المسكن المهدد
أثمّة قطيعة بين الإنسان والعالم من حوله؟ هل الإنسان كائن حالم منح نفسه مساحة أكبر مما هو مقدر له أو أكبر مما يستحق؟ هل نحن مخلوقات حالمة ومسرفة في الحلم، وإلى حد تصورنا أننا نستحق أكثر وأكبر مما بين أيدينا: الولادة، الحياة على علاتها، النضوج الذي يجعلنا نُخرج أعناقنا من السقف والتلويح برؤوسنا وتدويرها، بحثاً عن وجهات جديدة، ثم الهرم الهادئ الذي يسبق الموت والاندثار؟ وبصياغة أكثر دقة، وتقترب من طريقة طرح الرومانسيين: أيكون العالم (الحياة) هكذا أو هذا منتهى طاقته، غير مخلوق لتلبية حاجات ومتطلبات حياة الإنسان وآفاق تطلعاته وطموحاته؟ أيكون الإنسان متطلعاً أكثر مما يستحق وأكثر مما قررت له الطبيعة؟
تكاد تتفق جميع الأديان وكهنتها على هذا المنطق طبعاً؛ وهي تنظر بعين الشفقة والسخرية معاً، لجميع محاولات الفلاسفة والشعراء في التمرد على هذا المنطق/الحقيقة، مدعومين بجدار دحضهم الصلد و(القويم) وهو الموت، الذي مازال متربعاً وقامعاً لجميع تمردات الإنسان، بإحالته إلى جثة في خبطة واحدة، وتحويله إلى جيفة منفرة خلال أسبوع واحد فقط بعد دفنه.
وبتبسيط، قد يبدو مُخلا،ً لكهنة المعابد وأركان الاتفاق البورجوازي (وهما القوتان الأكثر ضيقاً بالفلسفة واعتراضاً عليها، باعتبارها عامل هدم وتشويه لفطرة الإنسان، التي خلقها الرب على مثاله) نقول، إن الفلسفة وجدت لتعترض وترفض هذا المنطق الساذج، والأهم لتدحضه وتثبت خطأه؛ وإلا ما قيمة كل هذا التعب الذي سنتكبّده في ممارسة حياة السلاحف والدجاج والثعالب وخنافس الروث؟ ما قيمة العقل واللغة، اللذين ميزانا عن هذه المخلوقات ومنحانا دافع ورغبة الخروج والتحرر من جلد الأفعى، الذي ضاق على بصائرنا وصار يكبل نزعة التحرر التي تملأ أرواحنا؟
كلنا، فلاسفة وبشر عاديون، مقتنعون أن اللغة والعقل (ميزة الإدراك والتفكير) هما ميزتان استثنائيتان، منحناهما لنحقق بهما ما عجزت عن تحقيقه باقي موجودات وكائنات كوكب الأرض الحية؛ ونظرة بسيطة على منجز الثورة الصناعية وما تبعها من تطور علمي وتكنولوجي، يؤكد هذا ويمنحنا المزيد من الثقة لنعول على هاتين الميزتين في تحقيق المزيد من خطوات خلاصنا، المادية والروحية، رغم أن جميع الخطوات الارتدادية التي واجهناها، ومازلنا نواجهها، وخاصة على الصعيد الروحي، تقول شيئاً آخر، أو على الأقل تشكك في هذه الثقة، لأننا واجهنا، ومنذ نهاية الحرب الكونية الثانية، المزيد من إحساس الإفلاس الروحي وتفاهة الحياة، وأيضاً شعور اللاجدوى والمضاضة التي تعيدنا إلى خط الشروع الأول بسؤاله الخانق: ما كل هذا العبث الذي نواجهه…؟ كيف لنا أن نواصل ونعيش هذه الحياة بخسائر أقل من أرواحنا، أي بإدراك أننا لسنا مجرد تروس صغيرة وتافهة في ماكنة كبيرة، يحين خرابها وموتها في أيّ لحظة، دون أن يلتفت إليها أحد؟ أنحن تافهون إلى حد الموت على قارعة الطرق والدفن في الأطراف والزوايا البعيدة تلافياً لنتانتنا؟ لماذا كنا هنا إذن، وماذا كنا نفعل بكل تلك الثقة والإيمان بالذات وقدراتها وإدراكها العقلي وتلك اللغة الكبيرة التي كنا نعبر من خلالها ونقول الكثير، مما كنا نعتبره في مصاف المعجزات؟
ولكن، ولكي نحدد أو نرسم وجهاً لشكل وصيغ أدوات الفلسفة البديلة للأدوات القديمة، والتي حكمنا عليها بالفشل، دعونا نجرب مدخلاً بديلاً للقضية، ومن الجذر الأكثر عمقاً ومساساً بالنسغ الصاعد: هل يعي الموتى، في لحظات ما قبل الموت أو بعده، أنهم أن يكونوا أحياءً أفضل من أن يكونوا في وضع الموت، ومهما كان شكل حياتهم وصيغتها، أو وحتى وإن لم تكن سعيدة وسارة وتمثل أمراً مهماً في دورة الحياة والوجود؟
نعم، الكل يتجنب الموت ويهرب منه، ولو صنف هذا كأمر غريزي فقط، أو بحكم تعوّد غريزة البقاء على رد الفعل الانفعالي على المهدد الخارجي، المقصود أو العارض على حد سواء، إلا أن الواقع يقول إن الأمر هو أيضا اختيار، واختيار يقف خلفه إيمان أو قناعة راسخة في أن الحياة أفضل من مجهول تحللي، ومهما كانت ظروفها سيئة وخاملة وغير منتجة، ببساطة لأنها منظورة وملموسة، في حين أن جميع ما ينسج عن حياة ما بعد الموت، هو ليس سوى وعود لا داعم أو مؤكد حسي ملموس لها. وهذا يعني في النهاية أن ما بين أيدينا من حياة قابل للتطوير والخروج به من ضيقه الحالي، فيما لو بحثنا عن بدائل تعامل وتطوير وإنضاج، استناداً إلى ميزتي اللغة والعقل اللتين بين أيدينا. وهذا يعني، بطريقة غير مباشرة، أن أدواتنا القديمة لم تكن موفقة وعلينا البحث عن بديل لها، يتجاوز، في أول أولوياته، طرق البحث القديمة المتوجسة (التي اعتمدت أساليب التصنيف والتبويب وإيجاد المسميات الاصطلاحية وبناء المفاهيم الافتراضية) واستبدالها بأدوات “الاقتحام” والخض والهدم، وخاصة فيما يتعلق مع مفاهيم وقواعد التصالح الغبي مع تفاهات الحضارة والتوافق والسلام الاجتماعيين (المعيش اليومي الذي يجب أن يسير بانسيابية جدول ساذج، إذا جاز لي هذا التشبيه) الذي تحرسه الطبقة البورجوازية تحت مسمى الحكومة المدنية المتمدنة، ضماناً لاستمرار وتيرة مصالحها وحياة الأبقار التي تعيشها (علفاً واجتراراً هادئين فقط)، وهو في واقع الحال ليس سوى عملية قمع وتدجين لعقل وإرادة وبصيرة الإنسان، من قبل السلطات، سياسية واجتماعية ومعبدية، وتسليم أعمى، من قبل الفرد، ثمنه حريته، بأفقها الروحي الكبير، وحريته وحقه في التفكير والاختيار في المعتقدات والدفاع عنها.
