هَداليـشْ
هي كالعاصفة المفاجئة في نوبات العجَاج الذي يدهمنا على حين غِرَّة، لم أشاهدها ماشية كما يفعل خلق الله في قريتنا، بل تندفع بأقصى سرعة تملكها عجوزٌ مثلها، عيناها ضيقتان كأنَّهما جرحٌ غائرٌ في وجهها المتغضِّن، وأنفها الأقْنَى الذي ينوء بحمل نظَّارتها السَّميكة، الذي أتذكَّره أنَّها المرأة الوحيدة في قريتنا التي تضع نظَّارة، هذا الأنف يغطِّي على أيِّ ملمحٍ آخرَ لأنثى، هي هَدَالِيش أبوحيَّة، المرأة التي هبطت من السَّماء علينا، هكذا كان أهلنا يخبروننا عنها، عندما نسأل عن أهلها، وأقاربها، وحتى عن سبب تسميتها بهذا الاسم الغريب، تعبر الطَّريق التُّرابي الذي يحاذي بيتنا من جهة الشَّرق، تتوقف للحظات، كأنَّها ترصد شيئا ما، ثم تندفع كدُوَّامة هوائية، إلى أنْ تخفيَها عن أنظارنا قُبَّةٌ من الطِّين بجانبها حظيرة صغيرة، هذا هو ما يسمَّى البيت الذي تسكنه مُذ هبطت علينا، لكن الأمر الذي أرَّقني سنين عديدة، هو لماذا تسارع أمهاتنا إلى إخفائنا من طريقها، وإغلاق الأبواب بوجهها، حتى الخراف التي نسمِّنها؛ لنبيعَها وقت الحاجة، هي الأخرى تسوقها أخواتنا إلى الحظيرة، ويضعن برميلا حديديا عاليا؛ ليكون حائلا بينها وبين الخروج، لم أستطع رغم كلِّ أساليب الابتزاز والتحايل أن أنال ولو كلمة عنها من أمِّي، فقد كانت أعني أمِّي امرأة كَتُومًا، لكنَّ جدَّتي تبرَّعت بنشر غسيل هَدالِيش، مقابل القليل من الخِدمات من مثل إحضار “الغْرَيْبة” وهي الحلوى التي تحبُّها، وسرقة بعض السَّجائر من علبة دخان أبي، همستْ لي أنَّ هداليش جِنِيَّةٌ تلبَّست صورة هذه المرأة التي تراها، يؤكِّد بعضُ المارَّة قرب قُبَّتهم أنَّهم يسمعون أصوات غناءٍ وأهازيجَ ليلا، وعواءً كأنَّه لذئابٍ ليلة نصف الشَّهر واستدارة القمر، لم تتزوج، تعيش مع أخيها الشَّيخ – هكذا قالت – محمد أبوحيَّة، وعندما ضحكتُ من هذه الكُنية، وشوشتني بأنَّه يعيش مع ثعابينه الكثيرة في بيتٍ واحدٍ، ويكلِّمها أحيانا، يضحكُ معها وكأنَّه يتحدَّث إلى أفراد عائلته، وينام في عُشٍّ من الثَّعابين، هداليش كما تقول جدَّتي لها عينٌ حارَّة، لم أفهم! ماذا يعني حارَّة؟ هل عيوننا باردة؟! مسحت على شعري برفق، وأخبرتني أنَّ عينها تشبه الرَّصاصة من يد “السُّكْمانِي” وفهمتُ لاحقا أنَّها تعني القنَّاص، وسردت عليَّ كشفا طويلا من حوادثها، فهي من أصابت بعينها الحارَّة ابن عواد جارنا، عندما حملته في أسبوعه الأول، قائلة لأمِّه يا خايبة من أين أتيتِ بعيون ابنك الزَّرقاء، وقرصتها من فخذها بقوَّة، ثمَّ أعادت سؤالها لها؛ لتكتشفَ الأمُّ بعد ذلك بشهرين أنَّ ابنها أعمى! وهداليش هي من حضرت عرس العبدالله؛ فعطفوا عليها، وحمَّلوها الكثير من اللَّحم والرُّز، لكنها اندفعت إلى “الكوشة” وقالت للعروس لقد صرتِ جميلةً يا بنت سعاد، فطلقها زوجها قبل مرور شهر العسل، جدَّتي تؤكِّد أنَّها السَّبب في موت بغل أبي سعيد الذي يفلحُ عليه أرض القطن، ويجرُّ العربة التي “يترزق” الله عليها بعد انتهاء موسم الزِّراعة، وهداليش عندما مرَّت من أمام الغرفة الطِّينية التي عمَّرناها؛ لتكونَ بيتا لأخيك الكبير بعد زواجه، تداعت جدرانها وسقفها قبل أنْ يمرَّ عليها يومٌ وليلةٌ، امتلكني الرُّعب، كانت دموعي تسيلُ بصمتٍ، كيف تكون العين رصاصة قنَّاص؟ يبدو أنَّ جدتي لاحظت ذلك؛ فتوقفت عن سردها المُرْعِبِ هذا، واصطحبتني إلى بيت جارنا الذي يشغل منصبا “كبيرا” كما وصفته، لقد أصبح سائقا للسَّيَّارة الخاصَّة برئيس المكتب الثاني بالمدينة، وفي كل جمعة يأتي لزيارة والدته صديقة جدَّتي، بسيارته السَّوداء ذات السَّتائر المعتمة، وللحق كان يحمل معه سوق المدينة، وهذا ما تردده أمه، وهي تشير إلى الخضار والفواكه والهدايا.. شاهدتُهُ عن بُعدٍ يرتدي ملابس مدنيَّة أنيقة، ويبدو أنَّه يسكبُ عليها عطرا نفَّاذا، لكنَّه يعجبني، للدرجة التي تمنّيتُ أن أصبحَ سائقًا عندما أكبر، وفي الحقيقة إبراهيم هذا شابٌ ذكيٌّ، يدرك بفطرته حركة اتجاه الرِّياح؛ فيغتنمها! وكثيرا ما يحثُّ أبناء عمومته على الالتحاق بالجهاز كما يسمِّيه، ولا يطلب منهم سوى إتقان القراءة والكتابة، ويركِّز على جودة الخطِّ، وحسب! وسيسعى في تعيينهم جميعا، لكن في الوقت المناسب، كما وعدهم.
في زيارته الأخيرة لوالدته، استغرب أبناء القرية إصراره على أن يأخذ هداليش إلى المدينة بسيَّارة الحكومة السَّوداء، بدا الأمر مضحكا، لكنه لم يأبه لسخريتهم، نظرةٌ منه جعلتهم يبتلعون ألسنتهم، في الطَّريق قال لهداليش بحزمٍ، اسمعي يا امرأة، تكونين جِنيَّة أم إنسيَّة، لا أكترث لذلك، أنا يوميا أتعاملُ مع مَنْ هم ألعنُ من الجِنِّ، ويعلِّمون إبليس أصول الشُّغل، ستفعلين ما أطلبه بدقَّة تامَّة، وتابع طريقه حتى وصل إلى بوَّابة سوداء كبيرة لبيت كأنَّه مزرعة، تتوسطها “فيلا” جميلة مسوَّرة بالأشجار الملتفة، أمامها مَحْرَسٌ خشبيٌّ له نوافذ زجاجيَّة صغيرة، أوقف إبراهيم سيارته في زاوية غير مرئية من الحرس، وعند تمام الثامنة كانت البوَّابة تُفتَحُ، يدلف منها رجلٌ متوسط العمر، النظَّارة السَّوداء تخفي نصف وجهه، وبالرغم من البزَّة الزَّرقاء الثَّقيلة، بدت أناقته قروية قليلا، وربطةُ عنقه نافرةٌ، حتى إنَّه لم يستطعْ إخفاء كرشه الناتئة، مما جعل سترته تبدو قصيرةً، في هذه اللحظة تماما، قال لهداليش التي افترشتِ المقعدَ الخلفيَّ للسَّيارة، هذا هو انظري إليه، تمعَّني في هيئته جيدا، يا عجوز الجِنِّ! شهقتْ قائلةً، ما هذا العزُّ؟ جوخ، وجخ! وبدا كأنَّها تُصَفِّرُ! وأردفت، وجهه المنتفخُ وجه ابن نعمةٍ، الحسرة علينا وعلى عيشتنا، عيشة الكلاب!
انطلقت السَّيارةُ السَّوداء قافلةً تنهبُ الطَّريق نهبا؛ لتعيدها لقُبَّتها وحظيرتها، وقبل مغادرتها السَّيارة رمى إبراهيم عليها لفافة من الليرات السُّورية، تلقفتها بمهارة، دون أنْ تبدي أيَّ امتنانٍ له.
