تفكيك التجانس وتفنيد التماسك
نحو مفهوم ثالث
أيُّ مجتمعٍ تحتاج إليه سوريا في المستقبل؟ ما هي المقومات والأسس التكوينية التي ينبغي على أيِّ مجتمعٍ مُحتمَلٍ في سوريا المستقبل أن يتحلَّى بها وأن يتأسس على قاعدتها؟ ليست تلك الأسئلة بالتساؤلات التنظيرية الفكرية الصرفة التي يمكن أن يهتم بها المختصون الأكاديميون وربما المثقفون عموماً بداعي الترف الفكري والتنظير التحذُّري المحض، ولكنها أسئلة تنبع من عمق المأساة القاتمة التي قادت إلى تدمير سوريا الدولة والمجتمع بشكلٍ شبه كامل خلال السنوات الإحدى عشرة الأخيرة.
في ضوء المأساة السورية وتداعيات أحداثها الكارثية والمُفجِعَة، ينبغي أن تبدأ الأوساط المَعنيَّة بالمشهد السوري بالتأمُّل في السؤال المتعلق بطبيعة المجتمع الذي يحتاج السوريون لإعادة خَلقهِ كي تستعيد سوريا وجودها البشري والكياني، خاصة بعد أن راح رأس النظام، الذي أوقع البلاد تحت حزمة من الاحتلالات الأجنبية، يتحدث عن نشوء ما يسميه “مجتمع متجانس” (homogenous society) هو، برأيه، المجتمع الذي “انتصر” على “أعداء سوريا الطامعين بها وعلى السوريين الخَونَة الذين باعوا الوطن وسَيدِه”. من هنا، وانطلاقاً من خطاب مُمَنهَج عن “المجتمع المتجانس”، تبدو الحاجة مُلِّحَة لتسليط الضوء على دلالات هذا المفهوم الذي تمَّ إدخاله منذ بضع سنوات إلى مشهد التفكير والبحث في الشأن السوري ومن ثم تفكيك مدلولات هذا المفهوم ومَعانيهِ وتَبصُّرَ مترتباتِه وإرهاصاتِه المُدمِّرة. من جهة أخرى، هناك أيضاً حاجةٌ لا تقل إلحاحاً للبحث عن مفاهيمَ بَديلة كي تُناهضَ مفهوم “المجتمع المتجانس” وتُقدمَ بدائل مفاهيميَّة يمكن على قاعدتها إعادة النقاش بانبعاث مجتمع سوري جديد لا يكون فريسةَ لأيّ من معاني ودلالات منطق “التجانس” الإقصائي والاختزالي والتصنيفي القروسطي المُغلَق.
***
أتطلع في هذه الورقة إلى أن أسلِّط الأضواء، أولاً، على المنطق الكامن خلف فكرة “المجتمع المتجانس” كما استخدمها بشار الأسد، في خطاباته وأحاديثه العلَنية، وتقديم تفكيك نقدي لمدلولاتها الخطيرة والمدمِّرَة. من ثم سأسلِّطُ الأضواء، ثانياً، على مفهومٍ سوسيولوجيٍ آخر يتم استخدامه بشكلٍ شائعٍ في هيئة الأمم المتحدة ومنظمات العمل المجتمعي والمدني غير الحكومية، وكذلك الأوساط الأكاديمية، يتحدث عن “مجتمعات متماسكة” (cohesive Societies) سأحاول تقديم المكونات الناظمة والافتراضات الفلسفية الكامنة خلف هذا المصطلح البديل، وأنظر فيما إذا كان هذا المفهوم ينجح في المشهد السوري أم لا. سأفعل هذا قبل أن أنتقل، ثالثاً، إلى اقتراح مفهومٍ ثالثٍ سأناقشه في هذا المقال بأنه أكثر فائدة ونجاعة وموثوقية ليكون المنطلق التنظيري والفكري الفلسفي الذي يمكن أن نؤسِّسَ عليه في المستقبل مجتمعاً إنسانيا حقيقياً وأصيلاً. ما سأقترحه هو مفهوم “المجتمع المتناغم” (harmonious society) سأحاول تبيان الفروق المفاهيمية والتفسيرية المفتاحية التي تمايز بين هذا المفهوم وفكرة “المجتمع المتماسك”، ولماذا أعتقد شخصياً أن مفهوم “المجتمع المتناغم” أكثر نجاعة من مفهوم “المجتمع المتماسك”، مع أنني لست معرفياً ولا فكرياً ضد فكرة “المجتمع المتماسك” وأفهم مدلولاتها وغاياتها. أنا أقف بلا تحفظات ضد فكرة “المجتمع المتجانس”، إلا أنني لا أعتقد أن فكرة “التماسك” هي المفتاح المعرفي والتأسيسي المطلوب كي نعيد خلق مجتمعٍ ما في المشهد السوري. ما نحتاجه هو أن نمضي أبعد من التماسك، أعمق من التماسك، نحو “التناغم”. دعوني بدايةً أنظر في فكرة “المجتمع المتجانس”.
المجتمع المتجانس
سبق لي أن كتبت قبل سنوات مقالاً، هو بمثابة رؤوس أقلام لما أكتبه الآن، عن فكرة “المجتمع المتجانس”، ذلك المقال كان تعليقاً على خطاب صدر عن رأس النظام السوري. عندما خرج على من بقي من شعبه داخل البلد بمانيفستو انتصاري يعلن فيه أمام مؤيديه عديمي الحيلة أنه في سبيله إلى تحقيق مشروعه “التقدُّمي” الذي حلُمَ بتحقيقه من أجل خلق سوريا جديدة لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل. اعترف، هو، أو من كتب له “مانيفستو الانتصار”، بأن سوريا فقدت “خيرة شبابها”. إلا أنه عادَ، إلى طمأنة “الخراف الكسيرة” وعديمة الحيلة الجالسة أمامه والمُصفِّقَة له بحماسة، أن خسارة خيرة الشباب ما كانت سوى ثمن ضروري لخلق “المجتمع المتجانس”. فحوى الخطاب المذكور يريد أنَّ “المجتمع المتجانس” هو انتصارٌ للشعب في سوريا، وبأن سوريا بوجوده أفضل بكثير من سوريا قبل الثورة والحرب.
