العرب، عند هادي العلوي، قيم الاستبداد والسطوة والسلطان، فمن تكلم ولغا مات بكلامه، ومن سكت مات بدائه.
وعن توارث السلطة والاستبداد، يختار العلوي من كتاب “أنساب البلاذري” فقرة عنونها بـ”ديمقراطية السيف”، عندما عرض معاوية بيعة يزيد ابنه وليا للعهد، “فكثر الأخذ والرد، وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض، فقام واحد وخطب قائلا: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية. فإن مات فهذا، وأشار إلى يزيد. فمن أبى فهذا، وأشار إلى السيف. فقال له معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء”. ومن “تاريخ الخلفاء” للسيوطي، ينقل العلوي عن الخليفة المنصور قوله “إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها، فإن لم تستطع فقبلها”. وإذا كانت تلك صفات الملوك والخلفاء والسلاطين، فقد اختصر الكتاب صفات الوالي في قولة وردت في كتاب “الأغاني” أن الرشيد سأل شخصا عن طباع الوالي الذي يحكمهم باسمه، فأجاب “يقبل الرشوة ويطيل النشوة ويضرب بالعشوة”.
ويبدأ تأصيل الاستبداد في هذه الاختيارات مع قول الثعالبي في “لطائف المعارف” إن “أول ما ظهر من الظلم في أمة محمد قولهم: تنحَّ عن الطريق. يقصد إخلاء الطريق وإيقاف الحركة عند مرور المسلمين”.
القرد والوزير
إضافة إلى هذه الخلفية السياسية التي تحضر في مستطرف هادي العلوي، معيارا للاختيار، تحضر السخرية معيارا آخر، يمنح هذا الكتاب قيم الطرافة والاستظراف، كما استمدها من الأبشيهي، لكن هذه السخرية لا تخلو من رؤية نقدية عميقة، تتسلل إلى نصوص الكتاب، وتتيح لصاحب الاختيار الظهور، بموقفه، وإعلان قيمه وتصوراته، رغم أنه لا يتدخل في النصوص التي يختارها، ولا يعلّق عليها. بل إن هادي العلوي تجنب أيّ تدخل في مادته المختارة، ولو بشرح بعض المفردات، التي ظلت مستغلقة في هذا الكتاب. لكن الاختيار في حد ذاته، وترتيب النصوص ونسبتها ومصدرها، كل ذلك، يكشف لنا موقف صاحب الكتاب وقناعاته. أما السخرية فتصل مداها في هذه الحكاية التي ينقلها من “نشوار المحاضرة” للتنوخي، بعنوان “القرد والوزير”، عن أبي الحسن بن عياش قال “رأيت في شارع الخلد ببغداد قردا مدربا يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازا؟ فيومئ القرد برأسه: نعم. تشتهي أن تكون عطارا؟ فيومئ القرد بنفسه: نعم. تشتهي تكون… ويعدد مجموعة من الصنائع، والقرد يومئ بالموافقة. ثم يسأله القراد: تشتهي تكون وزيرا؟ فيومئ القرد برأسه: لا. ويردف ذلك بالصياح والركض محاولا الهرب”. وعلى قلة المتن الشعري في مختارات العلوي، فإنه يورد بعض الأبيات الشعرية ذات القوة السياسية والساخرة. ومن ذلك، قريبا من الحكاية السابقة، قول شاعر مجهول: اسجد لقرد السوء في زمانه/ وداره ما دمت في سلطانه.
وثمة مدخل آخر من المداخل التي كشفت تدخل العلوي في هذه الاختيارات، وحددت معايير اختياراته في هذا المستطرف. يتعلق الأمر، هنا، بالعناوين التي وضعها على رأس كل قولة يختارها، أو حكاية يستقيها، أو رواية يوردها من التراث العربي. وهي عناوين بالغة التعبير عن الموقف من وراء هذه الاختيارات، من قبيل “انتهازيون”، و”مصدر الفساد”، و”نفاق الحاكم”، و”ضد البيروقراطية” و”ضد التعذيب”، و”سلوك الحاكم”، و”الرأي العام” و”مسؤولية الدولة”، و”تأثير الدولة في جهازها”، و”أثر السلطة في الأخلاق”، و”تشريع الاستبداد”…
لا ينفي هادي العلوي هذه الخلفيات في اختياراته، وهذا البعد النقدي الذي يحكم “المستطرف الجديد”، وهو يعلن، في مقدمة الكتاب، مستدركا “ومع أنني لا أريد من هذه القراءات توفير دراسة نقدية لحضارتنا السالفة، فإن الطريقة التي جرى بها اختيار النصوص تتساوق، إلى حد ما، مع أغراض دراسة كهذه”.
ولأول مرة، يتحدث هادي العلوي عن مهام صاحب الاختيارات، بعدما ظل الدرس النقدي حول كتب المختارات متوقفا عند حدود البحث عن معايير الاختيار. فيحدد العلوي دور صاحب المختارات في مهمة “الوساطة” بين التراث والقارئ. لكنه، وهو ينتبه إلى الإضافة التي يقدمها في هذه الاختيارات، على مستوى التجنيس، بتقديم “اختيارات سياسية” غير مسبوقة، يصرّح بأن من شأن هذه “الوساطة” التي قام بها، أن يخرج منها “بحصيلة وافرة من اللعنات تنصبّ عليّ من فريقي الشتم والثناء. لكنها على أية حال ثمن التورط في تراث حضارة هي من أكثر الحضارات إثارة للجدل”، تنتهي مقدمة هادي العلوي، لتبدأ اختياراته السياسية، الجديرة بالقراءة لتركيب صورة عن السياسة والسياسي في التراث العربي، ولاستكمال فهم تجربة أحد أكثر المثقفين الماركسيين العرب إثارة للجدل أيضا، كما تعكس ذلك كتاباته السابقة، منذ كتابه “شخصيات غير قلقة في الإسلام” و”من تاريخ التعذيب في الإسلام”، و”الاغتيال السياسي في الإسلام”، وكتاب “التاو”…
عندما دفن هادي العلوي ذات خريف من سنة 1997 في مقبرة دمشق اللامتناهية، تقدم الروائي العراقي حمزة الحسن، ودفن معه ورقة كتب فيها “وداعا يا آخر مثقف عراقي أعاد للكلمة هيبتها وجمالها وكرامتها”.