ولكن ما هي أدوات الفلسفة البديلة (الاقتحامية) التي يجب أن نبحث عنها، ونحن مازلنا محددين ضمن حدود ميزتي العقل واللغة؟ إنها أدوات ما بعد فهم الجزئيات التي اعتمدتها الأدوات القديمة، العقل، الروح، الحس، الإدراك… إلخ، والتي ستعني وتعتمد تجميد (الإيمانات القلبية “النبوية” والبديهية التي يفرضها تكرار الواقع اليومي)، أي إيمانات ما قبل الفهم، واستخدام أدوات أخرى إلى جانب العقل واللغة، ولكن اللغة هنا ليست بصفتها ناقلة ومعبرة عما يطرحه العقل فقط، بل بصفتها أداة تفكيك وفحص لمكونات الوجود العاري (وسيلة إدراك اختباري) وإعادة توزيعها على مواقع حجومها الطبيعية في عراء الوجود، وبغض النظر عمّا سيخلف الأمر من فراغات في الصورة، صورة عري الوجود التكوينية.
أما الأدوات الأخرى التي نحتاجها إلى جانب العقل واللغة، فأولها الاستشعار الحسي، وثانيها الإدراك النفسي، وثالثها إعادة ربط مصير الإنسان، في نهايته القصوى، بالأرض بصفتها موضع قدميه (المادي والروحي) الأوحد، أما الأداة الرابعة فهي إنماء روح الفردية في الإنسان ضد شعور الخطيئة والخطأ المحبط.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن جميع الأدوات البديلة التي نحتاجها تنبع من الجانب الذاتي – الحسي، وتؤكد على فاعلية وإعادة الاعتبار لذاتية الفرد (الذاتية الداخلية، حس، شعور، نوازع، هواجس، حدس…) وإعادة التوازن لها كعوامل فاعلة في إدارة الحياة ككل، وأيضاً كمكون أساس لدورة الحياة وسبل فهمها، في ضوء رؤية الإنجيل أو بلغته (لكي تكون لك الحياة… وبوفرة أكبر)، وهذا لن يتحقق بغير إعادة الاعتبار للجسد، بصفته وسيلة التفاعل وصلة الوصل مع عالم الوجود/المحسوسات، التي تمثل شكل تمظهر الحياة الفعلي أمام الإنسان.. بل والحيوانات أيضاً.
غبطة الروح تبدأ بالجسد؛ وقبلها، وهذا هو الأهم، الجسد موطن الألم وصلته بواقع الحياة التي نعيش، ولا منظور بين أيدينا غيرها، قبل أن نبدأ رحلة البحث عن بدائل (ماورائية/ميتافيزيقية) مفترضة، تعطل أول ما تعطل، حريتنا ككل، وحرية الاختيار والتفكير أولها طبعا.
إذا مشكلنا تتموضع حول الحرية، حرية الفرد والكينونة المصادرة أو التي صودرت، وصادرها عمى الإنسان في رؤية الحقائق بالذات، في مسيرة بحثه عن وسائل التمكن منها وتوسيع مدياتها، فلجأ إلى رؤى وعمليات التقنين لكل وسائل بحثه، وأولها الحرية، بمعناها الأوسع والشامل، وثانيها حرية العقل والتفكير، وثالثها الاختيار، بصفته فضاء التخييل وتطويح المخيال لرسم الصور المفترضة للحالات المفقودة، والتي بواسطتها يتم تفجير حالات التطلع والتشوف ضد أشكال الحصار المحاصرة والتعتيم وتضليل أو حجب الرؤية.
وهذا ما وقف وراء تمرير عمليات تسطيح الرؤية والتقنين، وفرض الحواجز، باسم القوانين وأدوات التنظيم، أخلاقية ومعبدية واجتماعية وقانونية/تشريعية؛ وكرس التفاهة كناموس لعجلة الكون وهدف لحركيته. لماذا وكيف؟ من هنا يجب أن تبدأ أدوات الفلسفة البديلة، كي لا نقول الجديدة.
طبعاً كل هذا الطرح لنقول إن العقل وحده ليس كافياً، لا للبحث والاختبار، ولا للإجابة على الأسئلة، ربما ليس عجزاً منه بالدرجة الأولى، بل لأنه ليس قادراً لوحده على الإحاطة بكامل جوانب القضية – المشكلة.
