تجديد السؤال
لا تنفصل السيرة الذاتية للكاتب عن فعل الكتابة، بل ليست الكتابة إلا سيرة ذاتية، ولأن الكتابة سيرة ذاتية فإنها أحوال الذات في وعيها بالعالم. إنني وأنا أتناول تجربتي مع مجلة “الجديد” فإني أجعل من ذاتي موضوع تأمل، وهذا يتطلب انفصالاً بين ذاتي وما فاض عنها، بيني والأثر الذي أصبح مستقلاً عني. هذه الثنائية محفوفة بخطر العجز عن التحرر من وحدة الذات والأثر. فالوعي بالأثر الذي فاض عن الذات يظل خاضعاً للذات نفسها التي فاضت. ولهذا يبقى الحديث عن السيرة الذاتية للذات الكاتبة حديثاً ذاتياً مهما حاولنا أن نتسلح بالحس الموضوعي.
ها أنا أنظر إلى تجربتي المستمرة مع” “الجديد” على إنها إحدى الصوى الدالة على الطريق الذي قطعه قلمي الفلسفي ومازال.
كنت قبل خروجي من دمشق في سنة 2013 قد بدأت بكتابة كتابي “أنطولوجيا الذات” ولكني لم أنته من كتابته، فقد غادرتها وأنا مهموم بإنهاء هذا الكتاب الذي ظهر في عام 2015 لماذا أذكر هذا؟ لأنه يشكل مرحلة وعي بعد الثورة السورية ونوعاً من الفلسفة التي بدأتها مع كتاب “الأنا”.
وفي عام 2015 ظهرت مجلة “الجديد” التي كان لي شرف الكتابة فيها. فلقد فتحت لي مجلة “الجديد” صدرها لأعزز هذه المرحلة من تفلسفي بجملة من المفاهيم التي تحولت إلى مقالات – أطاريح.
أن يكون للكاتب مجلة يرى فيها المنبر الذي يطل به على القارئ بهمومه وقلقه وزوايا رؤيته التي تندرج جميعها في مشروعه الفلسفي النظري الذي ينمو ويتطور وفق مبدأ القطيعة والاستمرار فإنه كمن يسكن بيته.
وما كان يمكن أن ترى الصوة الفلسفية الجديدة النور على النحو الذي تم إلا عبر هذه المجلة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي الثقافية. ولهذا ليس غريباً أن نشرت في “الجديد” بوعيي الفلسفي بالذات دفاعاً عن ضرورة حضور الذات، بل لأعلن ولادة الذات مع تفجر الربيع العربي. إن إعلان ولادة الذات شكّل نقيضاً لفكرة موت الذات التي حلا للبعض أن يقلد الوعي الغربي فيها، ففي الوقت الذي أعلن فيه الغربي موت الذات أعلنا ولادة الذات. هذه الذات التي تأففت من الوجود المفروض، من الوجود الزائف، تأففت من الخنوع الذي حاول الطغاة من كل أنواع الطغاة أن يجعلوه نمط حياة.
إن الذات التي عرضتها في “الجديد” هي الأنا التي تحولت إلى فاعل وقد خرجت من الكهف لتكشف عن الممكن ولتقيم العلاقة بين الحرية والإمكان. مع “الجديد” أردت أن أجعل من العلاقة بين الفلسفة والناس علاقة حميمة فأعدت الاعتبار لمفهوم الناس والخطاب الذي يجعل من هموم الناس هموماً فلسفية عندما يرفعها إلى مستوى النص المفهوم. بل إن مجلة “الجديد” أعلنت هوية جديدة للكتّاب في علاقته بالناس، لأنها سمحت لي ولغيري من المهمومين بالحرية أن ينظروا إلى التاريخ من زاوية المثقف الكاتب وليس من زاوية الأكاديمي الكسلان. وبهذا المعنى أنا لا أقول أن “الجديد” قد صنعت المثقف بل وفّرت للمثقف أن يعيّن ذاته بوصفه يفكر بالهم الكلّي، وبهذا المعنى يعلن الانتماء للناس. مع “الجديد” واستمراراً للهم الفلسفي نشرت أحد أهم مقالاتي التي أعتقد أنها أسست لقطيعتي مع القول الماضي في العقل، مع ماهية العقل، متجاوزاً ذلك القيل العادي من جهة والتحديد الميتافيزيقي للعقل، من جهة ثانية. وربطت العقل بتعييناته دون أي حكم قيمة، هذا بارتباط بمفهوم الإنسان، لأن الذات المتعينة بالإنسان الفاعل الحر هي فقط الذات التي يحق لنا أن نطلق عليها الإنسان لأن ولادة الذات مستحيلة دون ولادة الإنسان.