بلَّغَ عامل السنترال جميع الضُّباط وحتى المُخبرين بأنَّ المعلم لا يريد أن يرى أحدا منهم لمدة غير محدَّدة، الاستثناء الوحيد هو السَّائق الخاص وكاتم الأسرار إبراهيم، كان المنظر مثيرا للرُّعب، مؤسفٌ حالك، يا سيدي! هذا ما قاله إبراهيم بأسى مُبالغٍ فيه! كان فمه مائلا بل نصف وجهه الأيسر كاملا، لعابه يسيل دون أن يدري، يخفيه بمنديل قماشي، يضع أمامه وصفاتٍ طبيَّةً بألوان وأسماء مختلفة، يهمس بحزن، ماذا نفعل يا إبراهيم ؟ الأطباء يقولون إنَّه شللٌ في العصب السَّابع للوجه، لا يملكون علاجا ناجعا له، لم تحسِّن في حالتي علاجاتُهم ولا أكاذيبُهم، ما العمل؟
بدا إبراهيم متردِّدا، ولكنْ مع إصرار “المعلم” كما يسمِّيه دائما، أخبره بأنَّه يمتلك الوصفة التي تخلِّصه من آلامه وسوء منقلبه
• بسرعة، أنت تعرف أنَّك موضع ثقتي، ومخزن أسراري!
• نعم، ولكن أخشى ألا يكون الأمر مناسبا لمقامكم، سيدي!
• لا تلعب بأعصابي، هات ما عندك.
• في قريتنا سيِّدي رجلٌ مبروكٌ، يعالج معظم مرضانا، وبخاصة الفم المائل، وتغير الخلقة “وتمتم مستعيذا بالله من الشَّيطان” واقترب من أذنه يوشوشه بشيء ما!
تردَّد المعلم قليلا، لكنه نهض مسرعا، يخفي وجهه بمنديله، وانطلقت السَّيارة السَّوداء من الباب الخلفي للمبنى، دون أن تمرَّ بالمحارس الكثيرة التي تسدُّ الشَّارع، وانسلت دون جلبة إلى قُبَّة الشَّيخ محمد أبوحيَّة، الذي دهش من هذين الضَّيفين الكبيرين، اعتذر عن سوء ترتيب البيت، وفقره لما يمكن أن يكون مجلسا مناسبا، وأعاد ثعابينه إلى سلَّة كبيرة من القشِّ، لم يكترثا بما يقول، همس له إبراهيم أن يباشر بالعلاج فوقتهما محدودٌ، تبادلا النَّظرات، طمأنه أنَّه في أمانٍ، وهو يضمنُ له ذلك عند المعلِّم، اقترب الشَّيخ من مريضه، نظر إليه جيدا، تفحَّصه بدقَّة، عضَّ على شفته بأسى ظاهر، مما زاد في رعب المعلم الذي هزَّ رأسه مشيرا له بالبدء بالعلاج، خلع الشَّيخ حذاءه المهترئ نفض عنه الغبار، ثم هوى به على فمه المائل، وأخرى قريبا من عينه وخَدِّه الأيسر، أعاد ذلك عدَّة مرَّات، مما ترك أثرا على مقاس الحذاء، وكأنه خَتْمٌ حكوميٌ طُبِع َعلى وجهِ المعلم، يشبه تلك الأختام التي تعطى لنا تثبت حسن سلوكنا، أو نظافة سجلنا العدلي، بينما كانت هداليش التي تقف خلف أخيها، تشهد هذه الواقعة باندهاشٍ، وربما بِرَضىً عن قدراتها التي لا تُخطِئ، وسهام عينها الحارَّة التي تخترم الهدف بدقَّة مرعبة، ولو كان الهدف رئيس الجهاز نفسه أو أكبر منه، بينما كان الشَّيخ يطلب إليه بصيغة آمرة، أن يعود بعد أسبوع؛ للمراجعة.
طوال طريق العودة للمدينة، كان إبراهيم يسترِقُ النَّظر إلى وجه معلمه الذي بدا يعتدل قليلا، رغم تلك الطبعة النافرة على جانبي فمه، وقد بدت مُحْمرَّة قليلا، ونصف ابتسامة تعلو محياه، كأنَّه يقول: في حذاء محمد أبي حيَّة سِحرٌ، وإكسيرُ حياة للأفواه المائلة، بينما كانت السَّيارةُ السَّوداءُ مُسْدلةُ السَّتائرِما تزالُ تنهبُ الطَّريقَ، وقليلٌ من لُعَابِ صاحبِ السَّعادةِ يسيلُ دونَ أن يخفيَهُ منديلُهُ الحريريُّ!