تغضن في المملكة
المرّةُ الأولى التي تبيّن له أنَّ به شيئاً غير سويّ تماماً حدث عندما عبرتْ امرأةٌ الشارع إلى الجهة الأخرى لدى رؤيته قادماً. اعتقد أنَّ الأمر مصادفة. ثم تكرر الحدثُ مرّةً أخرى. بدأ في مراقبة مَنْ حوله. ذات يوم، في قطار الأنفاق، كانت امرأة تجلس على بُعد ثلاثة مقاعد شاغرة. لدى رؤيته، حوّلت حقيبة يدها من مكانها ووضعتها في الجهة الأخرى. لم يكن متأكداً لماذا فعلتْ ذلك؟
بعد المرّة الرابعة أو الخامسة حدث شيءُ مشابه، نظرَ إلى نفسه في المرآة. اعتقد أنه عادي، مثل كل الآخرين. لكنّه حينما نظر من خلال عيون أولئك اللواتي تشبثن بحقائبهن لدى رؤيته، عرف أنَّ وجهه ليس عادياً كما كان يعتقد. لم يستطع أن يرى ما الخطأ الكامن فيه، لكنّه كلما أطالَ النظر ازداد يقيناً. ثمة خطأ ليس بمقدوره رؤيته. كشفتْ المرآة تقاطيع وجهه بشكل ليس ملحوظاً له من قبل. أيٌّ من تلك التقاطيع جعل الناسَ تعبر إلى الجهة الأخرى من الشارع لكي تتجنّبه؟
أتعبه الأمرُ كثيراً جداً، حتى لم يعد قادراً على النوم معظم الليالي. كان يودُّ التصريح بأمره إلى شخص ما، لكنّه لم يستطع التفكير في أي شخص. في أوقات النهار، في طريقه إلى العمل، ينظرُ إلى الناس بعصبية. كان يتساءل متى سينظرون إليه، ويتصرفون وفقاً لذلك. لكنّ الناسَ كانوا يمرّون به مُسرعين من دون أن ينتبهوا له اطلاقاً. أوقعه الأمرُ في حيرة كتلك التي انتابتْه لدى عبورهم الشارع. لماذا لم يروه؟ تعمّد أن ينظر إليهم، لمعرفة ما إذا كانوا سيقومون برد فعل تجاه شيء غريب في وجهه. لكن كلما أطال النظر إليهم، بدا وكأن رؤيتهم له تقلّ. تجربة الفرار منه خلال ساعة الغروب، وعدم رؤيته في ضوء النهار بدتْ له وكأنها مفارقة. بعد فترة، قرر أن يجرّب ما إذا كان هو حقيقة من يهربون منه، وما هو الشيء الذي سبب لهم رد الفعل هذا. استنتج، أنه من مسافة، وقت الغروب، من الصعب رؤية تفاصيل شخص. إذن، الأمر له علاقة بشكله. بالطريقة التي يتحرك فيها في الفضاء من حوله، والتي جعلت الناس يريدون تجنّبه. خلص إلى أن الأمر له علاقة بطريقة مشيّه.
جرّب طرقاً مختلفة للمشي. جعل نفسه يبدو قصيراً وأقل تهديداً. مشى بمحاذاة جوانب الشوارع ليكون أقلَّ وضوحاً. لكن ذلك، جعل الناس حالما يرونه يتفادونه أكثر. ويعبرون الشارع بسرعة أكبر من السابق.