في “الجديد” كسيرة ذاتية لي ولغيري صار للنقد معنى، أو قل اغتنى النقد بالمعاني لأنها صارت المنبر النقدي لي ولغيري، النقد بوصفه معرفة وليس لغواً، ولهذا فإن روح النقد الذي وجدت نفسي فيه قد عيّنته في “الجديد” ضد ثقافة الأجوبة ضد الثقافة الراكدة ضد ثقافة الوعي الأصولي وأيديولوجيا القمع وحراس القيم العتيقة. وهذا كله تأسيساً على السؤال الأهم في النقد حين طرحنا على صفحات “الجديد”: ما السؤال مرة أخرى على أنفسنا. فـ”الجديد” أسئلة جديدة ولهذا عدنا للسؤال مرة أخرى لنمتحنه في “الجديد”، حتى ليمكن القول إنه دون نقد السؤال لا نعرف ما السؤال، فجعلنا من السؤال نفسه موضوعاً للتأمل والنقد، أليست الإبستولوجيا نقد المعرفة. ولما كان كل سؤال يتجه لفض الماهيّة وناتج هذا عن قلق وجودي فإن الوعي الكسلان والمتخلف هو الوعي الذي لا ينطوي على قدرة التساؤل، وهذا يتطلب التحرر من السؤال الزائف الذي لا ينطوي إلا على صورة السؤال. لقد وفرت “الجديد” لي فرصة لإعادة الاعتبار للدهشة بوصفها منبع التساؤل لأن التساؤل سلب، ليس هروباً من اليقين بل امتحاناً لليقين.
لا يمكنني أبداً وأنا أكتب عن سيرتي في “الجديد” إلا أن أتعرض للفكرة التي وجدت نفسي قلقاً بشأنها ألا وهي العلاقة بين الإمكانية والواقع هذه العلاقة التي أشكلت وتشكل على الكثيرين ودونها لا يمكن أن نحقق وعياً تاريخياً صحيحاً بالسيرورة العقلية والعملية، وبالتالي أن أعيد للإمكانية حظها من الوجود بعد أن دمّرها الوهم بوصفها واقعاً لم يتحقق، ودون هذا الوعي بإمكانية لا يمكن للإرادة نفسها أن تصبح ذات معنى ولأن “الجديد” طرحت سؤال العقلانية واللاعقلانية دائما في المعرفة والنقد والسلوك فإن تأسيس العقلانية على العلاقة يبيّن الإمكانية والواقع استعادة فلسفة الأمل الحقيقة ضد الإمكانيات الزائفة التي لا تولّد إلا المآسي لأنها أوهام.
إن سيرتي الذاتية في “الجديد” بوصفها سيرة الكتابة كما قلت لا تنفصل عن امتحان الوعي القديم لإقامة القطيعة كما أشرت. ولهذا وبارتباط بفلسفة الإمكانية والواقع قمنا بالكشف عن الوعي التاريخي الزائف والكتابة التاريخية المرتبطة بهذا الوعي التاريخي الزائف، كي نحرّر الوعي التاريخي من الأسطورة ونعيد للتاريخ معقوليته الغائبة، ونحرره من الوعي الأيديولوجي. والمتأمّل في تجربة “الجديد” سيجد نفسه أمام هذا المنبر العميق الذي تحرر من الأيديولوجيا كوعي زائف وكيف للفكر وللأدب وللفلسفة ولكل صنوف الإبداع أن تزدهر دون التحرر من الأيديولوجيا.
أجل في “الجديد” تحلقنا حول مجلة تطرح على نحو عميق التحرر من المداخل الأيديولوجية في النظر إلى الأدب والفكر والنقد. والتحرر هذا هو تحرير الإبداع من لوثة الانحياز المرتبط بالأوهام الأيديولوجية.
فتحقيق مبدأ وحدة الهم الحقيقي والإبداع ظهر جلياً في الكتابة التي سكنت “الجديد”.
وبعد: إن التاريخ يشهد على أهمية التحلق حول مجلة بوصفها مشروعاً، تطل منه حرية الوجود الساعي لتحقيق ماهيته.