الهوس بالسمكة
عرفت يوسف الناصر منذ أكثر من عشر سنوات كصديق فنان وتابعت كيف تحولت لوحاته كثيرا عبر السنين لكن هذه التحولات دارت دائما حول ثلاثة محاور تتكرر في أعماله السخرية المرّة والدفء والوحدة وهي كثيرا ما تكون متلازمة يعلو أحدها على الآخر أو يحتل مساحة أكبر من غيره لكنها موجودة معا.
وأنا أنظر إلى اللوحة التي خلف ظهري، مثلا، والتي تبدو صارمة الجدية عن صديقه آدم الشاعر الذي مات وحيدا، وهي لوحة عن موت صديق، فيها ألم واضح وعناصر وحدة قوية، لكن فيها أيضا سخرية خفيّة، قد تكون سخرية من الموت أو عبث الحياة أو من قصة الولادة والموت كلها. إن آدم نفسه، كما عرفت عنه من يوسف، كان شخصا ساخرا، الأمر واضح إذن، فيوسف كرسام حساس فتح لسخرية آدم المجال لكي تنساب إلى لوحته.
الأشجار على شكل أسماك أو كائنات غريبة على نحو مضحك ترتبط بخيوط خفية إلى وحدته وظلال الماضي السيئة، لكن عناصر السخرية فيها جلية الوضوح وروح الدعابة ظاهرة.
اللوحة التي أمامي لوحة دافئة حميمة وفيها شخص وحيد بألوان نابضة بالحياة ومبهجة للحواس وغنية ومع ذلك فعنصر السخرية موجود أيضا. عندما التقيته أول مرة كان يرسم سلسلة لوحات عن البحر والماء والنهر، مناظر جميلة مستوحاة من أيام الطفولة، أيام صيد السمك واللعب في العراق وطشار الماء الأزرق المخضر يخرج من سطح اللوحة مع خربشات قلم الرصاص. إنها أيام القصص السعيدة الضاجة بالحياة.
كان هناك دائما ظل وضوء في لوحاته، مكان للضوء ومكان للظلمة، لكن اللوحات الأخيرة منذ الحرب تغلب فيها الجانب المظلم.
إن في أعماله أطيافا وأرواحا كثيرة، وهذا الجانب كان موجودا حتى في تلك المناظر الفرحة التي ذكرتها لكنه مخفي تحت السطح.
إن سلسلة أعماله المسماة… أعتقد “مناظر زائلة”، مبنية باللون الوردي والأحمر والأخضر… حيوية ممتعة، وأيضا ذلك الجانب المخفي… الجانب المأساوي و خفق الروح المتوحدة. إنها بالنسبة إليّ تعبر عن الرغبة العارمة في العودة إلى المكان الذي أجبر يوسف على تركه. يبدو بعضها وكأنه إطار نافذة تطل على الماضي.
أعتقد أن سلسلة لوحاته الأخيرة عن الحرب “المطر الأسود” كانت مثل متنفس عاطفي كبير له، إنه يتوقع الكثير من لوحاته لنفسه. إنها لوحات عملاقة مليئة بالألم والوحشة، ولكن مع ذلك أشعر أنه كان يستمتع برسمها، ومع ذلك لم ينس سخريته المرة الخفية التي ليس من الصعب تلمسها على العين المدربة.
أنا غير متعودة على الحديث إلى الكاميرا، أنا متعودة على إلقاء محاضرات، ويبدو أنها أسهل من الحديث إلى هذه الآلة. بين يديه دائما تخطيطات صغيرة ينشرها أحيانا في الصحف، تذكر المرء بسهولة بالتعبيريين الألمان، ورغم أنك تستطيع أن تجد أجزاء منها في اللوحات الكبيرة، إلا أنه، كما قال لي، لا يبدأ الرسم من شيء محدد، يحضر قماشته وألوانه (إن وجدت) ويبدأ دون خطط من أي نوع… إنها عملية تشبه الهمهمة التي تقود إلى أغنية، لكن أي شيء يفعله على سطح اللوحة، خط ، خربشة، أو بقعة لونية هي التقاط لمشاعر وعواطف وانفعالات دفينة، إنه لا يقدر إلا أن يفعل ذلك.
أحب شيئا آخر في لوحاته وهو الطيات والمستويات المتعددة، والتي هي أيضا أشياء وأفكار متعددة. لا يوجد عمل بصبغة واحدة، فكل لوحة تحوي الأشياء جميعا، العواطف القوية والألم والسخرية.
إن يوسف شخص خفيف الظل يسخر بمرارة ولا يمكن أن ينتج كل هذا السواد دون أن يكون لسخريته حيزا ما وبينما هو يغور في رسم هول الحرب فإنه من طرف آخر يسخر من هذه اللعبة الغريبة ومن جنون الإنسان الذي أوجدها.
لكن ذلك لا يعني أنه ينتج لوحات هازلة رغم أنني أضحك أحيانا عندما أرى بعضها مع معرفتي بمقدار جديتها، وأحيانا نضحك معا.
إنه مهووس بشكل السمكة مثلا ويريد أن يضعها في كل شيء، حتى في لوحاته المأساوية (إن صح التعبير)، وأنا كرسامة أعرف أن السمكة شيء رائع للرسم، إنها تحوّل اللوحة المعتمة إلى لوحة خفيفة الظل. طبعا لا توجد في اللوحة توصيفات محددة، لكنه يستعمل السمكة بدل الشجرة أحيانا وبدل القنبلة النازلة من الطائرة، حتى انها لتبدو جميلة.
وأتساءل أحيانا إن كان ذلك نوعا من الحرية أم الوقوع في الفخ .. على أني أميل إلى التفسير الأول رغم أنني أجد السمكة صورة للحرية المكبوتة والملجومة، إن ذلك يشبه بحث يوسف الناصر المستميت عن الحرية.
إن هناك مواضع كثيرة للبحث في أعماله فالرأس الذي يرسمه (تضحك) الاس… اه الرأس …
تقع لوحات يوسف في مكان بين التجريد والتشخيص، أشكال شبحية غير واضحة المعالم، لكنها هيئات أشياء وأشخاص وأرواح من الحاضر ومن الماضي.
الأهل الذين ابتعدوا وكادت ملامحهم تغيب من الذهن، الأماكن والأشياء التي تآكلت صورها في الذاكرة، الأصدقاء الذين قتلوا أو غيبوا أيام النظام السابق، العراقيون المعذبون والأرواح القلقة إنها سفر عراقي وإنساني غني.
مقابلة مصورة لفلم وثائقي عن لوحات يوسف الناصر أجريت مع السيدة جودي بارومان الفنانة والكاتبة والمحاضرة الجامعية في الفن.