الجناية على رواية الحرب
تعددت المصطلحات التي أطلقت على الرواية التي ظهرت في سوريا بعد الانفجار الكبير الذي حدث في آذار/ مارس 2011 فمن مصطلح “رواية الجيل الجديد” إلى مصطلح “رواية الحرب” مرورا بمصطلح “رواية المنفى”. إن تعدد هذه المصطلحات وعدم استقرارها يدل على صعوبة تحديد هوية مائزة لهذه التجارب بسبب التداخل الزمني الحاصل بين أجيال كاتباتها/كتابها من جهة، وغياب السمات الخاصة التي تميز هذه الأعمال سواء على مستوى بنية السرد وأساليبه، أو على صعيد المنظور السردي والجمالي على الرغم من الكم الكبير الذي يصدر كل عام من هذه الروايات.
لذلك كانت هذه المصطلحات التي أطلقت عليها ذات دلالة زمنية أو مكانية. اتسمت أغلب الكتابات التي صدرت عن هذه التجارب بأنها كتابات انطباعية من جهة، ومن جهة ثانية كانت ذات طابع تحيزي جعلها تتجاهل وتختصر هذه التجارب في مجموعة من الأسماء والتجارب، بينما تجاهلت العشرات من الأعمال التي صدرت وتصدر في المنافي السورية، الأمر الذي استدعى الوقوف عند الظاهرة ومحاولة التعرف إلى أسبابها ودلالاتها في مرحلة كان يجدر بالنقد أن يحتفي بهذه الظاهرة الجديدة في تاريخ الرواية السورية وبالتجارب الجديدة التي تحاول تمثل المأساة السورية بأبعادها السياسية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، لاسيما بعد تجربة الشتات الواسع التي أضافت للقضية السورية بعدا آخر سواء على مستوى العلاقة مع المكان أو مع الآخر والذات، إضافة إلى ما انطوت عليه من مغامرة خطيرة كان يصعب تخيل نهايتها الدرامية والمجهولة في زوارق الموت وغابات الأراضي الأوروبية التي لم تكن مرحبة بهم في الغالب.
إن تجاهل النقد سوريّا وعربيّا للرواية السورية للظاهرة الروائية الجديدة التي حدثت بعد الانفجار الشعبي الكبير يعود لسببين اثنين، أولهما يتمثل في تباين المواقف من هذه الانتفاضة لأسباب سياسية وما تزال هذه القضية موضع سجال ليس موضوع هذه المقاربة، في حين أن السبب الثاني يتمثل في انشغال النقد بالأسماء المكرسة وابتعاده عن تناول الموضوعات والقضايا الإشكالية، ولذلك فإن الكتابة عن هذه الرواية تعد مغامرة من قبل أصحابها في واقع ثقافي عربي محكوم باعتبارات غير أدبية في الغالب، إضافة إلى تباين القراءات السورية لهذا النتاج الذي كما أشرنا ما زال يجري اختزاله في مجموعة من الأسماء والتجارب على الرغم من المغالطات الفكرية والسياسية التي تقع فيها هذه القراءات في مقارباتها لموضوع هذه الرواية وشواغلها السياسية والاجتماعية والفكرية والوجودية والجمالية.
دلالات الانفجار الروائي السوري
كان لا بد للواقع السوري الذي نشأ بعد الانفجار الشعبي الكبير في عام 2011 أن ينتج ظواهره الثقافية الجديدة خاصة بعد موجات اللجوء السورية الكبيرة إلى بلدان العالم الغربي وتركيا على وجه الخصوص. لقد كان التحرر من السجن الكبير الذي كانت تعيش فيه هذه الثقافة تحت إرهاب سلطة القمع عاملا حاسما في بروز هذه الظواهر التي تجلت بصورة عامة في الكتابة الأدبية من شعر ورواية ودراسات حتى بات من الصعب متابعة هذا الكم من الكتابات والوقوف على قيمته الفكرية والجمالية لأسباب موضوعية لعل أهمها صعوبة الوصول إلى تلك الأعمال نتيجة حالة الشتات التي يعيشها السوريون في بلدان العالم المختلفة.