ربما، وبطريقة ما، بدأت مشكلة الفلسفة بمعضلة السذاجة التي تحيط بالحياة، والتي يمكن اختصارها بعملية التسليم الساذجة التي تقوم على فكرة أن علينا أن نتحمل كل الحزن، الحزن الذي تنضحه الحياة من جميع مسامها، انتظاراً للحظات الحياة القليلة، القليلة كإيماءة الغريق الأخيرة؛ ولكن، ورغم هذا فإننا نوهم أنفسنا أنها تكفي لإقامة واحتمال حياة من أجلها، وتجربة الحياة وفحص وقرار الفلسفة، وحتى بأدواتها القديمة، تقول هذه سذاجة لا يمكن القبول بها، لأننا لسنا حيوانات ببساطة، بسبب تميزنا بالعقل واللغة، أولاً، وثانياً، وهذا هو المهم، لأننا نتوفر على طاقة ورغبة أصيلتين تقولان إننا أكبر من أن نحتجز في مصير الحيوانات: الحياة والموت المجانيان، وإننا مفطورون على المطالبة بحياة أكبر من هذا التكرار الحيواني الساذج والغبي؛ وإننا ما دمنا نناضل من أجل هذا الهدف أو الحياة (الفاضلة) فإننا نستحقها وبجدارة، رغم أننا مازلنا لم نتمكّن من تحديد معالمها بشكل كامل وقطعي، ولكننا متأكدين من أهم عناصرها وهو ألاّ نموت بغباء (موت الحيوانات البائسة)… بل ألاّ نموت بشكل قطعي، وهذا أمر لا يقبل النقاش أو المساومة بالقطع.
نخلص من كل هذا إلى القضية الأهم، بشأن أدوات الفلسفة البديلة، ألا وهو أن العقل وأنظمته غير كافيان، لوحدهما، لتحقيق هدف الفلسفة وشكل الحياة الذي نستحق، وهذا ما أثبتته مسيرة الفلسفة، من لحظة نشوئها وإلى الآن، وعليه صار متحتماً علينا رفد العقل بأدوات مكملة تساعده في جهده؛ وكان على هذه الأدوات أن تقول للعقل ونظامه: لست وحدك المؤهل لإنقاذ الإنسان، وأن ثمة جوانب لا تراها من الأساس، وثمة أدوات احتقرت وتفهت وجودها، بل وتجاوزت على أدوارها من الأساس، وها أنت تعلن عجزك عن سد فراغها والوصول لهدفك من دونها ودون مساعدتها.. وطبعاً فإن هذه الأدوات هي الجانب المتعلق بجانب المشاعر وعواطف الإنسان وحواس الجسد، الحيوانية، تجوّزاً منا لوصفها بهذا الوصف غير المناسب.
لعله من نافلة القول أن نذكر هنا أن هذه الرؤية (رؤية تجديد وتوسيع قاعدة أدوات الفلسفة) هي عملية تجاوز عملية الفصل اللاهوتية بين جسد الإنسان وروحه، والعودة إلى النظر للإنسان ككل موحد، وإن كل ما ينتج عنه وما يحتاجه هو يحتاجه لكينونته، كوحدة موحدة. وأيضاً، وبطريقة غير مباشرة، نبذ رؤية التنسك المسيحية (التي سادت في القرون الوسطى، وربما مازالت تتبعها الكثير من الأديرة) التي تقوم على فكرة احتقار الجسد، باعتباره حاضنة مادية حيوانية للروح فقط ومصدراً مقيتاً للشهوات والشرور، والنظر إليه كجزء مكمّل لحركية الوظائف الحيوية اللاإرادية (بضمنها وظائف الدماغ في التفكير والإدراك، التي نصطلح عليها الروح)، إن لم يكن له دور مساو للعقل، وما نصطلح عليه بالكيان الوجودي (النفس) ككل.