يخبرنا التاريخ أن فكرة المجتمع المتجانس (Homogenous Society) ليست من اختراع طاغية يعيش في الألفية الثالثة، بل هي فكرة انتشرت وسادت في العديد من الدول والمجتمعات البشرية التي تعيش في ظل أنظمة توتاليتارية مؤَدلَجَة تخضع لسلطة حكمِ حزبٍ عقائديٍ واحد، أو حكمٍ دوغمائي عسكري أو مدني تَسلُّطي. ويتم عادةً استخدام مصطلح “مجتمع متجانس” في إطار السياسات الشُعبويَّة التوجُّه التي تطبقها تلك الأنظمة التوتاليتارية على شعوب بلدانها. حين يتم استخدام مصطلح “مجتمع متجانس” في إطار الفِكر الشُعبَوي (populist) المذكور، فإنَّ هذا المصطلح لا يُعبِّرُ فقط عن حالة المجتمع الذي ينتمي أفراده لخلفيَّة إثنيَّة واحدة، بل يتحول إلى تَعبيرٍ يَقترنُ تصنيفياً بفكرتي “الجمهور” و”الصفوة”. فكرة “الجمهور” لا تعني هنا عامة المواطنين الأحرار المُنتمين لأمَّة أو جمهورية أو دولة معيَّنة، وإنما تصبح تعبيراً عن المجموع الذي يدعم طرفاً معيَّناً ويسير خلفه على قاعدة الولاء والدعم وخدمة برنامج وهُوية ومعتقدات وأهداف هذا الطرف الحاكم حتماً ومطلقاً. أما تعبير “الصفوة” فيصبح تعبيراً عن لقبٍ أو صفةٍ تكريمية وتعظيمية يُكافَئ بها الطرف المُهيمِن وموضوع الولاء والتبعية كل الأفراد والأتباع الذين يتبعونه ويطيعونه ويربطون مصيرهم برمّته بوجوده، لدرجة التماهي الكـُلّي مع فهم هذا الحاكم للوجود ونظرته للعالم.
هم “صفوة” أو “نُخبة” لا لتميُّزهِم وقُدراتِهم وكفاءاتِهم ومواطنيتهم النموذجية، ولا حتى لاستحقاقٍ شخصي ما. هم يُعامَلون على أنهم “الصَفوة” لفظياً ورمزياً فقط كنوعٍ من أنواع الرشوة والمكافأة السيكولوجية والعاطفية التي يُسبِغها عليهم وليُّ أمرهم كي يُعميهم عن رؤية الواقع المُزري والتعيس الذي انحدروا إليه بسبب تجانسهم مع رؤيته للعالم. يجعل هذا من فكرة “المجتمع المتجانس” تعبيراً عن جَمعٍ من الناس يُؤسِّسون وجودهم الجماعي والمجتمعي على قاعدة ومبدأ الإقصاء الشديد لكل “آخرٍ” داخلي من خلال إخضاع حياته لسياسة “أَقلَية” (minoritization policy) “مُمَنهجَة، أو “آخرٍ” خارجي من خلال شيطَنته واعتباره عدواً خطيراً ضد تجانس المجتمع.
المعنى الآخر الذي يقترن فيه مفهوم “المجتمع المتجانس” في الإطار الشُعبَوي الدوغمائي هو أنَّ المجتمعات المتجانسة تسود فيها قُدرة مُعتبَرَة على الثقة والاطمئنان. فحَجمُ المجتمع المذكور الصغير وتَنميطيَّة ميول ومعتقدات أفراده وخنوعهم وولائهم الجمعي، أو استكانتهم العَجزيَة والاستسلامية لأولي الأمر، تجعل من السهل السيطرة على المجتمع والتحكُّم بقياده بسهولة تجعل من مسألة الثقة باستكانة هذا المجتمع، وصلابةِ وتَجذُّر نمطيَّته، أمراً يسيرُ التحقُّق وسهلُ القياد. في هذا الإطار، يتمُّ فهمُ الصِلَة بين مسألة “التعدُّد” ومسألة “الثِقَة” وفقَ علاقةٍ تعاكسَّية: كلما كبر حجم المجتمع قلَّت إمكانية التحكم به وتهددت احتمالات تنميطه، وبالتالي صَعُبَ أمرُ الركون إلى الثقة بخنوعه والتحكَّم به.
تثبت الدراسات الميدانية للعديد من دول العالم المُعاصِر ولديناميكياتها السوسيولوجية بأنَّ هذه العلاقة التعاكُسيَّة فرضيَّة خاطئة تماماً، إذ ليس بالضرورة أنَّ التعددية تهدِّد الثقة. ولكن، ومع خطأ الأطروحة المُثبَت، فإنَّ بشار الأسد في سوريا تحدَّث عن المجتمع المتجانس وتَحقُّقِه انطلاقاً من لحظهِ لتناقصِ حجم السكان في سوريا وهبوطه الحاد والكارثي من 23 مليونا قبل الثورة إلى مجرد 6 أو 7 ملايين حالياً واعتباره أنَّ صِغَرَ حجم السكان سيُمكِّنه من التحكَّم به وتَجنسَتِه (من تجانُس) كما يشاء.
أما المعيارُ الذي يتمُ على أساسهِ تحديدُ شروطِ ومعاييرِ الانتماء لهذا المجتمع المتجانس المرجُو فهو معيارٌ هُوويٌ (من هُوية) قَبليُّ الصنع ومُسقَط من أعلى. يقيس المعيار الهُووي المذكور حضور الناس ويُصنِّفُ هذا الحضور “ضِمنَ” أو “خارجَ” المجتمع والدولة والأمَّة على قاعدة تعريفٍ هُووي شمولي جمعي مُسبَق الصنع، يَتمُّ إسقاطه وصَائياً على المجموع من نقطة مَرجعيَّة فوقيَّة تقفُ فيها وتملُكها السلطة. تلك الهُوية المُنزَلَة هدفها الأول، إن لم يكن الوحيد، هو ضبط أفراد المجتمع ضمن إطارٍ صارمٍ من الوحدة والتوحيدية التي تضمن ألا يخترق أيُّ شيءٍ جدار التجانس الصلد. يبني إطار التوحيدية المذكور استقرار المجتمع على توقُّعات وممارسات شعبية شائعة يتم فرضها باسم المسؤولية المجتمعية والالتزام الوطني.