ذات مساء، وهو عائدٌ من شركة إعلانات صغيرة حيث يعمل، في طريقه إلى البيت، مشى في شارعه بأشجاره العادية التي تصطف مزدوجة. الأشجار العادية استحوذت على جانب من الرصيف، مضطرة الناس إلى الالتفاف حولها وبشكل يسمح بمرور شخص واحد. كان يحب الأشجار في شارعه. كل واحدة منها نمت بزاوية فريدة. كانت تلك الأشجار الشيء الوحيد الذي يحسن معاملته في العالم. ولم تقاضه مطلقاً. ودائماً، كلما مرّ بجانبها لمسها. كانت الأشجار كبيرة وصامتة الآن. مشى برويّة. رأى شكل امرأة في أقصى الشارع، وجعل نفسه أصغر حجماً. ثم جاء رجلٌ من شارع جانبي. كان الرجلُ طويلَ القامة ومنحنياً قليلاً، ومشى نحو المرأة. ماذا ستفعل المرأة؟ هل ستغيّر مسارها إلى الجهة الأخرى من الشارع لدى رؤيتها للرجل؟ هل الذكورية هي ما سبّب الخوف؟ مشى الرجل متجاوزاً المرأة التي لم تغيّر مسارها؟ إذن، الذكورية ليست السبب. تساءل متى ستلاحظه المرأة. وماذا ستفعل إذا لاحظته؟ في هذه اللحظة، نظرتْ باتجاهه ورأته. انكمش بدنه بشكل ملحوظ، وغيّرت المرأة من مسارها مسرعة إلى الجهة الأخرى من الشارع. تأذَّى من ذلك. توقف ولم يستطع حراكاً، متجذّراً في غضب وخجل مجهولين. كان ذهنه مليئاً بأشياء يريد قولها للمرأة. كان يريد أن يقول “لا شيء خطأ فيَّ، أتدرين؟” أو “لا أنوي السطو على ما لديكِ؟” أو “هل تعتقدين أن جسدك يستثيرني عن بعد؟” أو “لماذا عبرتِ الشارع حينما رأيتني، ولم تفعلي ذلك لدى رؤية الرجل الذي كان يمشي أمامي، والذي يبدو أكثر خطورة مني؟”، لديه الكثير مما يريد قوله. كان الشارع خالياً. وبدأ في الإظلام. ثم فعل شيئاً فاجأه. بدأ في تغيير مساره بالعبور إلى الجهة الأخرى من الشارع. رأته المرأة يعبر. بانت نظرةٌ حذرةٌ على وجهها. بدأتْ في العودة إلى الجهة الأخرى. تبعها. لم ترد أن تكون واضحة في تجنّبها له، لكنَّها قامت بمحاولة أخيرة بألاّ تقابله في منتصف الشارع. وبمجرد أن اقترب منها، فتحت فمها وكأنها في بداية صرخة. وقبل أن يمر بمحاذاتها وتجاوزها قال “لا شيء خطأ فيَّ، لا أنوي أكلك”. وبينما كان يتحدث كان يدرك كيف يبدو الأمر. “كان يجب ألا أتفوه بذلك”، فكّر. بعد أن تجاوزها، استراحت المرأة من رعبها، وجرت مسرعة كما لو أن شيطاناً يطاردها. صدرت منها ضجة غريبة وهي تجري. راقب فرارها. تجربته لم تصل إلى خلاصة. فهو لم يتعلم شيئاً يتعلق بلماذا كان الناس يتفادونه؟
ذلك المساء، كان وجهه مختلفاً في المرآة. كان له وجه عادي، بلحية صغيرة، وجبهة بارزة، وشفتين جيدتين وقويتين. كان فكه مدبباً قليلاً، وأذناه ملتصقتين، وكان يقال له إن له عينين جميلتين. أسنانه بيضاء. لم يدخن مطلقاً طيلة حياته. لكن بعد تلك المواجهة مع المرأة ثمة شيء تغيّر. شيء يتعلق بلونه والشكل العام لوجهه انحرف قليلاً. في اليوم التالي، سأل زملاءه في العمل إن كان هناك شيء ما تغيّر فيه. نظروا إليه، ولم يكونوا متأكدين. قالوا بوجود شيء مختلف، ولم يكن بإمكانهم وضع أصابعهم عليه. أصبح مهووساً بفكرة أنَّ شيئاً ما يتعلق به قد تغيّر، وأنَّ الناس الذين تجنّبوه مسؤولون عن التغيير. وليس متأكداً كيف. ولكي يتجنّب تحديق الآخرين، صار يبتعد في سيره عنهم. وخشية من أنه إذا رآه الناس فإنهم سيعانون آلاماً استثنائية كي يتفادوه، لذلك فعل ما بوسعه ألا يقابل أحداً في الشارع. وحينما يلمح أناساً من بعيد، يختبئ، أو يدير لهم ظهره، ويبقى على ذلك النحو حتى يتجاوزونه. في العمل بدأ سلوكه شاذاً جداً، حتى بدأ الناس يظنون أنَّه مختلٌ بطريقة ما. أولئك الذين عرفوه منذ مدة طويلة وجدوا صعوبة في التصديق. لكن استمراره في إخفاء وجهه كلما نظر إليه أحد ما، وتردده في النظر إلى عيون الآخرين، وهروبه المتكرر من طريقهم في الممرات، والذي بدا مضحكاً في البداية، سرعان ما ألصق به سمعة المراوغة والتي، بمرور الوقت، أضحت مصدر شك. فالناس احتاروا بطريقة اختفائه المفاجئ حينما ينظرون إليه، وكيف أنه جعل من نفسه غير مرئي ما أمكن خلال انعقاد الاجتماعات. ولم يفهموا لماذا لا يحضر الحفلات التي يُدعى إليها، أو لماذا لا يطيل بقاءه قليلاً بعد العمل لتناول شراب. غالباً، كان زملاؤه يضبطونه في دورة مياه الرجال، وهو يفحص نفسه أمام المرآة.