وطبعاً الخلوص إلى هذه الرؤية يعني نفي فكرة هيجل الساذجة، التي مؤداها أن الإنسان، بنظامه العقلي المطهر، جزء من ماكنة كونية تعمل من أجل الخير الكوني النهائي، لأن واقع الكون الذي ترقبه وسائل الرصد العلمي والتكنولوجي الحديثة، تقول إن الكون في طريقه إلى الفساد، والحياة على الأرض كنموذج له، في طريقها إلى التفسخ (الروحي التام) والانقراض، بعد أن حولت حضارة الثورة الصناعية الحياة إلى سلسلة من عمليات الاستهلاك الغبية، والدوران الأعمى وغير المجدي في عجلتها، متجددة الدوران والإنتاج.
إن شكل النظام (الهيجلي بفكرة سيادة العقل الخَيّر) وشكل الدولة الحديثة، اللذان يقومان على فكرة تقييد كل نواحي الحياة، في شكل قوانين وأنظمة حصرية دقيقة، أولاً هما ليسا من طبيعة فطرة الحياة الطبيعية (فطبيعة الحياة في فطرتها الأولى “وجود الحياة على كوكب الأرض” وبحسب الأبحاث الأركيولوجية وما وصلنا من تصورات أولية مدونة على جدران الكهوف وفي قصص الأساطير إنما يقوم على شكل من أشكال الفوضى (العفوية)، أو لنقل على هامش واسع من الفوضى الناعمة أو الهادئة، التي تحرص على إظهار نفسها على أنها من أصل التكوين، وهذا ربما، أكثر ما أغاظ ويغيظ أتباع رؤية هيمنة العقل والنظام وفلسفته وشكل الدولة البورجوازية، التي هيمنت على كل شيء وحاولت تقنينه بحسابات دقيقة، في حين أن الإنسان، بما فيه عضو النظام العقلي وإدارة الدولة ذاته، لطالما ضج ويضج صارخاً، مطالباً بحصته من “فوضى” الحياة وحقه بالتصرف كما يشاء، أو كما تقرر فطرته وجانبها الفوضوي، وكما يقول صرصار دوستويفسكي “ليذهب هذا النظام إلى الجحيم، أنا أطالب بحقي في أن أتصرف كما أشاء، وبحقي في اعتبار نفسي جوهراً وفرداً فذاً”، وهذا يعني بطريقة ما ويؤكد مقولة، جان بول سارتر، “الإنسان محكوم بالحرية”، ولكنه أيضاً، لجبنه من الحرية “لأنها تعني أن يكون صاحب الفعل الأول في ذاته وتحديد مصيرها” يتهرب منها؛ وأيضاً لأنه لا يتوفر إلا قلة من البشر على وعي التصرف بها، يلجأ الغالبية العظمى للانضواء تحت قالب القيادة الموحدة، وخاصة بشكلها المنظم تحت مسمى الدولة، ليجد بعض الأمان المؤقت ويتخلص من فعل المواجهة، مواجهة قرار الذات الانفرادي بالذات، وللتخلص من مواجهة لوم المجموع الاجتماعي.
إذن الأمر، بطريقة من الطرق، هو عملية الخوف من الحرية والهروب منها، إلى الظل، تحت مسمّى الحضارة ومنجزاتها ومباهجها، التي لا يتنعم بها غير أصحاب النفوذ، المصابين بحمى البحث عن اللذة، أو المفطورين عليها، بما فيها لذة سفك الدم والقتل ومسخ الآخرين وشهوة إذلالهم، وقبلها طبعاً، لذة تخويف المجموع وزرع الرعب في صدورهم من بهجة الحرية ومسؤوليتها.
وكل هذا جاء وتراكم، عبر سلطة المؤسسات، وأولها المؤسسات الإكليروسية والمعبدية، باعتبارها أول مؤسسات الهيمنة على عقول وعواطف الناس، عبر سلطة التخويف من مجهول ما بعد الموت.