استلهام التجانس النازي
لعل من أشهر الأمثلة الحيٍّة عن تطبيق منطق “المجتمع المتجانس” في العصر الحديث هو النموذج الذي شهده العالم في ألمانيا ما بين الحربين وأثناء الحرب العالمية الثانية. في ثلاثينات القرن الماضي، حين وصل الحزب النازي إلى سُدَّة السلطة في ألمانيا، كرَّرَ رأس السلطة في الحزب وفي الدولة النازية الجديدة، أدولف هتلر، في أكثر من خطاب أفكاره الفلسفية حول معنى مفهوم “الأمة” وفكرة “الشعب النقي”. متأثراً بقراءات خاطئة وملتوية بعمق لأفكار هيغل ونيتشه والفكر الليبرالي الرومانسي الألماني في القرن التاسع عشر، نظَّر الفوهرر بحماس لفكرة “العرق النقي” مُقدِّماً عملية إحيائه والسماح له بالتجسُّد مكانياً وزمانياً ومجتمعياً على أنها السبيل الأول والأنجع لبناء مجتمع التفوق والتقدم والازدهار. تحدث هتلر عن ضرورة تنقية المجتمع الألماني من تلك الشرائح المجتمعية التي لا تساعد على خلق “مجتمعٍ متجانسٍ” وبناء ألمانيا الجديدة. عمَّمَ هتلر هذا الخطاب في كافة أنحاء ألمانيا النازية وعاقبَ وتخلَّصَ من كل من خالفه واعترض عليه، مُسبِّباً في النهاية لا مجرد حرب عالمية قادت إلى موت عشرات الملايين على امتداد أوروبا، بل واقترف واحدة من جرائم التاريخ البشري الفظيعة من خلال محارق تصفية عرقية لكل ما هو غير آري على سبيل “تنقية مجتمعية لخلق التجانس”، كما عبر عن ذلك التجانس غوبلز في أحد خطبه في جامعة هايدلبرغ.
ما شهدناه في الحقبة النازية في النصف الأول من القرن العشرين، هناك من يبدو عازماً على تطبيقه في القرن الحادي والعشرين! ففكرة “المجتمع المتجانس” التي يسوّق لها في سوريا تفترض أن المجتمع مكوَّن من جماعات وأفراد تتبع منطق فهم الذات نفسه، وتؤمن بالمعتقدات والأيديولوجيات والطروحات نفسها، وتتمثل الثقافة نفسها، وتعرِّف نفسها وانتماءها للمجتمع بدلالة مشروطات الطاعة والولاء الأعمى والخضوع التام والتماهي الانصياعي الكـُلّي مع مصدر السلطة ورأسها والحاكم. هكذا قام النظام الهتلري بـ”تَجنـَسَة” المجتمع الألماني من خلال إبادة كل من لا ينتمي للعِرق الآري وكل من لا يعلن الولاء والانصياع الكلي للأيديولوجيا النازية. واليوم، حسب “المانيفستو االتجانسي السوري” ثمة دعوة للمجتمع نفسه وفق المنطق التنميطي المسمط والشمولي المُدمِّر والعُنصري نفسه، مسوَّقاً على أنه ما تاقَتْ إليه سوريا وها هي تفوز به لتصبح أفضل مما كانت عليه.
ها نحن، إذن، اليوم، ومعنا التاريخ نشهد ولادة سلوك هتلري في العالم المعاصر، مادام العالم (كما نرى جميعاً) لم يعد يهتز لرؤية حاكم مستبد قتل ودمّر وشرّد وأخفى مصير ثلثي شعبه، وارتد بالبلد إلى عصر ما قبل- المدنيَّة وما قبل – المُجتمَع، وارتكب أفظع الجرائم والانتهاكات غير الإنسانية لكل ما هو بشري، ولمدة عشر سنوات كاملة؛ لم يعد العالم يكترث في أن يردد تلميذ لهتلر خطاباً محشواً بأفكار نازية اعتقدنا، جميعنا، أنها بادت. إنها لمفارقة!
مجتمع الجزر الناجية
بأيّ “مجتمع متجانس” يبشِّر حاكم في بلد فوضوي لم يَعُد فيه “مجتمع” ولا أيّ تَموضُعٍ بشري سوسيولوجي ينطبق عليه أيّ عنصرٍ من عناصرِ تكوينِ وبنية وماهية “المجتمعات” كما نعرفها ونتعلم عنها وندرسها ونختبرها؟ أيّ “مجتمع” نتحدث عنه في سياق بشري لم يخسر فقط كافة شبكات التعاضد والتواصل والتعايش المجتمعي بين شرائحه وجماعاته وفئاته، بسبب خطاب كراهية وتشكيك وانقسام وعداوة وقتال دموي طائفي وسياسي وديني وعقائدي وسوسيولوجي وثقافي وأيديولوجي، بل خسر أيضاً الجزء الأكبر من بنيته البشرية المكوِّنة والمؤسِّسة، في ظل موت ما يقارب المليون مواطن سوري، وتشرُّد وتهجير واقتلاع ما يقارب الستة عشر مليون إنسان من أرضه ومن بيته، داخلا وخارجاً، وفي ظل تدمير ما يقارب ثلثي البنية التحتية والمَدينيَّة لكافة المدن السورية (مواقع تموضع وبناء وخلق وعيش “المجتمعات” عادة) وفي ظل انتهاك البلد واحتلالها من قبل أكثر من خمسة جيوش أجنبية غريبة وإدارتها المباشرة والتنفيذية من قيادات روسية وإيرانية، وفقدان الأمة السورية لأيّ سيادة وكرامة وكيان متماسك ناظم جمعي يُعرِّفها، وفقَ أيِ مفهوم علمي موضوعي قاعدي لفكرة “مجتمع” ولمفهوم “اجتماع بشري”. ثم، عن أيّ “تجانس” مجتمعي نتحدث في ظل واقع مأساوي تدميري لا يمكن لأيّ مفهوم أو نموذج من نماذج التجانس أن تتحقق فيه؟
أيّ “تجانس” مجتمعي في ظل موت حالة “المجتمع” (سوريا فيها “تجمُّع” ناجين وليس “مجتمع”) وغياب الحس والضمير والمعيار الأخلاقي الجمعي والسيوسيولوجي في عقول ونفسية وسلوك ورؤى السوريين الباقين (معظمهم مضطر، وعلى رأسهم مؤيدو النظام التوَّاقون لمغادرة جنة “المجتمع المتجانس”، والذين بات الكثير منهم قبل سواهم “لاجئاً” مزعوماً في بلاد العالم) في الأرض السورية. ما لدينا في الجغرافيا السورية اليوم هو عبارة عن جُزُر وتشرذُمات بشرية متفرقة لجمع بشري مُتفكّك ومُتشظّ ومتنافر، كلُّ هَمّهِ وهاجسهِ النجاة من الموت والحرب، والاستمرار بأيّ شكلٍ من الأشكال، بما في ذلك عن طريق الخنوع والصمت.
