تحرير العقل وترسيخ الوعي النقدي
فاجأني الشاعر نوري الجرّاح (رئيس تحرير مجلة “الجديد”) بمرور سبع سنوات من عمر مجلتنا الأثيرة ، وها هي تخطو بثقة ومغامرة وإقدام، مُحمّلة بكل طموحاتها وأفكارها التي راهنت عليها، نحو سنة جديدة (الثامنة)، تُضاف إلى تاريخها الثرّ، الممتد منذ عددها الأول (فبراير 2015) الحافل بالملفات المهمة والنتاجات الإبداعيّة والفكريّة المتنوّعة. فقد قطعت المجلة شوطًا كبيرًا في مسيرتها التي ترسّخت يومًا بعد يوم في الثقافة العربيّة على امتداد وتباين رقعتها الجغرافيّة مترامية الأطراف، حوالي 84 عددًا منذ بداية الانطلاق الذي توقف ورقيًّا (اضطراريًّا) مع جائحة كورونا الكارثيّة، وإن استمرت المسيرة إلكترونيًّا بفضل كتيبة من المبدعين والمفكرين من أرجاء العالم العربي.
سبع سنوات مثمرات، بحساب السنين – مع اختلاف السياق – (تأمل قول الله تعالى: “سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ” (يوسف: الآية 43)) هي عمر ليس بالقصير (في ظل ظروف عاتية واجهتها)، خاصّة إذا ما قُورِن بما قدمته من إبداع متميّز في كافة المجالات الثقافيّة والفكريّة وما أرسته من ثقافة الحوار (عربيًّا وعالميًّا)، فلم تخذل المجلة قارئها ورهانه عليها بأن انحازت لنوع بعينه من الأنواع الأدبيّة على حساب آخر، وإنما اتسمتْ بديمقراطية نادرة وأصيلة في الوقت ذاته، لا توجد في مجلات أخرى تحمل شعارات الرأي والرأي الآخر، أو حرية الفكر وغيرها من مقولات لا ترقى للتطبيق والممارسة العملية، كما لم تقع أسيرة للأنواع الرائجة، أو تحت تأثير الفعل القرائي الناتج من الجوائز التي انحازت للرواية على حساب غيرها من الأنواع الأدبيّة، بل تجاورت الأنواع الأدبيّة المختلفة (الشعر والقصة، والمسرح والرواية) على أعداد المجلة، وأيضًا على صفحات العدد الواحد.
وكذلك امتدت ديمقراطيتها ولم تنحزْ للأسماء الكبيرة فقط، على حساب الأجيال الجديدة، بل تجاورت إلى جانب هذه الأسماء العلامات والقامات، أسماء نُقاد وكُتّاب (شعراء وقصاصين) شباب مختلفي الأيديولوجيات والمذاهب، توسمت فيهم المجلة خيرًا، فأفسحت لهم صفحاتها، وصاروا يكتبون جنبًا إلى جنب بجوار النخبة، كما لم تنحز المجلة لبقعة جغرافية على حساب أخرى، فتجاورت أسماء إبداعات كتاب من مختلف أنحاء الوطن العربي بلا استثناء ولا تحفظات سوى جودة الإبداع، وهو شرطها الأول والأساسي فيما تنشره، فقد خصصت المجلة عددًا للأدب الأمازيغي في تأكيد على شموليّة الثقافة وكذلك الأدب السّودانيّ تزامنًا مع ثورته، كما لم تنحز لكتابة الرّجل على حساب المرأة، بل كان كلاهما صنوًا للآخر، بهما معًا ينهض المجتمع وتتكامل الأدوار والمسؤوليات، فتبارى الإبداع الذكوري والأنثوي في تساوق يكشف عن علاقة جدليّة بالمعنى الإيجابي وليس بالمعنى الماركسي، وهو ما يصبّ في الأخير في نهر الإبداع والفكر، ويعمل – كذلك – على تطويره وأحيانًا تثويره (راجع عدد المرأة ناقد ومفكرة على سبيل المثال).