في بعض الأحيان، كان يُرى وهو يتمعّن في ظله. وحينما يتحدث مع الناس، بدا وكأنه دوماً يخفي وجهه. وسرعان ما بدأ الناس يبدون ملاحظات على غرابته، رغم أنَّ أحداً، منذ مدة لا بأس بها، لم يحظَ حقيقة بإلقاء نظرة جيدة عليه. ولم يعد مطلقاً يظهر في الصور. وكلما صوَّب أحدهم عليه عدسة تصوير، يهرب. ثم بدأ يتفادى المرايا. كان متأكداً أنه كلما ازداد خوفه من الشكل الذي يبدو عليه، ازداد اقتراباً منه.
لكن ماذا بمقدوره أن يفعل إزاء الناس الذين لدى رؤيته يعبرون إلى الجهة الأخرى من الشارع؟ كيف يمكنه مواصلة تحمّل التوتر الناجم عن تفادي الناس له، وسلبية التجنّب؟ القلق سبب الشلل لرحلته اليومية إلى البيت. ولدى وصوله إلى شارعه، بازدواج أشجاره العادية، يمسك الخوف بخناقه، خوف من عيون الآخرين. في بعض المرّات، تمنّى ألاّ يكون مرئياً، حتى لا يتحمل عبء عار رؤية الناس يهربون منه.
ذات يوم، خطر له أنَّه إذا ارتدى قناعاً سوف يتحرر من قلقه. وبدا ذلك حلاً أنيقاً. كان يوجد كشك في سوق محلي يبيع أقنعة، في صباحات الأحاد. تطلع في أنواع مختلفة من الأقنعة. أغلبها كانت صبيانية جداً، رفضها في الحال. كان يريد قناعاً يشبه وجهاً إنسانياً عادياً ما أمكن. اشترى سبعة، وجرّبها في البيت. حرص على أن يضعها على وجهه قبل النظر في المرآة. من الأقنعة، بدت خمسة منها مفيدة. شعر أن أفضل طريقة هي اختيار أكثرها عادية في المظهر ومحاولة ارتدائه لدى مداومته في العمل وفي طريق عودته مشياً إلى البيت. في العمل بدا أن أحداً لم يتعرّف عليه. تعرض للتوقيف أمام مكتب الاستقبال، لكن بمجرد أن قدَّم ما يثبت هوّيته، سُمح له بالدخول. مظهره سبّب الإحباط لزملائه. وحين جلس على كرسيه استفسروا منه إن كان هو. وحين أجابهم بأنه هو نفسه، حدّقوا. ثم بدأوا يتهامسون. واستدعاه رئيسه.
“ما الذي تفعله؟”.
” لا شيء سيدي”.
“لماذا ترتدي قناعاً؟”.
” من باب الاعتبار للآخرين. وجهي يسبب المتاعب للناس، سيدي”.
تفحّصه الرئيس.
“أنت تسميه اعتباراً؟”.
“أجل سيدي. على الأقل يعرف الناس بشكل أفضل من أكون”.
“وهل هم؟”.
“أعتقد ذلك. بالإضافة إلى أنني بمقدروي أن أدعهم ينظرون إليَّ. ولا أمانع أن يُنظرَ إليَّ وأنا أضع قناعاً”.
“لكنه مخيف. كيف نعرف أنك أنت؟ وإذا جاء كل واحد إلى العمل مرتدياً قناعاً. الحياة ستكون مستحيلة”.
“دعنا نجربه أسبوعاً سيدي، ونرى”.
كل يوم، يضع قناعاً مختلفاً. كل يوم الاستجابة مماثلة. استدعاه الرئيس إلى مكتبه. لدى نهاية الأسبوع، بلغ غضبه منتهاه.
الرئيس مقترحاً: “ربما تحتاج للعرض على شخص ما”.