عن أيّ مجتمعٍ متجانسٍ نتحدث في ضوء غرق الإنسان السوري الأسير في دوَّامة الوجود الفردي الأَنَوي (“أنا وبعدي سوريا برمّتها”) والانهماك بالذات، وعدم الاهتمام بعد الآن بالآخر ومصيره، وحياته معي أو وجوده حولي؟ أيّ “تجانس” هذا نَتوهَّمهُ في ظل واقع سوري مأساوي مدمرَّ يحتاج إلى عقود طويلة من إعادة بناء وتكوين، بل “وخلق من عدم”، لإنسانية الفرد ولبشرية الجماعة، ولحالة العيش كمجموع، ولبنية الأمَّة، ناهيك عن إعادة بناء بلد من الصِفر، برعَ النظام صاحب نظرية “المجتمع المتجانس” في تدميره وإفناء نبضه الإنساني.
المجتمع المتماسك
في مقابل صوت النظام الداعي لمجتمع متجانس، تقدم لنا أصوات فكرية وثقافية ناشطة في مجال العمل في الحقل الأكاديمي الخاص بالعلوم الاجتماعية، وفي الحقل الميداني غير الحكومي، المعنيّ بمسائل حل النزاعات وبناء السلام في الدول المنكوبة بالحروب، فكرة بديلة عن بناء المجتمعات تنادي بـ”المجتمع المتماسك”. فكرة المجتمع المتماسك (Cohesive Society) ترفض فكرة التجانس النمطية الشمولية المذكورة في الأعلى وتدعو إلى لحظ الاختلافات والتعددية في قلب المجتمع الواحد، وبين أفراد مجموعاته، ولا تنكرها. لهذا فإنها تنطلق من منطق “الاتحاد” و”الوحدة” وليس “الواحدية”. إلا أنها تدعو الأفراد لتحقيق الوحدة المنشودة بالتعالي فوق الاختلاف والتعدد، وتحويل التنوع إلى وسيلة لهدف أهم منها وأسمى وأكثر مرجعية، ألا وهو الاتحاد القوي والمتماسك بين الأطراف المتعددين والمختلفين.
يحظى مفهوم “المجتمع المتماسك” (cohesive society) باهتمام متزايد ويشكِّل موضوعً يتنامى النقاش حوله في أوساط العلوم الاجتماعية. يميل قسم كبير من الباحثين الاجتماعيين للاعتقاد بأنَّ المجتمعات المتماسكة تتمتع بمواصفات أفضل من سواها للعيش والوجود البشريين. وبالرغم من تقديم علماء الاجتماع لتعاريف متفاوتة للمجتمع المتماسك، إلا أنهم يتفقون على أنَّ هذا النوع من المجتمعات يمثِّل ظاهرةَ عملٍ جماعي كفيلٍ بأن يحافظ على وحدة وتناغم المجتمع. خلافاً لمفهوم “المجتمع المتجانس”، يعتقد العديد من مؤيدي مفهوم “المجتمع المتماسك” بأنَّ التعددية لا تهدِّد المجتمع، بل وربما هي أحد أسباب خلق التماسك في المجتمع، والسبيل إليه. فتنوع الخلفيات الإثنية والثقافية والاقتصادية والدينية لأفرادٍ يعيشون في مجتمعٍ واحدٍ يصبح حافزاً لهؤلاء الأفراد، كي يتعلموا كيفية العيش مع الآخرين المختلفين، في حالة تسامح وثقة متبادلة، وبالتالي في تواصل وتفاعل إيجابيين بين بعضهم البعض.
التنوع والتعدد
من المهم هنا أن ندرك أن مؤيدي فكرة التماسك المجتمعي يحتضنون مفهوم “التعدد” ويحتملون التنوع بشكلٍ براغماتي عملاني بالدرجة الأولى، فهم يتخوّفون من ديمومة التعدد وهيمنة التنوع بشكلٍ راديكالي ومُفرَط على حالة المجتمع مما قد يحوّلهما بالنتيجة إلى مصدرٍ لتهديد تماسك المجتمع ولتقويض هذا التماسك. فالتنوع قد يكون أحياناً مؤشراً على غياب العدالة والمساواة والتكافؤ بين الأفراد الموجودين في فضاء مجتمعي ما بسبب تفاوت واختلاف ظروفهم وخلفياتهم. من هنا، يرى بعض المنظِّرين لفكرة التماسك المجتمعي، أنَّ قبول التعدًّد والتنوع ما هو إلا مرحلة أوليَّة للبدء بخلق التماسك المطلوب، ولكنها مرحلة يجب تجاوزها والمُضي نحو مرحلة أعمَق وأهَم، تمثـِّل الذروة القصوى لتحقيق التماسك المجتمعي، ألا وهيَ مرحلة “الوَحدة”، والتي تعني المساواة والتكافؤ والتماثُل الكلي في الحقوق والواجبات، في الفرص والمميزات، وفي الفوائد والمسؤوليات بين جميع المواطنين. “المُتعدِّد” هنا هو السبيل، أو الممر الإلزامي باتجاه ما هو أهم منه وأكثر قيمة، ألا وهو “الواحد” أو “المُتَّحِد”. التماسك المجتمعي يعني الوحدة أو الاتحاد بين متعددي المجتمع، والمساواة الكلية بينهم، بلا شروط ولا استثناءات. من هنا، فإنَّ فكرة التماسك المجتمعي تنبذ “الإقصاء” (exclusivism) الناظم لفكرة المجتمع المتجانس)، وتستبدله بفكرة “الاشتمال” (inclusivism)، وليس فكرة “الشمولية” (totalitarianism) ذات القيمة المركزية في المجتمع المتجانس. يعني الاشتمال هنا حالة من الوحدة أو الاتحاد التكافئي التي يتمتع فيها كافة المواطنين بقدرة واحدة على الاستفادة من كافة فرص وفوائد الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمدنية وسواها.
إنَّ التشديد على فكرة “وحدة / اتحاد – بين- متعددين” في إطار فهم المجتمع المتماسك، يتأسس على قناعةٍ بأنَّ تماسك المجتمعات يتحقق من خلال الوصول لحالة “إجماع” (consensus) بين المتعددين المُتّحدين، شرط أن يتحقق هذا الإجماع طوعياً وبحريةٍ حقيقية من قبل كافة الأطراف، وليس عن طريق الفَرض والإجبار والقسر والتهديد. يُقرُّ الباحثون أنَّ الحرص على الوحدة وتحقيق الإجماع، قد يقودان أحياناً إلى تهميشِ جوانب الاختلاف والفرادة والتطييف (من أطياف) في قلب المجتمع، وإلى التقليل قدر الإمكان من حجم وقيمة وجودها، والدور الذي يمكن لها أن تلعبه في عملية تماسك المجتمع. لا يتم هنا كبتُ تلك الجوانب وقمعُها وطمسُها، بل والانتقام منها، كما نرى في نموذج المجتمع المتجانس سابق الذكر. إلا أنَّ تلك الجوانب لا تحظى بالمركزية، ويتم التعامل معها ببراغماتية حَذِرة، وأحياناً بقلق، خوفاً من أن يشكل انفلاتها عائقاً أمام تحقيق الغاية المُطلقَة العظمى التي تضمن تماسك المجتمع، ألا وهي الوحدة والإجماع. في حضن المجتمع المتماسك، يتم الإعلاءُ أحياناً من شأن الجَامِع على حسابِ المُغايِر، شأنِ وحدة الجماعة على حساب فرادة الأفراد. المتُعدِّد هو أداة في يد الواحد وليس قيمة تكوينية مُعادلَة له بالضرورة وفي المدى الأقصى.