تأتي الرواية الجديدة من حيث غزارة إنتاجها والاهتمام الإعلامي بها في طليعة هذه الظواهر التي باتت تحتاج إلى توقف وتأمل في أسباب نشوء هذه الظاهرة ودلالاتها لمعرفة خلفياتها وما تنطوي عليه من أبعاد دلالية، سواء على المستوى الذاتي الخاص لكتابها/كاتباتها، أو الموضوعي العام المرتبط بالواقع الجديد الذي نشأت فيه هذه الأعمال الروائية، وكان عاملا مهما في تعزيزها. لقد أتاح تحرر السوريين من السجن الكبير الذي كانوا يعيشون فيه فرصة كبيرة وفضاء واسعا للقول والتعبير عن تجربة استثنائية خبروها، تضج بالآلام والموت والتشرد والتنكيل، ما شكل خزينا كبيرا لهذه الكتابات الروائية التي حاولت مقاربة هذا الواقع من خلال طيف مختلف من وجهات النظر وطرائق التعبير وأساليب الكتابة السردية المختلفة، في محاولة لتمثل هذا التاريخ الدامي وتمثيله سرديا للتعريف بالمحنة التي يعيشها السوريون وما زالوا في ظل استبداد لم يدخر وسيلة إرهاب وقتل لهزيمة هذا الشعب.
لقد كان انفجار المكبوت السردي عند الجيل الجديد من الكاتبات والكتاب السوريين متزامنا مع انفجار الواقع وتشظيه ما شكل خزانا ضخما من حكايات الموت والخوف والتشرد والجوع والرعب، حاولت التجارب الروائية الجديدة أن تتمثّله جماليا، خاصة بعد أن وفّرت تجربة اللجوء لهذه التجارب مساحة واسعة للكتابة والبوح والتعبير من جهة، ومادة غنية للتمثل والتأمل على مستوى العلاقة مع الذات والمكان والآخر وموضوع الهوية. لقد سعى هؤلاء الكتاب/الكاتبات من خلال تجاربهم إلى إثبات حضور الذات ونيل الاعتراف بهم في مجتمعات غريبة، ما زالت العلاقة فيها بين اللاجئ وهذه المجتمعات ملتبسة على المستويين الثقافي والاجتماعي.
لقد كان للاحتفاء الذي قوبلت هذه التجارب في البداية دوره الإيجابي في تحفيز الكاتبات/الكتاب على الكتابة، لكنه من جانب آخر خلق حالة من المنافسة القوية بين هؤلاء الكتاب والكاتبات الذين انشغلوا بالبحث عن المنفعة الشخصية مستغلين جهل المؤسسات الثقافية الغربية بحقيقة هذه التجارب وقيمتها الجمالية والإبداعية. كذلك كان لتورم الأنا عند البعض منهم دوره في تضخم الشعور بالقيمة الإبداعية لتجاربهم، الأمر الذي انعكس سلبا في ما بعد على موقف المؤسسات الثقافية الغربية منهم. لقد عكست هذه الظاهرة الواقع السوري بأمراضه وتناقضاته التي جاء هؤلاء الكاتبات والكتاب يحملونها معهم إلى عالم اللجوء ما جعل ظاهرة الإلغاء والتهميش والتمركز حول الذات أو وفقا لاعتبارات المصلحة أو التوجه السياسي لهذه المجموعة تحكم علاقات هؤلاء الكتاب/الكاتبات.
إن بروز ظاهرة الكتابة الروائية عند الجيل الجديد بهذه الغزارة غير المعهودة يعكس الرغبة الحقيقة عند هذا الجيل في التعويض عن سنوات طويلة من القهر والحرمان وتكميم الأفواه، وفي تجسيد المعاناة المرعبة التي خبروا فصولها وعاشوا آلامها ورعبها وأهوالها وهو ما يسجل لهذه التجارب الجديدة.
لكن المشكلة التي وقع فيها الكثير من هؤلاء الكاتبات والكتاب هي محاولة قتل الأب وكأن هذا الأب كان المسؤول عن غياب فرص ظهورهم، وليس مؤسسات الثقافة الرسمية التي كان جزء من هؤلاء الآباء يعانون من عسفها ومحاولة تغييبها بسبب انحيازهم إلى انتفاضة الشعب السوري. لكن الجانب الأخطر في هذه المشكلة تجلى في التمركز حول الذات ومحاولة الاستحواذ على المشهد الروائي الجديد باعتبارهم يمثلون التجارب الأكثر تعبيرا عن القضية السورية مستغلين الاهتمام الإنساني بهذه القضية لأجل تكريس حضورهم والاستحواذ على الرعاية والدعم المقدم في هذا السياق.
إن قراءة موضوعية في هذا النتاج الروائي تكشف غزارة واضحة في الكتابة وفي طرائق السرد وأساليبه، وبالتالي لا يمكن اختزال هذه التجربة في مجموعة من الأسماء ما زالت تعمل على تحقيق هذا الهدف حتى أصبح البعض من خارج الثقافة السورية يظن أن الرواية السورية الجديدة أصبحت محصورة في هذا الرهط من الأسماء.