مجلة “الجديد” بقدر ما اتسمت موضوعاتها وكتابها – كذلك – بالنخبويّة على نحو ظاهر في أسماء كتابها، إلا أنها أيضًا كانت في متناول القارئ العادي أو ما أسمته “ثقافة الناس”، وهي معادلة صعبة، التزم صُنّاعها من البداية بهذا الخط التحريري الدقيق، وكان من اللافت للإعجاب أنهم حافظوا على هذا استقامة الخط، دون أن يميل إلى أحد الأطراف، كما أنها اتسمت بوعي نقدي مُحلّق، لم يقتصر على ما أفسحته من قراءات نقدية متعددة لكل الأنواع الأدبية، وإنما بإثارتها لقضايا فكرية وتنويرية عبر باب “السجال” الذي أظن أنه يقتصر على مجلة “الجديد” دون غيرها من مجلات يحفل بها واقعنا الثقافي، وهو الباب الذي أعاد إلى الأذهان عصر المعارك الأدبيّة الكبرى، والسجالات النقدية بين كبار المفكرين، وأيضًا ملفاتها التي أثارت الكثير من القضايا الفكريّة حول كتابة المرأة وتأثير اليهود في الرواية العربية، وأدب الاعتراف، وأدب المنفى والمهجر، وثقافة الموبايل، وعيار الشعر، وغيرها الكثير والكثير من الملفات التي أثارت الوعي النقدي وحرّضتْ ثقافة السؤال، وأيضًا باستقراء أفكار الكُتّاب حول ما طرحوه من كتابات متعلقة بأدب الطفل والمراهقين وكتابات المرأة، ولعبة الكتابة ورهان الكاتب، والكتابة بلا ضفاف، وغيرها من قضايا جوهرية تهم الكاتب والقارئ معًا.
وفي إثارتها لهذه القضايا كانت ترتكز في كل منطلقاتها، على السؤال النقدي وآلياته المنهجيّة (التي غابت مع الأسف في الكثير من مناقشاتنا) في كل ما طرحته فكشفت عن رؤى مُتعدِّدة ووجهات نظر متباينة، إلا أنّها لا تصل في النهاية إلى رفض الآخر أو إنكاره، وإنما هي تؤسِّس عليه دون إقصاء أو رفض. وهذه ديمقراطية أخرى تُضاف إلى ما رسّخته المجلة عبر صفحاتها من حرية في الإبداع والفكر وطرح الموضوعات، وترك المجال مفتوحًا لنقد النقد والمطارحات الفكرية عبر السجالات.
لا يمثّل حضور مجلة “الجديد” في الثقافة العربيّة، مجرد استعادة لمنهج وأفكار المجلات الرصينة التي كانت إحدى أهم الروافد الفكريّة والثقافيّة مع مطلع القرن العشرين وفقط، وإنما مثّلت أيضًا إحياء المشروع النهضوي والفكري معًا، فالمجلة كان أحد أهدافها منذ بيان التأسيس (وهو ما تحقّق في كثير من أعدادها) أنها سعت لاستعادة المشروع النهضوي والسير على خُطاه، وإن كان بما يتواءم مع مستجدات القرن الجديد، والظروف الراهنة التي كانت أشبه بالحرائق التي ألهبت مُخيلة المبدعين في كل مكان.
هكذا يمكن قراءة دلالات ما طرحته المجلة باستعادة فكر الكواكبي بكل حمولاته الثقافيّة والفكريّة التي تحيل إلى رفض الاستبداد وكل ما يوازيه من مفردات حديثة من قبيل “الدكتاتوريّة والهيمنة والسلطويّة والأبويّة” وأشكاله أيضًا (بدءًا من استبداد السُّلطة وصولاً إلى استبداد الفكر وهيمنة الدوجما)، وكأن استعادة مشروع الكواكبي في حدّ ذاته هو احتجاج بليغ ضدّ دولة الاستبداد وسُلْطة الاستبداد التي صارت هي المهيمنة، والتي كانت أحد الأسباب الأساسيّة لتراجع المشروع النهضوي، وجفاف الفكر الحرّ الخلّاق، فأخذت من أسئلة الماضي نِبراسًا للحاضر والمستقبل وراحتْ تفتش عن أسباب هذه العَرْقلة أو الإعاقة التي وصلت إلى حدّ العزلة، وهو ما لخّصته في تأصيل للأزمة بالعقل الأسير، أو سياسة التلاعب بالعقول، بعد تجربة المخاض العسير الذي مرّ به العرب إثر وقوعهم في مصيدة الأمم تارة، وما أحدثه الربيع الدامي تارة ثانية.
