ذات حبٍّ.. ووعد
ما جمعني بها هو كتاب كنا نحمل كلانا نُسخةً منه، وما قذفنا إلى المكان ذاته وحدة الحال والمصادفة… “ربّ صِدفة خير من ألف ميعاد”. كم بغِضت هذا المثل الذي كنت أظنّ أنّه يمجّد تغييب الإرادة الإنسانية، ويقصي المرء عن فعل الاختيار. لطالما كنت أردّد أن لا مكان للمصادفات؛ الإنسان هو من يصنع الظروف. غير أنّي بتُّ أهوى هذه المقولة، وأمجّد تلك المصادفة التي وُلدت في ظروف مرعبة، لتولّد أجمل مسافة تلتقي فيها نظراتنا الخفيّة والخفِرة.
الظروف صنعت قصة حبي المضمَر، وبدأت بتحويلي. أخشى أن أعترف بأنها بدأت بصنعي، أو بعثي في ولادة مغايرة… في تلك المسافة شيّدنا ملعب نظراتنا. كانت ترفع رأسها عن كتابها، تريح عنقها من الانحناء، تجول عيناها بين الرؤوس لتستقرّ برهةً على جسدي المتكوّم بين الأجساد الممدّدة قربي. أظنها كانت تريد أن تتبيّن عنوان الكتاب المخبوء في حضني، وضوء المصباح الكهربائي الصغير فوقه ينير درب الكلمات فيه. أما أنا، فمنذ الليلة الأولى عرفت أنها تحمل الكتاب نفسه في نسخة مماثلة.
كانت كلّما استقرّت نظراتها على عنقي، أشعر بحرارتها. كيف؟ لست أدري. فأتململ، وأرفع رأسي عن الكتاب، من غير الالتفات نحوها؛ فتبادر إلى إبعادها من جديد لتعود إلى كتابها تضيئه شمعة مرتفعة على حجر بجانبها يشبه الطاولة. راقتني تلك اللعبة، وأدخلت إلى قلبي أنسًا لطالما افتقدته، وأنا المغترب وسط كل هذه الجموع المستوحشة المضطربة. أجد في هذا التماهي الحركي سلوى تقصي الحركة الجزعة لسكان البناية والبنايات المجاورة.
بدأت المسافة تتقلّص بيننا، وفضاء نظراتنا يضيق ليلةً إثر ليلة. كلّما زعقت صفّارة الإنذار معلنةً بدء القصف، نترك شققنا ونعبر الباب الضيّق لهذا المستودع، ونتكدّس داخله. كنت أتعمّد الاقتراب منها في كل ليلة فشخة، أو لأقُل نقلة وتبديل مكان لجسد ورأسه يكون عن يميني بدلاً من يساري؛ إذ كان مكانها ثابتًا في ركنٍ في آخر المستودع، لا تبدّله. لم يكن الحب من مشاريعي، فلماذا أقترب؟ لست أدري. أهو تعلّقي بشخص وجدته يشبهني مصادفةً، أم هي حاجتي إلى خيط يربطني بهذه الحياة، وهذه الأرض؟
وفي الليلة العشرين التقت نظرتانا وتسمّرتا. لم تحاول أن تشيح بنظرها عني، ولا أن تعيد عنقها إلى وضعية الانحناء السابقة له؛ كما لم أشأ أن أبعد ناظري عن أجمل عينين رأيتهما، يتراقص لهب الشمعة بانعكاس ضوئها فيهما. الكتاب في حضنها مغلق؛ لقد أكملت قراءته كله هذه الليلة. وكتابي يتوسّده دفتر مذكراتي.
“لا أعرف كم استمرّ بوح الأعين في تلك الليلة…”
(الليلة العشرون من مذكرات “حب في الملجأ”).
“منذ تلك الليلة لم أرها… وما عدت أعرف من أمرها شيئًا…”.
(الصفحة الأخيرة من مذكرات “حب في الملجأ”).
أقرأ قصّتي في ذلك الدفتر، وأرى طيفكَ بين الكلمات. أشمّ عطر حبّ مرّ بين الأسطر ولم يرحل، بل تغلغل في الحبر واستقرّ. شاءت الصدفة أن تعشق… لكنّ عشقك للشهادة كان أعظم. اختارتني الحياة أن أكون حبيبتك، واختارك التاريخ كلمة في دفتره. لا تعرف عني شيئًا… أنا من ينقّب في الذاكرة ويبحث عن أوراق مبعثرة لأدوّن تفاصيل أُهملت في رواية الشقاء والصمود؛ إنما أعرف تمامًا أنك ترعى المجد على حدود الشمس.