والنظرة المتفحصة والدقيقة، تؤكد فعلاً أن كل أنواع السلطات، وأولها السلطات الكهنوتية، لم تكن سوى الحرب المنظمة على حرية الإنسان وفرديته، وعلى حرية تفكيره من بعدها، وعلى فطرة حياته وشهوة ممارستها وفق رغبة حواسه وحاجات كيانه، المتمظهرة بشكل جسده، الذي يجب أن يكون أول ما يحرص على بقائه سالماً، بل وعلى خلوده أيضاً، ومن يعترض على هذا فلينظر في تأريخ الطب والتداوي، ألم يكن جهده الموغل في القدم، لغاية المحافظة على سلامة الجسد وإدامة نشاطه ونضارته، لأنه كيان ممارسة حياة الفرد؟
كيف ولمَ أهملت الفلسفة قضية الدفاع عن الجسد، ولمَ انطلت عليها خدعة رجال الإكليروس في فكرة نبذه وإقصائه من صيغة وجود الإنسان، ككيان بصورة ثابتة، أول ملامح تمظهرها، الدالة على وجودها، هو الجسد، وهو الجهاز الفاعل، والذي نلمس فعله وفاعليته، عبر وظائفه وحواسه ووسائل اتصاله وتعبيره عن رغبات وشهوات وانفعالات الكيان الذي يسكنه (هل عليّ أن أقول يمثله؟)، والتي تأتي عبر حواسه وانفعالاته، وطرق تعبيره عنها والانغماس في فعلها، فكيف يمكن إهمال وتحقيّر كل هذا، والاستعاضة عنه بتمجيد (أشباح) أفعال أو افتراضات غير مرئية، ادعت السلطات الكهنوتية، صدورها عن الروح، التي صورتها على أنها جوهر الكيان الإنساني، دون أن تقدم أي دليل ملموس على وجودها الفعلي؟
ومن هنا تنشأ الحاجة إلى إعادة تعامل الفلسفة بأدوات تناسب هذا الوضع، وضع عودة الجسد إلى مكانه الطبيعي، كشكل يستحق الاحترام والتبجيل، لكيان وكينونة الإنسان، لدراسته عبرها وفهم وسائل تعبيره عن حاجات الإنسان، وأولها، وكما هو معروف – وهذا هو سبب معاداة المؤسسات المعبدية له – حريته في التعبير عن حاجات كيان الإنسان ودفاعه عن هذه الحرية، عبر إصراره على تحقيق حاجات الإنسان ورغباته التي تشكل جوهر فطرته، التي يصطلح عليها ازدراءً، كهنوتياً وفلسفياً، بالمادية والحيوانية والدنيوية.
وبالتأكيد فإن هذا الفهم الجديد للجسد سيطلقنا لفهم جديد مغاير للفهم الإكليروسي وتصوره الذي يقوم على مبدأ “أولئك الذين يتبعون الجانب العظيم من أنفسهم هم العظام، وأولئك الذين يتبعون الجانب التافه منها هم التافهون”، والمقصود بالجانب التافه طبعاً هو الجزء المادي، جزء الجسد الذي يسكنه الشيطان وشهواته، دون التفات هذا الفهم إلى قضية أن الموت والتبدد وامّحاء كينونة الفرد ووجوده، إنما يقع بموت وتعفن هذا الجسد، في حين أنه لا يقدم إلا التصورات الغائمة عن نجاة الجزء الذي كان يسكن الجسد ويمنحه الحياة (الروح).
وفي هذه اللحظة يكون من حقنا التساؤل إذا ما كان ذلك الكيان مجرد جدران عمياء وغائمة لبيت للسكن، وبالإيجار، لساكن لم نره أو نلتقيه يوماً، بالمقصد المجازي طبعاً؟ وللرد على التشدقات المعبدية، التي لا يؤمن بها أغلب كهنة وسدنة المعابد، إلا في حفلات التظاهر أمام رعاياهم، هل الجسد بيت خرب وبالإيجار المؤقت؟