قال: “سينتهي الأمر كله في الأسبوع القادم”.
“إما أن تحاول عرض الأمر على شخص ما، أو أننا سنطردك”.
“ولكن لماذا، سيدي؟”.
“لأنك تخيف الجميع. وتجعل من الصعوبة بمكان على العاملين أداء أعمالهم”.
“سينتهي الأمر كله في الأسبوع القادم”.
كلُ يوم ذلكَ الأسبوع، لدى عودته إلى البيت مشياً تأكد من فعالية الأقنعة. في اليوم الأول، أصبحت النسوة اللواتي في العادة يهربن بعبور الشارع لدى رؤيتهن له، يحدّقن فيه لدى مروره قربهن. في اليوم الثاني، بدأت امرأة في عبور الشارع لكنها غيّرت رأيها وواصلت المشي على الضفة نفسها من الشارع، ربما بدافع الفضول. لدى حلول اليوم الخامس لم يعدن يلاحظنه. وهذا أثار دهشته. كان متأكداً أنَّ القناع يجعله يبدو لا طبيعياً. لماذا كل أولئك الذين أزعجهم وجهه لم يزعجهم القناع؟ سأل الرجل الذي يبيع الأقنعة في السوق المحلي في صباحات الأحاد. قال الرجل “أنت لم تقل لي مطلقاً عن سبب شرائك للأقنعة”. وكما لو أنه كان يريد الترويج للأقنعة التي يبيعها، وضع الرجل قناعاً على وجهه. في هذا اليوم، كان هو يضع قناع أزتك (Aztec) مما سبب سرور الأطفال الذين مروا به. العديد من الناس توقفوا لشراء تنكره المثير للإعجاب. “الآن وقد أبلغتني بالمشكلة، أعتقد أن لديَّ أفضل قناع لك. ولكن بشرط واحد”.
“ما هو؟”.
“في الأسبوع الأول من ارتدائك له، عليك أن تصدق أن القناع هو وجهك”.
“أهذا كل ما في الأمر؟”.
“هذا كل ما في الأمر، وهو سهل”.
أخذه الرجل إلى داخل الكشك، حيث كان يخزّن كميات كبيرة من الأقنعة، أتي بها من مختلف مناطق العالم. طلب منه الرجل أن يغمض عينيه. ثم وضع قناعاً على وجهه، وطلب منه ألاّ ينظر في المرآة لفترة قليلة. ورفض الرجل أن يقبل مالاً منه لقاء القناع. وقال له ضاحكاً “لقد أسديت إليَّ معروفاً، لأنَّه بفضلك توقف كل أولئك الناس عند كشكي، ويبدو أنهم جاءوا إلى هنا بتأثير وجهك”.
لدى وصوله بيته انتابه فضول، لكنَّه لم ينظر في المرآة. وبحلول الصباح، انصهر القناع مع وجهه. لمس خده ولم يجد أثراً للقناع. لم يكن بحاجة للنظر في المرآة.
في العمل، حدّق فيه الجميع في تعجب. استدعاه الرئيس إلى مكتبه وحدّق فيه لمدة طويلة، ثم طلب منه العودة إلى مواصلة عمله، من دون أن يتفوه بكلمة. في عودته مشياً إلى البيت، انشغل جداً برد فعل غير عادي من زملائه في العمل حتى أنّه نسي أن يلاحظ ما إذا كان الناس يعبرون الطريق تجنّباً لرؤيته. بالقرب من بيته، استوقفته فتاة جميلة للسؤال عن عنوان. كانت ضائعة. قدم لها توجيهات بالعنوان واضحة وتمنّى لها السلامة. في نهاية الأسبوع، اقتربت منه إحدى النسوة العاملات بالشركة، امرأة حسناء بساقين طويلتين، وأحمر شفاه متوحش، وتعمل بقسم “الديجيتال”، سألته ماذا سيفعل في الغداء، لكنه لم ينتبه للتلميح.
لم يعد يلحظ قناعه، لكنه بدأ يرى أقنعة الآخرين. لدى عودته للبيت مساءً على قدميه، تساءل عن السبب الذي حال بينه وبين ملاحظتهم من قبل. الآن، وقد فعل ذلك، رأي أنه كان ضرورياً عليه تجنّبهم، بعبور الشارع قبل أن يتأخر الوقت.
(عنوان النص المنشور في النيويوركر الأميركية:
The New Yorker)