لقد ساهمت عوامل غير موضوعية في تكريس هذه الظاهرة منها ما يتعلق بدور النشر التي روّجت لهذه التجارب، أو بالحضور الإعلامي والعلاقات الخاصة أو التوجهات الأيديولوجية لهذه الجهة الثقافية أو تلك، بينما ظلت التجارب الأخرى والتي تتقدم في بعض نماذجها فنيا وجماليا على التجارب المكرسة في الهامش دون أن تنال حظها من الرعاية والاهتمام. لقد كان من نتائج هذا الواقع أن العلاقة بين أجيال الكتابة باتت شبه مقطوعة وأصبحت الرواية الغربية لاسيما المترجم منها هي الأنموذج الذي تحاول أن تحاكيه هذه التجارب سواء في المنظور السردي أو البنية السردية أو الشخصية الروائية مع تعديلات يمكن أن تطرأ عليها هنا أو هناك وتمكن الإشارة إلى العديد من هذه التجارب التي حاز بعضها على جوائز معروفة. لكن الخطر في هذه القضية أن ثمة محاولات لتكريس تجارب يختلط فيها الحابل بالنابل على مستوى الموقف الفكري والسياسي من القضية السورية لأسباب متعددة، منها الاستفادة من الحضور الخاص الذي استطاع أن يحققه بعض الأسماء على الساحة العربية والعالمية لأسباب غير موضوعية عمل أصحابها على استغلال كل الوسائل التي تحقق لهم هذا الهدف، في حين ما زالوا ينعمون بحرية الحركة والكتابة والحياة في ظل دكتاتورية عاتية. والسؤال الذي لا يريد البعض الإجابة عنه ما الذي يجعل هذه الدكتاتورية تتسامح مع كاتب ما في حين تضطهد الملايين من السوريين وتشردهم في شتى بقاع العالم.
إن هذه المفارقة العجيبة في المشهد الروائي السوري وعند من يقفون وراءها تكشف عن التواطؤ المفضوح الذي يقوم به البعض في ظل غياب التناول النقدي المنهجي والموضوعي لهذه التجارب وما تنطوي عليه من استغلال لبعض قضايا الفساد والقمع في الواقع السوري للترويج لنفسها، بينما هي في الجانب الأكثر أهمية تحاول تزييف هذا الواقع وخلق وقائع تجعل من الصعب معرفة الضحية من الجلاد أو إدراك حقائق هذا الواقع السياسية والإنسانية المروّعة طوال عقود من القهر والظلم والاستعباد. لذلك لم يكن مستغربا في الكثير ممّا كتب عن هذه التجارب أن نجد المشهد الروائي مكرّسا في مجموعة من الأسماء والتجارب، في حين يستحيل على أيّ دارس معرفة أعداد ما ينشر من أعمال روائية سورية كل عام بسبب صعوبة التواصل بين بلدان المنافي التي نعيش فيها. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى رواية السجن السياسي في سوريا، إذ أصبحت محصورة في عدد من الأسماء أو الأعمال التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو تزيد قليلا عند البعض، بينما هناك العشرات من الأعمال التي تتناول هذه التجربة أو تقدم شهاداتها عنها، ويتمتع بعضها على المستوى السردي والفكري بقيمة أكبر بالنسبة إلى بعض هذه الأعمال المكرسة.
إن قراءة هذه الظاهرة بمعزل عن خلفياتها الأيديولوجية والثقافية والشخصية، التي سادت في السنوات العشر الماضية من عمر الانتفاضة غير ممكن، لأنها نتاج حقيقي لهذا الواقع الذي ما زال يحاول حرّاسه يحاولون الحفاظ عليه من خلال المواقع التي يحتلونها في هذه المؤسسة الغربية أو تلك. ولعل استحواذ هذه الأسماء على عمليات الترجمة إلى اللغات الأوروبية ما يدل على حقيقة هذا الواقع القائم على شبكة العلاقات التي تجمع بين هذه الأطراف في الوقت الذي تبذل فيه جهود كبيرة لاستبعاد أسماء وتجارب أخرى لا تتماشى مع توجهاتها ومصالحها. ولأن هذه العلاقات قائمة على اعتبارات غير أدبية فإن ثمة مزاحمة وتنافسا من نوع آخر يجري بين هذه الجماعات ما أثّر على موقف الجهات الثقافية التي كانت تقدم الدعم لها.
