القارئ الأول
“إن الكلام على الكلام صعب” كما يقول أبوحيان التوحيدي، لذلك فالكلام على مجلة “الجديد” وما تركته في نفسي من شغف وانتظار لنصوصها لمعايشتها تدقيقا وتصحيحا منذ عددها الأول ليصعب عليّ وصفه.
ممتن لكل من الدكتور هيثم الزبيدي والشاعر نوري الجراح أن منحاني شرف القيام بمهمة التدقيق اللغوي للمجلة، وهو ما مكنني من أن أكون أول المطلعين على نصوصها بعد رئاسة التحرير، ونصوص “الجديد” جديدة دائماً، تتزيا في كل مرة بزي الإبداع نثرا وشعرا، نقدا وتحليلا، وملفات، ورؤى واستشرافات. نصوص رحلة ترحل بي في الزمان والمكان، مجلة لا تني تتحف قارئها بالجديد في كل عدد من أعدادها، تخوض غمار السؤال والبحث في قضايانا الراهنة، تقارب ماضيا وتنشئ حاضرا وترنو إلى مستقبل جديد جدتها هي نفسها.
كانت “الجديد” بالنسبة إليّ فتحا معرفيا أثرى معارفي وتطلعاتي فكانت حضنا يهدهدني بما تحويه من معرفة وأدب وبحوث وتحليلات، تقودني في عالم من حبر وورق يشع نورا معرفيا يضيء لي بعض ما استغلق عليّ فهمه، فكان كتابها ومحبرو مقالاتها خير معين على اقتفاء أثر الإبداع في شتى المجالات.
كنت وأنا أأنس بها أحلق في عوالم أخرى تزيدني رغبة في المعرفة والبحث والتقصي رائدي ما تحويه بين صفحاتها من جديد مشوق.
مجلة أسست لنفسها عالمها الذاتي وحددت طريقها نبراسا لحرية التعبير، كان ذلك واضحا في ميثاقها عند صدور عددها الأول قبل سبعة أعوام، وها هي تنير شمعتها الثامنة في دروب الفكر والإبداع. سبعة أعوام تدرجت فيها “الجديد” لتكون من أحسن وأفضل المجلات انتشارا في أوساط النخبة المميزة من القراء.
شهادتي هذه في حق مجلة “الجديد” أساسها أني وهي رفيقان دوما كما يقول محمود درويش، هي رفيقة ونعم الرفقة، مكنتني من زاد معرفي هو أشبه بالوابل حين يروي الأرض العطشى فتنبت أجمل ما فيها وقد أنبتت في نفسي ولعي بما ينشر فيها وانتظاري لمفاجآتها كل شهر لأغترف من خزانة مدادها وحروفها ما يطعم سغبي للمزيد من المعرفة في مجلات شتى.
أنا و”الجديد” ترافقنا تأخذ بيدي إلى ضفاف بعيدة، تزيدني شرفا أني كنت من المساهمين ولو بالقليل في مسيرتها، هي أقرب إلى النفس والروح مع كل حرف وكلمة تجوس في داخلي فتنير ما لا يزال معتما في فهمي ومتابعاتي، كل نص أقرأه ويمر ما بين يدي فيه ضوء جديد في ظلمة الحاضر العربي، فهي اسم على مسمّى.
واليوم، أعتبر نفسي ذا حظ وأنا أتابع نصوصها ومقالاتها المتنوعة عديدة المشارب والرؤى والاختلافات الفكرية والمناهج التحليلية، لكوني القارئ الأول للنصوص المتعامل معها في بدايتها قبل أن تستوي جاهزة للطباعة، أطوف بها وتطوف بي في عوالم الابداع المبتكر والفكر الطليق، وتمنحني، بدورها، مع كل قلم أقرأ له، القدرة على المتابعة والتفكير والتمحيص. قد أتفق مع البعض وأختلف مع غيرهم، لا ضير، فهذا التعدد والتنوع والاختلاف من الأسس التي انبنت عليها فكرة “الجديد”، ألا وهو الحق في الاختلاف.
و”الجديد” بالنسبة إليّ، هي أيضاً، رحلة داخل الشكل والمعنى، داخل الروح والعقل، داخل الزمان والمكان، وأنا الراحل معها من شهر إلى آخر، خطوة بخطوة، على الدرب الشائقة الشيقة، وهي المؤنسة والمانحة لي قبسا من نور المعرفة الناقدة للقديم والباحثة في الحاضر، المبشرة بالجديد في استشراف مبدع لما هو آت، وأنا أتتبع كل ذلك، مع كل خطوة تخطوها، ومع كل ملف تباشره، وكل تساؤل تطرحه، واليوم بمكنني أن أقول بوعي أكيد وراحة ضمير أنها مشروع تتكامل لبناته يوما بعد يوم، بينما أراها ترتقي في مدارج عالم عاصف ثابتة ككلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها يتعالى.
مهما حبّرت في مجلة “الجديد” من كلمات وترجمت شعوري نحوها فلن أفيها حقها لأن ما أعطتنيه ومنحتني إياه تعجز الكلمات عن البوح به والمداد عن خطه، ربما لكوني أنطلق من تجربة حميمة مع “الجديد” وهي لي، أخيراً، من أحلى التجارب وأمتعها، وهذا رأي القارئ الأول لكنوزها وذخائرها.