لهذا، مثلاً، تُعتبَر المجتمعات التي تتلقى موجات من المهاجرين قَدموا للعيش فيها (مثل المجتمعات الغربية) مجتمعاتٍ مُعرَّضة للرُهاب من إمكانية فقدان تماسكها المجتمعي. ولهذا يعتقد العديد من أنصار المجتمعات المتماسكة أنَّ مفهوم “الاندماج” (integration) محوري وشرطي في عملية حماية التماسك المجتمعي والحفاظ عليه في المجتمعات المُضيفَة. فَدون الاندماج، يقول أنصار التماسك المجتمعي، لا يمكن أن ينضوي الوافدين الجدد ضمن بوتقة الوحدة الإجمَاعيَّة الموحِّدة للمجتمع المُضيف، ولا يمكن لهم التخلي عن فردانياتهم وتبايناتهم الغيرية من أجل خدمة وحدة وإجماع المجتمع المضيف والتحول إلى مواطنين يحققون التماسك ولا يتسببون بتفككه. تصبح هنا فكرة الوحدة الإجماعية لا شرطاً للحفاظ على التماسك فقط، بل والمؤسِّس الناظم لتشكيل الهُوية المجتمعية والوطنية والدولتية.
الهوية الجامعة
يأخذنا هذا إلى العلاقة الوثيقة لفكرة المجتمع المتماسك بمفهوم الهُوية الواحدة الجامعة. تقول تلك العلاقة إنَّ تماسك المجتمع يتم بدلالة خلق هُوية واحدة موَحِّدَة جامعة مُجمَع عليها، وإنَّ هذا التماسك يتهدد تماماً إذا ما سمحنا لتعددية وتنوع وفرادة أطياف وجماعات المجتمع المذكور بأن تلعب دوراً في خلق هويات متعددة، لا توحِّد بل تُغاير، ولا تجمع بل تُباعِد. يصبح التماسك هنا تعبيراً مَطلَقاً عن الهُوية الواحدة.
وإذا كانت الحريَّة والتعدُّد والمُغايَرة هي أعداءُ المجتمع المتجانس، فإنَّ الهُويَة المُلوَّثـَة غير النقية مُجتمعياً ودولتياً تُعتَبَر عند عددٍ من الباحثين أحد المزالق أو المخاطر التي يمكن أن تقع فيها، أو تنزلق إليها المجتمعات المتماسكة. فمن أجل تحقيق تماسك مجتمعي، تحاول تلك المجتمعات أن تحافظ على التعدد والتنوع، ولكنها تتيح لهما الوجود بصورةٍ لا تسمح لهما بأن يهدِّدا الإطار الذي يخدم تحقيق الوحدة الوطنية وضمان الإجماع الهُووي. ولعل هذا المنطق هو أحد أهم المفاتيح الهرمنيوتيكية المطلوبة لفهم الرَيبَة، بل والخوف، في اللاوعي الغربي تجاه الإسلام والمهاجرين المسلمين. فالخوف المذكور، برأيي، ليس دينياً أو لاهوتي القِوام، بل هو مُجتمعي وهُووي. فالمجتمعات المتماسكة تتأسس، كما بينت، على قاعدة الإجماع الوطني على هُوية موَحِّدَة يقوم المُتعدِّد فيها بخدمة الاتحاد، ويَقبَل أن يأتي بعدَ الأخير في الأهمية. ولأنَّ الغرب يرى في الإسلام عنصراً هُووياً مُخالفاً للجذر الهُووي المُكوِّن للبُنى المجتمعيَّة الغربيَّة (العنصر المسيحي – اليهودي – اليوناني)، فإنَّ الخوفَ من الإسلام ما هو سوى تعبيرٌ عن خوفٍ على تَضعضُعِ الهُويَّة التاريخية الناظمة لوَحدةِ المجتمعات الغربيَّة (بما فيها العَلمانيَّة)، والتي تُؤسِّسُ تماسُكها المجتمعي وتحافظُ عليه بفَضلِها.
الخوفُ، إذاً، ليس من الإسلام، بل هو خوفُ على التماسك انطلاقاً من اختلافية المسلمين. لا بل إنَّ هذا الخوف على التماسك الكامن في الوحدة الهُووية قد يبلغُ منزلقاً خطيراً يجعل الناس تُنفِّسُ عن خَوفِها على التماسُك من خلال تبَنّيها لمَنطِقٍ أيديولوجي يؤدلِجُ الهُوية الواحدة ويؤدلِجُ الإجمَاع عليها ويؤدلِجُ الآخر وهويته المغايرة.
المنطق التوحيدي
في محصلة الأمر، منطق “المجتمع المتماسك”، برأيي الخاص، لا يختلف في مٌنطلَقه الافتراضي الفلسفي عن منطق “المجتمع المتجانس”. كلاهما ينطلق مفاهيمياً وفلسفياً من منطق “توحيدي”(monistic) . الفرق هو في كيفية التعبير عن هذا المنطق وتقدير دوره: في المجتمع المتجانس، التوحيد يعني “التنميط” وقتل الاختلاف واعتبار التنوع عدو المجتمع ومصدر تهديدٍ له. في المجتمع المتماسك، التوحيد يعني “الوحدة” التي تعترف بالاختلاف وتَلحَظهُ ولا تسعى لدَفنِه في التراب وترفض أن تعتبر التنوع مصدر خطر وتهديد. إلا أن فكرة المجتمع المتماسك تنطلق من حكم قيمَة معياري تجاه فكرتي “التعدد” و”الاختلاف”، إذ تعتبر “الوَحدَة” أسمى منهما وأعلى قيمة، وأن المجتمع الحقيقي الضامن للديمومة هو الذي تعلو أطرافهُ فوق “التنوع” و”الاختلاف” وإن كانت لا تعتَبرهما شراً.
