سباعية الفكر والإبداع والتجديد
بشكل مباشر تبدو القراءة وظيفة جمالية استثنائية في قدرتها على الإنماء العقلي، والتوازن الفكري، والإدراك الواعي للحياة العامة، في تجسداتها العلمية والثقافية والفنية والتعبيرية، فقد تكون تجارب القراءة على مر الزمن، هي إذكاء جذوة المعرفة، وتوفير القدر الأدنى؛ وربما الأعلى؛ في متابعة سيرة الحياة المتطورة في سياقاتها المختلفة عبر النصوص الأدبية والفلسفية والعلمية والثقافية بشكل عام. بمعنى هي عملية تفاعل بين فعلٍ كتابي جاذب ورد فعل قرائي لا يقل جاذبية عنه. وهذا يقع في باب المهارة الشخصية في استقطاب الكتاب ونوعيته، من دون تحديد المؤلف ومنهجيته الفنية. ولكن عندما يتحول الكتاب الواحد؛ بالمؤلف الواحد؛ إلى مجموعة مؤلفين، ويتحول الى مجلة ضامنة لصلتها مع الآخر- القارئ، بأسماء متعددة في انتماءاتها الفكرية والمنهجية والبحثية والثقافية وحتى السياسية، سيكون من الواضح أن مثل هذه “التشظية” الفكرية مطلوبة لقارئ مجهول ينتشر في أرجاء البلاد العربية، من دون تحديد هويته على الأرجح، غير أن مهمة المجلة الرصينة؛ (ومثالنا “الجديد” عبر مشوارها السباعي) هي وضْع هويته أمام اختبارات ثقافية وفكرية منفتحة على الآخَر، غير موارِبة. وبما أن الصبغة العامة لـ”الجديد” ليست سياسية، بل فكرية عامة، فإنه من المتوقع أن تضع القارئ المتطرف في موقع التحييد في الأقل. أو تزيد من مساحة وعيه الثقافي والفكري في تشكيل الصورة الأساسية للثقافة العربية، بمعطياتها الثرية عبر تاريخها الأدبي والعلمي والفني والجمالي. ومن ثم تأطير صورته الشخصية بصياغات أكثر علمية؛ وهذا ملخص مجتزَأ، لبيان العلاقة المباشرة بين الكتابة والقارئ، وهي أزلية وراسخة في تمارين القراءة المتواصلة، بالرغم من تنوع وسائل القراءة والكتابة والتواصل في هذا العصر الإلكتروني الجبار.
ومع أن “الجديد” مرت بمرحلتي القراءة الورقية، ومن ثم المرحلة الإلكترونية ، بسبب جائحة كورونا وتداعياتها الدولية، إلا أنها حافظت على منبريتها القرائية على نطاق عربي واسع في الحالتين. ومع أن تطبيع الذات القرائية في الجانب الإلكتروني، على وفق إنتاج العصر الثقافي الجديد، القائم على الفعل الواقعي الذي تمكن من أن يحيل مفردات الحياة إلى لمسة أزرار وقراءة ضوئية، فإن القارئ شهد تحولات أساسية في تتبع هذا الأثر العلمي المنجز، الذي ساعد الثقافة بشكلها العام، من أن تكون حاضرة في ميادين الحياة الاجتماعية، وفي الوعي الداخلي للإنسان العربي. أي خلق موازنة طبيعية بين ماضي القراءة وحاضرها المتطور في تقنياته الفذّة.
ليس محاباة لـ”الجديد” وهي تطوي سنواتها السبع بروح رياضية مثالية في الثقافة العربية الرصينة، بالرغم من اجتياح كورونا لمشروعها الورقي، إلا أنها وقفت منذ أعدادها الأولى على بنود أساسية من الوعي الفكري في مناقشة المشروع الثقافي العربي وفقراته الأساسية، من خلال ملفات وإسهامات وافية لطليعة فكرية وأدبية من الأسماء العربية المكرسة، فاستقدمت لصفحاتها وملفاتها الكثير منها. غذّتها بالجديد والمبتكر الأدبي والفني والنقدي، لا بسبب تلك الأسماء وحدها، إنما للطروحات السردية والبحثية والنقدية التي رافقت تلك التجارب الإسمية، وهو ما كانت الجديد تحتاج إليه، لتكون المنبر العالي الذي يرنو إليه محبو الكلمة ودعاتها من مفكرين وباحثين وفنانين وشعراء وسرديين. لهذا نجد؛ أنه وخلال فترة قصيرة جداً، تمكنت المجلة من أن تستقطب الكثير من أدباء ومثقفي الوطن العربي. في تجربة صحفية ناجحة أثارت الكثير من أسئلة الفضول الطبيعي في سؤال مزدوج ومشترك هو: كيف نجحت مجلة جديدة أن تكون نافذة ثقافية وفكرية في وقت قصير؟
وما هي أسباب تلك النجاحات السريعة؟
مثل هذه التساؤلات ممكنة وطبيعية في أجواء ثقافية تميل إلى الشك عادةً، ربما يكون من الأفضل أن تجيبها كتيبة المحررين في المجلة، فهم الأقدر على استجلاء مكونات طبيعة العمل اليومي في شهريات “الجديد”، لكن من الممكن أن نضع مؤشرات واضحة على طبيعة النجاحات التي نلمسها بين عدد وآخر في مطبوع ثقافي، تم إنجازه بالرغم من الظروف السياسية العربية الشائكة، والتنوع الظاهر في مطبوعات أخرى تصدر هنا وهناك، وعندما نعرف أيضاً، أن الصحف والمواقع والمجلات الإلكترونية الشائعة، التي حاولت أن تملأ فراغات غياب مجلات ومطبوعات نوعية، كانت وما زالت تثير الزوابع والتوابع في مشروعات عشوائية، ليست ذات الهم الثقافي المشترك، سنتعرف إلى جديّة “الجديد” في مغامراتها الثقافية التي انطلقت، لإثراء الجانب المعرفي للقارئ – عدا الانضباط الشهري في صدورها – عبر الملفات الشهرية الناضجة في تنوعها وتوجّهاتها الفكرية السليمة، في محاولة تغطية الساحة الأدبية والفنية والبحثية في هذه المشروعات الواسعة ، وتوزعها على البلاد العربية في جغرافية مفتوحة، لا أسلاك شائكة تحيط بها، ولا مصدّات رقابية تعوق إيصال الأفكار على اختلاف رؤاها ومعانيها واستهدافاتها للأفكار الغريبة والمضادة للنمو الثقافي العربي. وعلى هذا الأساس؛ برأينا؛ فإن سبع سنوات رسخت فيها الجديد مشروعاتها العربية في مناقشة ثقافة اليوم، وإرساء مقترحات نوعية وإبداعية لثقافة الغد، التي وقّرها علم الإلكترونيات وغطاءاته الجوهرية في تمكين وتفعيل ثقافة ما بعد الحداثة في تجلياتها المتواصلة.