إن القراءة النقدية المنهجية والموضوعية للعديد من الأعمال الروائية للبعض من هذه الأسماء المكرسة تكشف عن محاولات كتابها إقحام قضايا المسكوت عنها لاسيما الطائفي منها في بنية العمل السردي رغبة في تجاوز المألوف في هذه الأعمال الروائية من جهة، والترويج لنفسها من خلال إقحام هذه القضايا في سياق البنية السردية للعمل الروائي، حيث بدت جلية عمليات الإقحام التي أفقدت بنية السرد وحدته وجعلته مشتتا، بينما حاولت أعمال أخرى الترويج لتجارب حزبية من خلال إضفاء سمات أيديولوجية واجتماعية مثالية، في الوقت الذي تسكت فيه عن التناقضات الداخلية التي كانت تعيشها هذه الجماعات داخل السجن وخارجه، أو قبل الانتفاضة السورية أو بعدها.
إن هذا الواقع لم يعد يقتصر على بعض الكاتبات والكتاب الروائيين لأنه امتد إلى الكثير من الكتابات الصحافية وشبه النقدية عن هذا المشهد الروائي الجديد. هنا يمكن أن نتوقف عند حالتين تتقاطعان في أكثر من مستوى، تنطوي الحالة الأولى منهما على نوع من الغرور والاعتداد المبالغ فيه بالتجربة الروائية عند هؤلاء الكتاب والكاتبات والأمثلة على ذلك كثيرة، بينما تعكس الحالة الثانية نوعا من الكسل في القراءة والمتابعة ما يدفعهم إلى الاستنجاد بمحرك البحث والقيام بعمليات استنساخ لمقالات سابقة، وإعادة تطوير لما تقوله وتشير إليه من تجارب وأسماء غالبا ما يكون كتّابها من الذين يمارسون الكتابة على أساس اعتبارات خاصة تعكس حالة الشللية التي تتجاوز الجماعة إلى اعتبارات أخرى.
قد يبرر البعض عمليات النقل والاستنساخ بالقول إن هناك صعوبة في الحصول على كل ما يصدر من أعمال روائية وقد تشتت السوريون في كل منفى، لكن الإجابة متوفرة إذ أن محرك البحث الذي يلجأ إليه هؤلاء الكتاب ليمدهم بالمعلومات الخاصة بالمنجز الروائي السوري الجديد يمكن أن ينجدهم بالعشرات أو المئات من الكتب المقرصنة المتاحة للقراءة، والتي غالبا ما نلجأ إليها عندما لا تتوفر لنا فرص الحصول على بعض هذه الأعمال.
الرواية السورية والنقد الموضوعي
إن مشكلة الرواية السورية أنها ما تزال بعيدة عن الاهتمام النقدي الموضوعي والمنهجي الذي يتناول هذه الأعمال من الداخل ودون خلفيات مسبقة أو سعيا لتكريس أبوات وأمهات لهذه التجربة على أسس غير نقدية وغير موضوعية. إن وجود هذا الكم الكبير والمتنوع من الأعمال الروائية التي قدمت رؤى ومقاربات سردية مختلفة توزعت على استدعاء تجارب الحاضر أو الماضي أو المزج بينهما يحتاج إلى جهد نقدي كبير يعيد رسم صورة المشهد الروائي الراهن بعيدا عن الاعتبارات الخاصة والمضللة التي ما زالت تقدم شهادات حسن سلوك لهذا الكاتب أو هذه الكاتبة من قبل البعض الذين أظن أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة أعمال هذا الكاتب أو هذه الكاتبة بل اعتمدوا على ما هو شائع ومكرس من كتابات تروم الترويج قبل أن تفكر في استخدام المعايير النقدية والمنهجية في تناول هذه التجارب، خاصة على مستوى المنظور الذي تقدم من خلاله وقائع هذه الأعمال وأحداثها وشخصياتها.
لقد أصبح الاختزال هو السمة البارزة في هذه الكتابات فعندما يتم الحديث عن رواية الحرب نجد مجموعة محددة من الأسماء وكذلك عندما يتم الحديث عن أدب السجون فإنها تختصر بعدد قليل من الأسماء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في حين هناك العشرات من الأعمال الروائية التي تناولت موضوع السجون في سوريا حاولت أن تتجاوز الطابع التسجيلي وكتابة المذكرات الشخصية على المستوى الفني والسردي. والغريب أن البعض يحاول أن يقدم رواية الحرب والسجون في سوريا للغرب من خلال هذه الأسماء بل ويستميت لترجمتها إلى اللغات الأوروبية باعتبارها تمثل هذا المنجز السوري الذي ما يزال يصعب حصره أو الإحاطة بتجاربه التي لم تتوقف حتى الآن عن الإضافة وتقديم الجديد.
إن الانطلاق من اعتبارات أيديولوجية وسياسية وسواها هو اعتداء على هذا المنجز الروائي الثري والمتجدد لأنه يقدم صورة غير حقيقية لهذا المنجز ما يشكل إساءة إليه طالما أنه يحرمه من تنوعه وغناه وقدرته على الإضافة والتجدد.