في ضوء هذا، ومع تفضيلي لمفهوم “المجتمع المتماسك” على مفهوم “المجتمع المتجانس”، أعتقدُ أنَّ التماسك المجتمعي ليس بالحل الذي يمكن مثلاً تطبيقه في سوريا المستقبل. إنَّ تَجذُّر المنطق الأحادي العميق في تُربةِ تاريخِ سوريا المُعاصِرة، وخاصة خلال فترة الحكم الشمولي المتمثل بدولتي البعث، والأسد، وفداحة توظيف هذا المنطق في فرض منظومة استبداد وفساد وتشويه وتشطير للمجتمع السوري، خدمت نظام القمع والاستبداد، يجعل من خطورة الخلط بين منطق “التوحيد” الذي فرضه مجتمع الأسد المتجانس بمفهوم “الوحدة” الذي يقول به مفهوم “المجتمع المتماسك”، خطورة حاضرة وبقوة وبسهولة في أذهان السوريين وممارساتهم اليومية الفردية والجماعية على حد سواء. إضافة إلى هذا، ما عاد ممكناً أن يتم توحيد السوريين تحت مظلة فهم هُووي واحد جماعي مُجمَع عليه من قبل كافة السوريين. سنوات الثورة وبعدها الحرب المدمرة، التي استثمر بها النظام بوحشية وشيطانية منقطعة النظير، شطرَت ومزَّقت النسيج المجتمعي السوري لدرجة فادحة وغير قابلة للإصلاح، لدرجة أنه باتَ من شبه المستحيل ربما تحقيقُ أيّ إجماعٍ بين أطياف السوريين المُتعدِّدة والمتنوِّعة حول وعي هُووي وطني ودولتي ومجتمعي واحد يتوحدون حوله. اليوم، ما عاد ممكناً توجيه التنوعات والتعدُّدات والاختلافات الإثنية والثقافية واللغوية والدينية والطائفية والبيئية، التي تتصف بها المجموعات العديدة التي تشكل الجمهور البشري السوري، وتقريبها من بعضها البعض إلى درجة يمكن معها أن نجعلها تتَّحد وتتفق وتُجمِع معاً على فهمٍ واحدٍ لماهية “سوريا”، أو لهُوية مواطنيها وما يعرِّفهم كأبناء وبنات كيان دولتي واحد. البحث عن تحقيق “تماسك مجتمعي” في سوريا ما عاد برأيي أمراً ممكناً أو واقعياً. اليوم المُتعدِّد يُهيمن على الواحد، والمُغايرة (otherizing) تسيطر على لعبة الوجود، وتقرِّر أنماط ومصائر كافة أنواع وخيارات الوحدة أو الاتحاد، وستقرر هي ما إذا كان الإجماع الهُووي كمجرد فكرة قابلة للنقاش والتفكير سيكون مسموحاً حتى ببحثه على المستوى الشعبي. في سوريا، سيكون خيار “المجتمع المتماسك” أفضلُ وأسلمُ من خيار “المجتمع المتجانس” التدميري. ولكن خيار “المجتمع المتماسك” بحد ذاته لا يملك مقوِّمات وأرضية تحقيقه في المشهد السوري الحاضر، وهو ليس بالضرورة أفضل الحلول في سوريا المستقبل.
نحو خيارٍ ثالث: المجتمع المتناغم
أؤمن أن سوريا تحتاج إلى نموذج مجتمعي يرفض كلياً وبالمطلق الفكرة الشريرة والمدمِّرة للمجتمع المتجانس، ويمضي أيضاً أبعد من محدوديَّات فكرة المجتمع المتماسك. المجتمع المطلوب في سوريا يجب أن يكون “مجتمعا متناغما” (Harmonious- Society). كلمة “تناغم” شائعة الاستخدام في مجال الإبداع الموسيقي الأوركسترالي. تنطلق فكرة “الهارموني” في الموسيقى الكلاسيكية من وجود آلات موسيقية متعددة ومختلفة، لكل منها مساحة وطبيعة صوتية خاصة بها، ولكل منها ماهية أدواتيَّة وأليات استخدام تقنيَّة وخصوصيات فنية وموسيقية لا تشبه الآلات الأخرى. ولكن، الأوركسترا تعمل بكافة آلاتها معاً لخلق قطعة موسيقية واحدة بألحان ومقاطع وأدوار متناغمة مع بعضها البعض. أيُ نشازٍ أو غيابٍ لدور إحدى الآلات سيؤثر على التناغم وعلى التَمظهُر الكـُلّي للعمل الأوركسترالي برُمَّته. فكرة المجتمع المتناغم مستوحاة من منطق مشابه لحدٍ ما. المجتمع المتناغم لا يعترف فقط بالتعدد والاختلاف، بل إنه يبني عليهما وينطلق منهما ويعمل على تجلّيهما وبلوغهما ذروة التَمظهُر بأن يجعل من التنوع والاختلاف مصدراً لخلق المجتمع ولتشكيله ولديمومته ولجعله خلاّقاً ومتكاملاً في تعدُّديته، وليس بالرغم عنها، أو من خلال التعالي فوقها.
لقد وجدت فكرة “المجتمع المتناغم” موطئ قدمٍ لها في المشهد العالمي المعاصر في سياق التجربة الصينية السياسية المعاصرة، والتي جعلت رؤساء الحكومات الصينية المتعاقبة يحاولون إصلاح بنية المجتمع الصيني من خلال نقلها من مجرد بنية اشتراكية شيوعية إلى بنية منفتحة ومتناغمة. يناقش العديد من الباحثين بأنَّ النظام الصيني الشيوعي المغلق والصارم فشل في تحقيق المجتمع المتناغم على الأرض في الواقع الصيني المعيش. إلا أنَّ هذا لا يمنعنا من الانتباه إلى الفكرة بحد ذاتها ومن التوقف عند قيمة مدلولاتها وممكناتها.
تجربة كونفوشيوس
في تاريخ الثقافة الصينية القديمة، يُعرَفُ عن الفيلسوف الصيني كونفوشيوس حديثه المتكرر عن فكرة “التناغم”، والتي يقول لنا إنه تعلَّمها من فضاء الموسيقى ومُراقبّته للتناغم الصوتي والزمني بين الآلات الموسيقية المختلفة. يَستقي كونفوشيوس فكرة “التناغم – بين – مختلفين” من فضاءِ الموسيقى ويقوم بإسقاطها على سياق العيش البشري الفردي الجواني (فكرة اليين واليانغ) والجماعي البراني على حد سواء. فيقول إنَّ التناغم هو الذي يُمكِّن البشر من الاستغناء عن قمع نواقصِ وزلاَّت طبيعتهم البشرية والاستعاضة عن ذلك بعملية جَلبِها إلى دائرةٍ من التكامل والتلاقي والتفاعل مع حسنات ونقاط قوة الطبيعة البشرية، ومن ثم توجيه الوجهين معاً نحو اتجاه العيش والحياة الصحيحة. آمن كونفوشيوس بقدرة الموسيقى تحديداً على تغيير البشر جذرياً ومساعدتهم على التمدَّن والتحضُّر (خلافاً للفلاسفة الإغريق القدماء)، لا لاتصاف الموسيقى بالطبيعة الجمالية في الدرجة الأولى، بل لأنَّ الموسيقى هي التعبير المعرفي والفلسفي الأعمق، برأيه، عن حقيقة “التناغم” ودوره المِفتاحي الوجودي والأنطولوجي في الوجود.