والمؤسف أن هذا العقل تكبّل بثقافة التحريم والتكفير جرّاء ما رسّخته ثقافة القمع الأبويّ، وتماهي الحدود بين التفكير والتكفير، والعقلانيّة والشعوبيّة، وثقافة النخبة وثقافة الناس، وهو ما آل بهذا العقل الذي انشغل بشيطنة الآخر لأن يكون أسيرًا، ومن ثمّ وجب – كضرورة للنهضة من جديد – أن يتحرّر من أوهامه وقيوده، ولن يتم هذا إلا بتحطيم أوثان العقل ومواجهة الذات بسؤال الهُويّة بعد انفجار الهويات: هل نحن حقًا متخلفون؟
هكذا رقشت مجلة “الجديد” بأسئلتها (الجارحة والهادئة، الراهنة والمستقبليّة) العقل لتحريره وفك إساره، على اعتبار أنها أسئلة وجودية في المقام الأول تتعلّق بالمصير والكينونة، ومن ثمّ سعت إلى استنهاض الأفكار الجديدة التي – تأمل أن – تكون قادرة على تجاوز هذه المحنة، وفي ذات الوقت رسم خارطة طريق تكون هي الشعلة، التي تضيء مسارات الطريق المظلمة بسبب هذه الفخاخ، التي نصّبت للعقل العربي منذ قدّم التاريخ بعد موت الحقيقة وصراع الأيديولوجيات وصولاً إلى شيوع ثقافة الاستهلاك.
بالطبع صارت مجلة “الجديد” علامة فارقة من العلامات الثقافيّة المؤثّرة في واقعنا الثقافي، وواحة يانعة بأفكارها، تتلاقى فيها طزاجة الأفكار مع أصالة الإبداع، وثورة النقد، كما حرّكت الراكد وجدّدت الآسِن، ودفعت العقل إلى التفكير ليس في الحاضر وفقط، بل في الراهن والمستقبل معًا، دون التغاضي عن دروس الماضي، ومحاولة تجاوز عثراته، عبر الأسئلة والحوار الخلّاق معه.
أما بالنسبة إلى تجربتي الخاصّة في الكتابة في مجلة “الجديد”، فهذا حديث ذو شجون سأُرْجِئه إلى مناسبة أخرى، يكفي أن أشير هنا فقط إلى أن تجربتي في الكتابة ضِمن كتيبة مجلة “الجديد” المُلهِمة، اكتسبتْ صقلاً معرفيًّا، ووعيا مغايرًا، والأهم أنّني تسلّحْتُ بالرُّوح المرنة في تقبُّل النّقد، في مقابل الموضوعيّة فيما أكتب والانشغال بسؤال الكتابة البنّاءة دون غيرها. فشكرًا لمجلة “الجديد” (والشكر موصول أيضًا لرئيس تحريرها الشاعر نوري الجرّاح) على ما منحاه لي من مساحة للكتابة عبّرْتُ فيها عن نفسي وأفكاري بكل حرية ودون حَرج على أي فكرة أو رأْي لي حتى لو كان ثمة تعارض بيننا، وفي الأخير أهلاً بمجلة “الجديد” وبأفكارها الخلّاقة في سنواتها القادمة. فالرَّهان على ما تحمله (وتعد به) من انطلاقات ومغامرات إبداعيّة، ومطارحات فكريّة، مازال مَعقودًا ومتجددًا، لم تفتر هِمته البَتَّة، فالماضي يشهد بإرهاصات المستقبل.