تتأسَّسُ فكرة “المجتمع المتناغم” المستقاة من الفلسفة الكونفوشيوسية في صُلبِها على مفهوم “الانفتاح” (openness) وتعتبر هذا الأخير مفهوماً بَديلاً لمفهوم “الاستقرار”(stability) . فمنطق الاستقرار قد يكون أحد أهداف التجانس، وهو من أحد حاجات تحقيق التماسك، إلا أنه مَنطقٌ لا يَخدم فكرة التناغم. يعطي منطق الاستقرار الأولويَّة لفكرتي الثبات والديمومة، والتي يُصبح تحقيقها رَهناً بالتضحية بكل ما من شأنه تهديد إمكانية الاستقرار تلك، مثل التنُّوع والتعدُّد والاختلاف والفَرادَة والتَبدُّل والسَيرورَة. تصبح تلك العناصر الأخيرة مصدرَ تهديدٍ وعداءٍ وخطرٍ في حالة المجتمع المتجانس، وتأخذُ أهميةً براغماتيةً صِرفَة وقَيمة تابعة في حالة المجتمع المتماسك. أما في منطق المجتمع المتناغم، فيصبح التنوع والتعدد والاختلاف والفرادة والتبدُّل والسيرورة هي المشروطات الأساسية والشرطية لتحقيق حالة التناغم. وأيّ تضحيةٍ بتلك العناصر ستُجمِّد المجتمع وتُصنِّمُهُ (من صَنميَّة) مُحوِّلةً إياهُ إلى كيانٍ مُصْمت وجَامدٍ ومُغلَقٍ وأحادي وانعِزالي ومَيت.
علاقة التشارك
يقومُ البُنيان المُجتَمَعي في المُجتمَع المُتنَاغم على فِكرَة أنَّ أفضلَ علاقةٍ بين أطرافٍ مُتعدِّدَة مُتنوِّعة تمتلك خلفياتٍ وقيَمٍ وحواملٍ مُتنوِّعة هي علاقة “التشارك”. يعني “التشارك” هنا أنَّ يتحوَّل الأطراف المُختلِفون إلى شُركاء معاً في سياق مشروعٍ واحدٍ – القِطعَة الموسيقية في حالة الأوركسترا، تأسيسُ الدولة ووضعُ الدستور الوطني في حالة الدوَل والجمهوريات، وخلق مجتمع جديد من شعبٍ مزقته الحروب والنزاعات والأنظمة الاستبدادية كما في الحال السوسيولوجية السورية – بحيث يقدِّم كل طَرفٍ مُساهمةً في نُشوءِ ووجودِ هذا المشروع وفي استمراره الناجِح تَبعاً لما يُمكِن لهذا الشريك أن يُقدَّمه وفقَ إمكاناته ومواهبهِ وقدراتهِ وطاقاتهِ ومصادرهِ وإبداعاتهِ الخلاَّقة، وقدرته على التنسيق والتعاون مع الآخرين، وأن يُقدِّم كل طرف مساهمته في المشروع المشترك، من دون شروطٍ أو توقًعاتٍ مُسبقة تتعلق بالحجم والعدد والقوة والنفوذ والمدة والظروف (أحياناً تكون مساهمة آلة موسيقية ما في عمل موسيقي أوركسترالي مساهمة صغيرة لا تتعدى دقائق معدودة، مقابل مساهمات طويلة الأمد لآلات أخرى. إلا أنَّ هذا لا يعني أنَّ ما تلعبه هذه الآلة من دور غير مهم وغير تكويني في العمل الموسيقي برمته).
تطبيق فكرة التناغم القائم على “التشارك” بُغيَةَ تحقيقِ تناغمٍ مجتمعي يعني أنَّ هذا التناغم يجب أن يتأسس على مشاركة الجماعات والأطراف المختلفة والمتنوعة كشركاء متساوين يعملون معاً، ويكتشفون مع بعضهم البعض أفضل الُسُبُل لتحقيق التوازن بين الاهتمامات، والقيَم المختلفة للجماعات المُتباينَة، وممارسة تلك الاهتمامات تحت مظلة تعايش وسلوك ديمقراطي دستوري تعاقُدي مَدني، تتحقق فيه العدالة والتكافؤ والصدق والحيوية المتعددة الأوجه والمواطنية الجامعة، ويتم الاتفاق على صفات تلك الأخيرة ومعاييرها وشروطها بين الأطراف جميعاً، بصرف النظر عن واقع تلك الجماعات العددي، والإثني، والثقافي، والديني، والاقتصادي، والمالي، والمجتمعي، والتعليمي، والظرفي. مفتاح النجاح في هذا المشروع التشاركي هو الانطلاق من التعدُّد والتنوع والانفتاح على، بل واحتضان، الأصوات المختلفة، واعتبارها قواعد ومشروطات للعمل التشاركي، من دون إخضاع هذا الاحتضان والانفتاح لأيّ استراتيجية من استراتيجيات الوصائية والمرجعية والأبوية. على الطرف الأكثر دوراً أو عدداً أو قدرةً أو إمكانيات أن يلتزم بهذا، ويعيش وفقه تجاه الطرف الأقل عدداً أو قدرةً أو إمكانيات. من دون التعدُّد والاحتضان لا يمكن تحقيق التشارك. ومن دون ممارسة التشارك بحرية مطلقة وقدرة واحدة ومتساوية على التفكير والتعبير، لا يمكن للتشارك أن يقود إلى تناغم.
الخصوصية السورية
إنني أؤمن أن ما يهدف إليه الكيان السوري هو خلق مجتمع متناغم في المستقبل إذا كان السوريون يتطلعون إلى الخلاص من الماضي الأسود المُدمِّر. سوريا فيها جماعات وأعراق وأديان وثقافات متعددة، كل منها له فرادته وقدراته وقيمه ومواهبه والدور الذي يمكن أن يلعبه. لا ينبغي محو تلك التعددية، إن بتنميطها واختزالها شمولياً واستبداداً وتمييزاً وعنصرية، أو بتحويلها إلى مجرد أداة براغماتية في خدمة الوصول إلى منطق هُووي توحيدي، قد يؤمِّن الاستقرار والتماسك، ولكنه لا يقدم العدالة والحرية وتحقيق الذات والعُمق التشاركي.
ليس المطلوب دمج تلك التنويعات والاختلافات في بَوتقَة وَحدة صَلدَة قد تضمن التماسك، ولكنها لا تضمن الغنى والحيوية والديناميكية المطلوبة لتشكيل مجتمع صِحّي، عادِل، احتِوائي، ديناميكي، مُتعدَّد – الأوجه، سَيروري وحُرّ. المطلوب هو مجتمع متناغم في عُمق، بل وبدلالة وبفضل، تنوّعه واختلافاته وتعدُّد مشارب انتماءات أفراده وثقافاتهم وخياراتهم. المجتمع المتناغم هو مجتمع غير جامد (استاتيكي) وغير مُنزَل من فوق. إنه مجتمع مٌنفتِح وتشاركي يَنتج من أسفل، ينتج عن تفاعل الأفراد ومساهماتهم جميعاً معاً وبالتساوي في التواصل والعيش والسفر (كأوركسترا واحدة) نحو خَلق مَقطوعة مجتمعية تتوزع فيها الأدوار وتتزامن فيها المساهمات ويعمل الجميع، لا بالرغم من الآخرين بل معهم ومن أجل المجموع العام.
هل يحقق هذا تماسكاً؟ نعم سيحققه. ولكنه سيحقق أيضاً أشياء أخرى أعمق وأبعد من مجرّد الوحدة المجتمعية: سيؤمِّن للمجتمع المذكور شبكات أمان، وهامش مرونة وعمق وجودي لا يمكن التمتع بها إلا حين يُعلي المجتمع من شأن أفراده، في تنوعهم واختلافهم وتعدُّدية انتماءاتهم وثقافاتهم وقيمهم وفهمهم للذات. في إطار هذا المجتمع المتناغم، لن يكون للكيان السوري هُويّة واحدة مُوحَّدَة جامعة يستقي مضامينها من منبع ثقافي وإثني وتاريخي وحضاري وديني ومجتمعي واحد. ولكن، من قال أنَّ الهُوية بطبيعتها العميقة أحادية الوجه والمصدر والتكوين؟ الهُويات البشرية بطبيعتها العميقة “متعددة الأوجه” و”سيرورية”. لهذا فإنَّ الهُوية السورية ستكون نتاج ما ينشأ عن النشاط التشاركي المتفاعل والمتبادل بين جميع الجماعات التي تتشارك معاً في خلق المقطوعة الدولتية والوطنية المسمّاة “سوريا”. الهُوية عندها ليست نقطة الانطلاق، بل النتيجة أو المُنتج الذي تنتجه عملية الشراكة والتشارك المجتمعي.
وطبيعة الدولة ونظامها الحَوكَمي ستكون أيضاً منتوجاً يتولد عن التناغم التفاعلي بين الجماعات التي تشترك معاً في تأليف هذه المنظومة، ولا يكون شرطاً مُسبقاً مُفترضاً قَبْلياً. في المجتمع المتجانس، جسم سلطوي دولتي مرجعي هو الذي يخلق المجتمع على صورته ومثاله ولخدمة مصالحه ووجوده. في المجتمع المتماسك، الدولة تعمل على تأمين كل المستلزمات الضرورية لأطياف المواطنين المتعددة كي تتوحَّد وتتعاضد مع بعضها البعض بشكل متماسك وتتحول إلى كيان مجتمعي موَحَّد. أما في المجتمع المتناغم، فالتلاقي والتناغم المجتمعي بين أطياف وجماعات البشر التي تحيا في وطن واحد هي التي تخلق الدولة وتقرِّرُ طبيعتها. وعندها لا يهمُّ ما هي طبيعة الدولة الناتجة عن التناغم، سواء أكانت جمهورية أو ملكية أو فيدرالية أو كونفدرالية. المهم أنَّ المجتمع بتناغمه أنتجَ دولته، بدل أن يكون هذا المجتمع هو نِتاجُ سلطةِ دَولة أو أيديولوجية دَولة مُنزَلَة من عَلٍ.
ينهمك الجميع (قوى غريبة محتلة على الأرض، وعن بعد) في المشهد المتعلق بالنزاع على السلطة وبلعبة الأمم في الأرض السورية. لا دور للسوريين على تلك المستويات ولن يقرروا بأنفسهم للأسف مصير البلاد السياسي أو السلطوي أو الإقليمي أو حتى العالمي. ولكن، على المستوى المجتمعي، السوريون متروكون تماماً وببشاعة فظيعة لأنفسهم، إذ لا أحد من صُنَّاع القرار يكترث فعلاً للمصير المجتمعي السوري ولا لمآلات حياة أفراده، سواء في الداخل أو في الدياسبورا السورية. السوريون وحدهم من يكترث ويعنيه أن يعمل نحو التفكير بطبيعة وتركيبة سوريا المطلوبة للمستقبل. هذا إذا ما آمنا أن هناك مستقبلا لبلدنا المُدمَّر وأن بإمكاننا أن نصنع شيئاً لبناء المجتمع. سيجد السوريون أنفسهم عاجلاً أم آجلاً، في كافة الأحوال، أمام سؤالِ أيّ سوريا يتخيَّلون أن توجَدَ في المستقبل. يبدو لي أنَّ الخيارين المفروضين على المشهد هما، والمتداولين بين اللاعبين هما، إما “مجتمع متجانس”، أو “مجتمع متماسك”. ما وددَتُ في هذه القالة أن اقترحه هو إمكانية التفكير بهذا السؤال من خارج أطُر الخيارين المذكورين، واكتناهُ إمكانيةٍ ثالثة، هي إمكانية خلق مجتمع متناغم يتجنَّبُ خطورة التجانس، ويَمضي أبعدَ من مَحدوديَّات التماسك.
لا خلاصَ للسوريين، برأيي، ولا فرصة للوجود الحقيقي لهم في كيان جامع، من دون التفكير بخلق مجتمع متناغم. وإلا، فقد نستمر بسماع اسم “سوريا” في المحافل الدولية، ونستمر بلحظ شبح كيان دولتي غامض يجري تغييبه و استحضاره عند الحاجة اسمه “سوريا”، سوريا بلا “سوريين”، وفق هذه اللعبة الجهنمية، ستكون هذه الجغرافيا الصانعة للحضارة عبر الأزمنة، أرضاً بلا أهلها، أو على الأقل أرضاً ليست لجميع أهلها ولا تمثِّلهُم أجمعين.